29/11/2017 - 21:32

معنى الاعتذار: قراءة قانونيّة في إعلان بلفور

قراءة الإعلان يجب أن تكون قراءة نقديّة للقانون الدوليّ، لا قراءة ضمن القانون الدوليّ؛ إذ إنّ القانون الدوليّ نفسه في تلك المرحلة لم يكن إلّا قانونًا استعماريًّا، وما إعلان بلفور إلّا امتدادًا لهذا القانون الذي سيطر نهاية القرن التاسع عشر، وجسّد موقف الدول الأوروبيّة التي عَدّت ذاتها دولًا ذات سيادة

معنى الاعتذار: قراءة قانونيّة في إعلان بلفور

مناضلو Mau Mau في كينيا، الذين قدّمت لهم بريطانيا اعتذارًا بمقتضى قرار قضائيّ عام 2009

تتضمّن هذه القراءة القانونيّة لإعلان بلفور[1] مناقشة شرعيّته القانونيّة وآثاره، وما يترتّب على بريطانيا من مسؤوليّة واعتذار للشعب الفلسطينيّ. 

موقفان

إذا اطّلعنا على الأدبيّات القانونيّة التي تناولت إعلان بلفور، في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، نجد موقفين بالأساس:

الموقف الأوّل أنّ الإعلان لا يملك أيّ قيمة قانونيّة، كون بريطانيا لا تملك السيادة على فلسطين لتمنحها لشعب آخر غير شعبها الأصليّ، وإدخال هذا الإعلان في صكّ الانتداب بتاريخ 24 تمّوز (يوليو) 1922 لا يجعله قانونيًّا، كونه غير قانونيّ في الأصل. عبّر عن هذا الموقف المحامي الفلسطينيّ القدير هنري قطّان في كتابه 'فلسطين والقانون الدوليّ' (1976)، إذ رأى أنّ 'لا شرعيّة إسرائيل' تستند على 'لا شرعيّة النصوص': إعلان بلفور، ودمجه في صكّ الانتداب، وقرار التقسيم.

أمّا الموقف الثاني، فعبّر عنه الكاتبان Thomas and Sally Mallison في كتابهيما، 'القضيّة الفلسطينيّة في القانون والنظام الدوليّين' (1986)، وهو أنّ الإعلان نفسه قانونيّ، بحجّة أنّه اعْتُمِدَ لاحقًا في صكّ الانتداب، ونال موافقة المجتمع الدوليّ في حينه، أي أنّه أصبح بمثابة عرف ملزم في القانون الدوليّ. وبالتالي، أصبحت مناقشة فحوى هذا الإعلان هي المهمّة، وليس الإعلان ذاته بصفته فعلًا دبلوماسيًّا، أو مسألة قانونيّته.

اللورد آرثر بلفور ونصّ إعلانه عام 1917

فحوى الإعلان يتضمّن نقطتين أساسيّتين: 'بيت قوميّ للشعب اليهوديّ' و'التزام تجاه الحقوق المدنيّة والدينيّة لغير اليهود'. ويمكن أن نرى في مواقف وزير خارجيّة بريطانيا الحاليّ، Boris Johnson، امتدادًا لهذا الموقف، إذ صرّح لجريدة Daily Telegraph  لمناسبة مرور مائة عام على الإعلان، أنّه أسيء تفسيره، في إشارة إلى اهمال النقطة الثانية في الإعلان، الخاصّة بالالتزام تجاه غير اليهود. كما أوضحت وزيرة خارجيّة 'حكومة الظلّ' (المعارضة)، Emily Thornberry، أنّ هذا الإهمال لا بدّ وأن يُصحّح من خلال ترجمة الالتزام تجاه الحقوق المدنيّة والدينيّة لغير اليهود، وذلك بالاعتراف بالدولة الفلسطينيّة.

الجدل بين الموقفين أعلاه يقودنا إلى ضرورة فحص تطبيق القانون الدوليّ في حينه (Intertemporal Law)، وهل يعطي شرعيّة لفعل الإعلان بصفته فعلًا دبلوماسيًّا؟ هل مسألة اللاشرعيّة 'لبيت قوميّ للشعب اليهوديّ' تتوقّف على لا شرعيّة فعل الإعلان، أم أنّها ترتبط باحترام الالتزام تجاه الحقوق المدنيّة والسياسيّة لغير اليهود؟ بكلمات أخرى: هل عدم الالتزام بحقوق غير اليهود تُفقد إقامة بيت قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين شرعيّتها؟

قبل البدء بفحص تطبيق القانون الدوليّ على شرعيّة الإعلان، نودّ التنبيه إلى أنّ لجنة بيل التي عُقدت عام 1937، تطرّقت في نقاشاتها إلى فحوى الإعلان، ووصلت إلى نتيجة مفادها أنّه يعطي الحقّ والشرعيّة لحكم ذاتيّ للفلسطينيّين. يمكن أن تُقرأ هذه النتيجة، اليوم، بصفتها اعترافًا بالدولة الفلسطينيّة، أو اعترافًا بالحقوق السياسيّة للفلسطينيّين في الداخل.

قراءة نقديّة

وبالعودة إلى فحص تطبيق القانون الدوليّ، لا بدّ في هذا السياق من 'مقاربة جنوبيّة أو مقاربة قطيعة' تجاه القانون الدوليّ في حينه. ما أقصده أنّ قراءة الإعلان يجب أن تكون قراءة نقديّة للقانون الدوليّ، لا قراءة ضمن القانون الدوليّ؛ إذ إنّ القانون الدوليّ نفسه في تلك المرحلة لم يكن إلّا قانونًا استعماريًّا، وما إعلان بلفور إلّا امتدادًا لهذا القانون الذي سيطر نهاية القرن التاسع عشر، وجسّد موقف الدول الأوروبيّة التي عَدّت ذاتها دولًا ذات سيادة، بينما الشعوب غير الأوروبيّة كانت خاضعة، وموضوع تطبيق وتصرّف لهذه السيادة.

برنارد لويس

تأكيدًا على هذه القراءة، نرى أنّ فحوى الإعلان نفسه يرتكز على عناصر مفهوم الكولونياليّة، أهمّها امتيازات المستعمِرين التي تسمح، لاحقًا، بالسيطرة على المصادر الطبيعيّة. وقد تمثّلت هذه الامتيازات بمنح المستعمِرين الحقوق السياسيّة، ضاربة عرض الحائط حقوق أصحاب هذه البلاد.

استنادًا على إعلان بلفور، بدّل الصهاينة القادمون إلى أرض فلسطين المستعمِرين الأوروبّيّين، فامتلأت بلاد فلسطين بمستعمِرين جدد. هذا التبديل كان موضع ترحاب عند الأوروبّيّين، لاستمرار سيطرتهم واستعمارهم لمنطقتنا. لقد رأى أحد مصمّمي العلاقة البريطانيّة العربية في حينه، Philipp Tracy، في مقالة له في مجلّة 'السياسة الخارجيّة' الفرنسيّة عام 1937، بأنّ 'وجود الحركة الصهيونيّة كان مصدر تفاؤل للمستعمرين الأوروبّيّين، كون المنطقة خلت في حينه من إنجليز وفرنسيّين لنشر الحداثة الأوروبّيّة والأفكار الليبراليّة'. يجد هذا الموقف صدًى حتّى يومنا، عند Bernard Lewis مثلًا، المتخصّص في تركيا والإسلام، الذي يرى أنّه لولا وجود إسرائيل لعرف الغرب وأمريكا فيتنام عربيّة.

تحايل على الانتداب نفسه

مقاربة نقديّة للقانون الدوليّ تعيدنا إلى ما مثّلته الحرب العالميّة الأولى من تحوّل فكريّ في ماهيّة القانون الدوليّ، إذ نادى 'باسم الحضارة، بإلغاء تامّ وأبديّ لكلّ المناهج الاستعماريّة التي تتعارض مع وجود، ورفاهية، ورقيّ الشعوب الأصلانيّة التدريجيّ' (انظر موقف أهمّ فقهاء القانون الدوليّ، Anzilotti، الذي شارك في مؤتمر السلام بباريس عام 1919، عضوًا في الوفد الإيطاليّ وفي اللجنة الدوليّة للمؤتمر). كما جعلت الحرب العالميّة الأولى من القانون الدوليّ حدثًا بحدّ ذاته، لأنّه أعطى مجالًا لولادة تجارب اجتماعيّة - سياسيّة جديدة، كما التحرّر الوطنيّ للشعوب الأصلانيّة، ولم يبق القانون لاهثًا وراء الأحداث، إنّما خلقها كما ذكرنا سابقًا (انظر المفكّر الفرنسيّ Claude Lefort).

يتعارض إعلان بلفور، فكريًّا، تعارضًا تامًّا مع هذه الأفكار التحرّريّة، ومع نظام عصبة الأمم. الأدهى من ذلك، أنّه حتّى لو تجاهلنا، للحظة، التحوّلات الفكريّة في زمن الحرب العالميّة الأولى، والقراءات النقديّة أعلاه، فإنّه على المستوى القانونيّ المحض، لم يكن إعلان بلفور إلّا تحايلًا وانتهاكًا لنظام الانتداب، وذلك في نظري لأنّ ما يجب التركيز عليه ليس الإعلان بحدّ ذاته، إنّما مسألة إدخاله عام 1922 في صكّ الانتداب، والتعارض الناجم عن ذلك بين موادّ القانون السائدة في حينه، كما سأبيّن في ما يلي:

من مؤتمر باريس للسلام عام 1919

من الناحية القانونيّة البحتة (مبدأ القانونيّة)، ثمّة تعارض بين مادّة 22 من نظام عصبة الأمم 1919، وإدخال إعلان بلفور في صكّ الانتداب بتاريخ 24 تمّوز (يوليو) 1922، إذ حسب مادّة 22، مُنحت الشعوب التي خضعت للحكم العثمانيّ مكانة قانونيّة تشير إلى جاهزيّتها للاستقلال، ودور الانتداب لم يكن إلّا دورًا إداريًّا لتجهيز هذه الشعوب، بما فيها الشعب الفلسطينيّ، للاستقلال الوطنيّ. هذه المكانة القانونيّة أُشير إليها في تعريف أقاليم الدولة العثمانيّة بأنّها أقاليم (أ). تمثّل هذه المادّة اعترافًا دوليُّا بالشعب الفلسطينيّ، ويصبح إدخال إعلان بلفور في صكّ الانتداب عام 1922، أي بعد ثلاث سنوات من وضع نظام عصبة الأمم، بمثابة انتهاك لنظام الانتداب.

في الإجماع الدوليّ

في ما يتعلّق بالإجماع الدوليّ الذي شكّل مركّبًا آخر في منح الشرعيّة لإعلان بلفور، وقد عبّر عنه Martin Kramer  (وهو من أفضل من كتب عن إعلان بلفور في الجانب الصهيونيّ) بقوله إنّ الإعلان، حتّى ولو كان مجرّد إعلان نوايا، إلّا أنّه عبّر عن إجماع دوليّ، لذلك فهو مشابه في فعاليّته لقرار مجلس الأمن، فإنّه من الملائم الردّ عليه بأنّ القانون الدوليّ ليس ما يحدّده الغرب أو الإمبرياليّون، وحتّى إن أدخل المجتمع الدوليّ إعلان بلفور في صكّ الانتداب، وهو المجتمع الذي يتكوّن من الدول الأوروبيّة المستعمِرة بالأساس، فإنّ هذا الإدخال لم يستند إلى معايير القانون الدوليّ. أمّا في ما يتعلّق بتشبيه الإجماع الدوليّ بقرار مجلس الأمن، فقد يكون ذلك صحيحًا، لكنّ مجلس الأمن مؤسّسة جيوسياسيّة، ليست حريصة، بالضرورة، على تطبيق القانون الدوليّ.

في اعتقادي، إن كان ثمّة شيء جيّد ساهمت به الحرب الباردة، وانعكس في عمل مؤسّسات الأمم المتّحدة، فهو يكمن في شلّ عمل مجلس الأمن تحديدًا، ليتسنّى لمؤسّسات مثل الجمعيّة العامّة أن تعمل، وأن تساهم في تطوير قانون دوليّ تحرّريّ.

ماذا تعني المطالبة بالاعتذار؟

القراءة القانونيّة لإعلان بلفور لا بدّ وأن تتطرّق إلى الآثار القانونيّة الناجمة عن عَدّه فعلًا غير شرعيّ، وفي هذه الحالة نتساءل: ماذا تعني مطالبة القيادة الفلسطينيّة الحكومة البريطانيّة بتقديم الاعتذار؟

من محكمة نورمبرغ عام 1946 | Eddie Worth - AP

في الإجابة عن هذا السؤال، قد نصطدم ثانية بالادّعاء بضرورة الالتزام بالقانون الدوليّ السائد في حينه (Intertemporal Law) عام 1917، الذي يشرعن إعلان بلفور ويلغي ضرورة الاعتذار، لكن هذا الادّعاء لا ركيزة له في الممارسة الدوليّة؛ إذ في مساءلة الدول الاستعماريّة عن جرائم ارتُكبت بحقّ الشعوب الأصلانيّة، لم يؤخذ بالاعتبار القانون الدوليّ السائد في حينه، إنّما تجاوزته لصالح تطبيق معايير عادلة معاصرة. على سبيل المثال، نذكر ما حصل في محاكمة النظام النازيّ في نورمبرغ عام 1945، حيث اعتمدت جرائم ضدّ الإنسانيّة ضدّ القيادة النازيّة، لا ذكر لها في القانون الدوليّ، إنّما أُقرّت في نظام محكمة نورمبرغ ذاتها. 

من المهمّ أن نعي هنا، أنّ الاعتذار مسألة جماعيّة ودوليّة لها آثار قانونيّة، ولا تتّسم بالشخصيّ، بل بالعامّ. وفق القانون الدوليّ المعاصر، يثير الاعتذار مبدأ مسؤوليّة الدولة، وقد وضّحت المحكمة الدائمة للعدل الدوليّ التابعة لعصبة الأمم، في قرارها Chorzow Factury عام 1927 (قضيّة بين ألمانيا وبولندا)، معنى هذا المبدأ، بتأكيدها على أنّ الدولة مسؤولة عن أيّ ضرر سبّبته لدولة أخرى، وعليها تصحيح الضرر نفسه، أو تعويض الدولة المتضرّرة مادّيًّا. وفي ما يخصّ الاعتذار، فقد ذُكِرَ بوضوح في مادّة 37 من مشروع موادّ قانون مسؤوليّة الدولة 2001، حيث أُشير إلى أنّ الدولة المسؤولة عن ضرر لدولة أخرى عليها إرضاؤها من خلال تصحيح الوضع، أو/ والإقرار بالانتهاك، أو/ والتعبير عن الأسف، أو/ والاعتذار الرسميّ. لا بدّ من التنبيه إلى أنّ موادّ مشروع قانون مسؤوليّة الدولة موادّ عرفيّة، وعليه فإنّها ملزمة للدول جميعًا، وافقت عليها أم لم توافق.

عرفت سنوات التسعينات ممارسة واسعة للاعتذار في العلاقات الدوليّة، ويمكن ذكر ما يلي:

1. اعتذار للشعوب الأصلانيّة التي خضعت للاستعمار الاستيطانيّ، مثل 'الهنود الحمر'. ترافق هذا الاعتذار مع اتّفاقيّة حقوق الشعوب الأصلانيّة عام 1994، التي كرّسها نضال هذه الشعوب منذ سنوات السبعينات، وأتى بتعديل دستوريّ في بعض الدول، الذي سمح في ما بعد ببروز قيادة وطنيّة من السكّان الأصلانيّين.

2. اعتذار للشعوب التي خضعت للتجربة الاستعماريّة غير الاستيطانيّة، كما في حالة مناضليMau Mau  في كينيا، الذين حاربوا الاستعمار البريطانيّ، والذين تقدّموا بشكاوى حول التعذيب من قبل القوّات البريطانيّة في تلك الفترة، وقد وافقت محكمة مركزيّة في لندن بتعويضهم عام 2009، كما جرت مفاوضات لإرضاء آخرين من دون العودة إلى المحاكم. أيضا نذكر اعتذار هولندا، الدولة المستعمِرة، عن جرائم قوّاتها في إقليم Rawagede في إندونيسيا عام 1947، الذي منحته بعد تقديم مجموعة شكاوى من قبل سكّان هذا الإقليم إلى محكمة هولنديّة. وأخيرًا نذكر اعتذار إيطاليا للشعب الليبيّ، وإبرام اتّفاقيّة الصداقة والشراكة والتعاون بين ليبيا وإيطاليا، التي قدّمت إيطاليا بموجبها خمسة ميليارات دولار أميركيّ تعويضًا، لكن على شكل استثمار في البنية التحتيّة الليبيّة، وذلك في تاريخ 30 آب (أغسطس) 2008.

سفير هولندا ينثر الورود على قبور ضحايا مجزرة Rawagede | Romeo Gacad - AFP

3. اعتذار عن دعم حكومات يمينيّة من قبل الولايات المتّحدة، ونعني في هذه الحالة اعتذار الرئيس الأميركيّ كلينتون عام 1999، في غواتيمالا، عن دعم بلاده للحكومة اليمينيّة التي كانت وراء قتل عشرات الآلاف من الثوّار والهنود المايا في حرب أهليّة استمرّت 36 عامًا.

عدالة انتقاليّة: مصالحة وحقيقة

في الحالة التي تتناولها هذه المداخلة، فإنّ الاعتذار أمر حتميّ، لا بدّ منه، عاجلًا أم آجلًا. وفعلًا، تشير التطوّرات الأخيرة في الموقف البريطانيّ إلى محاولات لإعادة تفسير إعلان بلفور، من خلال تحويل اللامرئيّ إلى مرئيّ، أي تحويل الالتزام بالحقوق المدنيّة والدينيّة لغير اليهود إلى اعتراف بالدولة الفلسطينيّة. هذا السعي نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة قد يَعُدّه البعض نوعًا من الاعتذار، لكنّه، في كلّ الأحوال، لن يكون كافيًا في نظرنا، للأسباب الآتية:

أوّلًا؛ لا يمكن حصر النكبة في أحداث عام 1948، ولا يمكن لبريطانيا أن تخفي مسؤوليّتها من خلال امتناعها عن التصويت في الأمم المتّحدة بخصوص قرار التقسيم عام 1947. على بريطانيا أن تعترف أنّ عام 1922 هو النكبة، كما يقول المؤرّخ جورج أنطونيوس، وأنّها تتحمّل مسؤوليّة فصل فلسطين عن سوريّة (فلسطين إقليم سوريّ منذ الإمبراطوريّة الرومانيّة حتّى الإمبراطوريّة العثمانيّة)، وكلّ ما يعنيه هذا الفصل من إضعاف لفلسطين من جهة، والتمهيد لتنفيذ فكرة وطن قوميّ لليهود عام 1922، تحت الانتداب البريطانيّ.    

ثانيًا؛ على بريطانيا الاعتذار ليس فقط عن الفعل (المعبّر عنه بإعلان بلفور على الورق، وبفصل فلسطين عن سوريّة على أرض الواقع)، إنّما عن عدم تحريكها ساكنًا وتجاهلها لتداعيات بلفور (عدم الفعل) عامًا بعد عام، وصولًا إلى يومنا هذا.

ثالثًا؛ لا يجوز في مسألة الاعتذار أن تغضّ بريطانيا الطرف عن طول فترة الغبن التي لحقت بالشعب الفلسطينيّ، منذ صكّ الانتداب حتّى اليوم، ولفترة تجاوزت المائة عام، ولا عن أعداد الفلسطينيّين والأجيال المتعاقبة التي عانت من استمرار هذا الغبن. 

لاجئون فلسطينيّون عام 1948

من منطلق العدالة الانتقاليّة التي تشمل أدوات عديدة، منها المصالحة والحقيقة، فإنّ تطبيق هذه العدالة على الصراع لا يمكن أن يقتصر على المصالحة، التي من ضمنها الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، إنّما يجب على بريطانيا السعي وراء الحقيقة، التي تتطلّب الأخذ بعين الاعتبار معاناة ومأساة الشعب الفلسطينيّ.

المطالبة بالاعتذار مسألة مهمّة إذًا، لأنّها تثير مسؤوليّة بريطانيا دوليًّا تجاه مأساة الشعب الفلسطينيّ وكارثته. لكن، كيلا يقتصر الاعتذار على الجانب الرمزيّ من دون أيّ التزامات مادّيّة، مثل اعتذار كلينتون لغواتيمالا، من الضروريّ أن ترافقه التزامات مادّيّة لتخفيف مأساة الشعب الفلسطينيّ، ولا سيّما اللاجئ، وكذلك مساهمة فعليّة وفعّالة لإيجاد حلّ لقضيّة عودة اللاجئين.  

  

 

[1] تنفرد فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة بنشر هذه القراءة التي قُدّمت في نادي حيفا الثقافيّ، لمناسبة إشهار كتاب الدكتور جوني منصور، 'مئويّة تصريح بلفور (1917-2017): تأسيس لدولة، وتأشيرة لاقتلاع شعب' (2017)، بتاريخ 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017.

 

د. جوني عاصي

 

حاصل على الدكتوراه في القانون العامّ. أستاذ مساعد في كلّيّة الحقوق في جامعة النجاح الوطنيّة - نابلس، ويشغل حاليًّا منصب مدير مركز كرسي اليونسكو للديموقراطيّة وحقوق الإنسان.

التعليقات