03/01/2019 - 03:34

هنيدة غانم: الكتابة البحثيّة فعل مقاومة يؤسّس لأركيولوجيا المستقبل

هنيدة غانم: الكتابة البحثيّة فعل مقاومة يؤسّس لأركيولوجيا المستقبل

د. هنيدة غانم

 

المفكّرون والباحثون يبدون أشخاصًا مهووسين بالحقيقة العامّة وتفاصيلها، بالاصطلاح واللغة والتاريخ والإشارات، مقابلنا نحن، الّذين تمرّ عنّا الأسئلة بسرعة شديدة. ثمّة مَنْ يحفر في هذه الحقيقة بدلًا منّا، يستيقظ كلّ صباح لينقّب بمعاوله منجم الحقائق.

عند الدكتورة هنيدة غانم حرارة عالية واندفاع لا يهدأ، تجاه هذا المنجم الضخم الّذي يُسمّى إسرائيل والقضيّة الفلسطينيّة، وعلى الرغم من صلادة جدرانه، إلّا أنّ ذلك لا يثبّط عن عملها، هي الّتي ترى في الكتابة البحثيّة على هذه الأرض ما هو أكبر وأعمق من مجرّد توثيق مرجعيّات أو تحليلها أو بنائها، بل فعل تأسيس لأركيولوجيا المستقبل.

تبدو هذه القدرة على الاستشراف، الّتي تمتّع بها "رمزيًّا" الشعراء عند العرب حتّى سوّقوا أنفسهم كأنبياء عالمين بالقادم، عند مَنْ يعملون في حقلَي البحث والكتابة الفكريّة، مؤسّسة على قواعد أكثر حكمة ومنطقيّة من الشعر. كيف ينظر إليهم المجتمع والسياسيّون؟ أبصفتهم بوصلة معرفيّة؟ أم كرفوف لأبحاث معقّدة يأكلها الغبار؟

هنيدة، المديرة العامّة لـ "المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة - مدار" في رام الله، حاصلة على درجة الدكتوراه من "الجامعة العبريّة" في القدس بدرجة امتياز، وعلى منحة ما بعد الدكتوراه في "معهد دراسات الشرق الأوسط" في "جامعة هارفارد"، وهي مختصّة بـ "علم الاجتماع السياسيّ والثقافيّ"، ولها مجموعة من الدراسات المنشورة عن سياسات الاستعمار في فلسطين، والدور الاجتماعيّ للمثقّف الفلسطينيّ بعد النكبة، واليهوديّة والقوميّة في إسرائيل.

كان لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة هذا الحوار معها، الّذي سعى إلى شمول جوانب عامّة في عملها، بصفتها أكاديميّة ومديرة مركز دراسات، وأخرى خاصّة في كتابتها الفكريّة السياسيّة.

 

حاورتها: أسماء عزايزة.

 

فُسْحَة: أنتم - مراكز بحثيّة وأفرادًا باحثين - تعملون كخلايا نحل لا تتوقّف؛ لكن كيف توظّف المعرفة الّتي تنتجونها في الحياة السياسيّة مثلًا؟ هل تستفيد منها الحركات أو الأحزاب أو الجهات الحكوميّة الفلسطينيّة؟ هل تستفيد منها قطاعات أخرى في حقل الاقتصاد أو الاجتماع أو غيرهما؟

هنيدة: من المهمّ أن أوضّح أنّ إنتاج المعرفة فعل سياسيّ بامتياز، وفي الحالة الفلسطينيّة، فإنّ الإنتاج المعرفيّ لا ينفصل عن السياق الاستعماريّ العامّ، ولا عن علاقات القوّة الّتي يتموضع في حقلها، ولا عن هدف التحرّر العامّ، وهو ما ينعكس عامّةً في المواضيع الّتي تُعالَج، وبأدوات التحليل والمنطلقات النظريّة، ولهذا الأمر إشكاليّاته طبعًا. وثمّة خوف من طغيان الأيديولوجيا على البحث وعلى منتجه؛ لذلك، ومن أجل أن توظَّف المعرفة في سبيل التحرّر؛ عليها أوّلًا أن تكون نقديّة تجاه ذاتها وأدواتها، وثانيًا أن تكون رصينة وجريئة.

 

 

إنّ المراكز البحثيّة، الّتي تنشط اليوم في فلسطين، قليلة في العدد، ومقيّدة إلى حدّ بعيد في المواضيع الّتي تعالجها؛ بسبب شحّ التمويل، وارتباط وجودها بشكل أساسيّ بالتمويل الأجنبيّ الّذي يهمّه، عدا حالات قليلة، البعد النفعيّ والتطبيقيّ المباشر لمنتجها، لا البعد الفكريّ والمعرفيّ. الأمر مؤلم ومحبط كثيرًا؛ لأنّ الأحلام كبيرة، ولأنّ الإنتاج المعرفيّ، في وضعه الطبيعيّ، يجب أن يكون أولويّة وطنيّة وهدفًا بحدّ ذاته، تحرّكه رغبة الفهم والتقصّي، وليس مجرّد أداة نفعيّة.

في أيّ حال، فإنّ علاقات القوّة شبكة عنكبوتيّة معقّدة؛ والمعرفة متورّطة فيها ومعها، والمراكز البحثيّة تسعى من موقعها في هذه الشبكة، إلى إيجاد طريق الذهب الّذي يسمح لها أن تقدّم المعرفة التطبيقيّة المفيدة، الّتي تسهم في بناء إستراتيجيّات التحرّر، من دون أن تكون محدودة في بعدها التطبيقيّ فقط، أو على الأقلّ تسعى إلى توسيعه وتجاوزه.

أمّا بخصوص مدى استفادة السياسيّين والأحزاب من المنتج المعرفيّ؛ فهذا سؤال صعب أو ربّما محرج؛ لأنّ مراكز مثل "مدار"، و"السياسات"، و"المرصد"، و"الدراسات الفلسطينيّة"، و"مدى الكرمل"، وغيرها، تضع نصب أعينها ضرورة التأثير في العمل السياسيّ المباشر والأداء العامّ الفلسطينيّ. أحيانًا، نجد اهتمامًا ونرى استفادة مباشرة، ولا سيّما في المشاريع ذات الطابع الرصديّ والسياسيّ المباشر، ويُستخدم ما نصدّره في الدفاع عن قضايا وطنيّة مهمّة، لكنّ المشكلة أنّ الأداء السياسيّ بالمفهوم "الحرفيّ" للسياسة، يعاني ركاكة بنيويّة تحتاج إلى تفكير جريء من قِبَل الأحزاب نفسها، وهو ما أشكّ في إمكانيّة حصوله؛ نظرًا إلى طبيعة تركيب الأحزاب، ونوع الصراعات الّتي تحكمها، واقتصاديّات عملها، لكن من جهة أخرى، أجد اهتمامًا مميّزًا بإصداراتنا من قِبَل الباحثين والأكاديميّين والإعلاميّين والطلبة، وهذا ينعكس في التفاعل مع منشوراتنا، الّتي تصل قراءاتها أحيانًا إلى عشرات الآلاف، إضافة إلى اهتمام جيل الشباب بما ننتجه؛ هذا يعطي جرعة أمل في الأقلّ.

 

فُسْحَة: أعداد كبيرة من الأكاديميّين العرب، الّذين يدرسون العلوم السياسيّة والاجتماعيّة، ينخرطون أو يسعون إلى الانخراط في سوق العمل، ويبتعدون عن مجال البحوث والدراسات! ربّما لقلّة مراكز الدراسات الفلسطينيّة. كيف بالإمكان استثمار هذه الطاقات البشريّة والأكاديميّة في "مدار" أو مراكز أخرى؟ وهل ترين اهتمامًا أصلًا لدى الجيل الشابّ في حقل الدراسات؟

هنيدة: كما أشرت أعلاه، نحن، المراكز البحثيّة، نعاني عقبات ليست هيّنة، ونسعى جاهدين إلى الاستمرار في عملنا، في ظلّ قلق دائم من المستقبل ومن تجنيد مصادر الدعم الكافية، ونسعى إلى جذب الاستثمار الوطنيّ المحلّيّ إلى المراكز البحثيّة؛ كي نتحرّر من الاعتماد الكلّيّ على التمويل الأجنبيّ. وقد نجحنا حاليًّا في تأسيس شراكة مهمّة مع "وزارة الثقافة الفلسطينيّة"، الّتي تجنّدت لدعم مؤسّسات بحثيّة فلسطينيّة، لكنّ رؤوس الأموال المحلّيّة لا تعطي - مع الأسف - أهمّيّة للبحث العلميّ، وتريد أن تدعم المشاريع الإنسانيّة، أو الترفيهيّة، أو الأبحاث ذات الطابع المريح سياسيًّا؛ أي الّذي لا يمسّ مواضيع الاحتلال والاستعمار، أو البنى المجتمعيّة والثقافة السياسيّة الداخليّة. بالمقابل، حين يصبّ اهتمامك في إنتاج معرفة نقديّة بديلة عن إسرائيل، وغوصك في مواضيع ليست سهلة، كالمقارنة بين إسرائيل والأبارتهايد، فإنّ الانجذاب لدعم هذه المشاريع يكون متواضعًا على أفضل تقدير.

 

وفد كنديّ في زيارة إلى مركز "مدار" لمناقشة الصراع العربيّ - الإسرائيليّ

 

إنّ الظرف الموضوعيّ الّذي تعيشه المؤسّسات البحثيّة والمحدودة المصادر، يقلّل من فرص استدماج الباحثين والباحثات فيها، ومن فرص توفير مساحة حرّة لهم لتطوير أبحاثهم؛ فالمغريات الّتي يمكن أن توفّرها المراكز البحثيّة ليست عالية، والفرص التشغيليّة قليلة جدًّا، ومحكومة بالتقييدات الّتي تعمل ضمن شرطها المؤسّسات والمراكز البحثيّة. كيف تُحَلّ هذه القضيّة؟ ببساطة من خلال قرار وطنيّ، بالتعامل مع البحث المعرفيّ والعلميّ بصفته أولويّة وطنيّة، وعدم القبول بتحويل الجامعات إلى مراكز تعليم على نمط الكلّيّات، بالإضافة إلى الاستثمار بالمراكز البحثيّة وتطويرها؛ لتكون حاضنة فكريّة ونقديّة.

المراكز البحثيّة الفلسطينيّة، بما فيها "مدار"، تولي اهتمامًا بجذب الباحثين وإعطائهم فرصًا لنشر أبحاثهم وتطويرها، وقد أصدرت عشرات الأبحاث والكتب، وفتحت أمام الباحثين مساحات مهمّة؛ لإيصال أبحاثهم إلى القارئ العربيّ، لكنّ هذا ليس كافيًا، وما زال علينا أن نوفّر فرصًا بعيدة الأمد، تسمح للباحثين بانكبابهم على أبحاثهم. لكن هنا لا بدّ من الإشارة إلى أمر مهمّ آخر، هو أنّ الإشكاليّة في استدماج الباحثين، لا ترتبط دائمًا بما توفّره المراكز البحثيّة، بل أحيانًا بمدى اهتمام الباحثين والتزامهم، ووعيهم بضرورة العمل على إنتاج معرفة فلسطينيّة، والإسهام في مراكمة معرفة باللغة العربيّة، في واقع السوق العالميّ الأكاديميّ الّذي يعترف فقط بالنشر بالإنجليزيّة. أضف إلى ذلك أنّ بعض الباحثين والباحثات خاصّة الشباب، ممّن لديهم طاقات ممتازة، بحاجة إلى تطوير أدواتهم الفكريّة والتحليليّة نقديًّا، دون أن يكون النقد مشروعًا ذا اتّجاه واحد؛ أي مبنيّ على استنطاق الآخر وسطوته وفكره، بل نقدًا ذا اتّجاهين يكون مقابل الآخر ومقابل الذات، وتكون من خلاله أيضًا مساءلة البديهيّات الّتي تحكم فكرهم وتؤسّس مرتكزاتهم البحثيّة، عليهم كذلك وضع أنفسهم مقابل المرآة، وتفكيك أدوات بحثهم وفرضيّاتهم؛ كي لا يسقطوا في الدوغمائيّة أو في العدميّة.

 

فُسْحَة: نحن نكتب كلّ هذا؛ كي نظلّ موجودين ولا ينسانا التاريخ، "صحّ"؟ في إحدى دراساتك تتحدّثين عن "المحو" الّذي تنتهجه إسرائيل في سياستها الاستعماريّة. لعلّ سياسة المحو سياسة قديمة؛ فقد استخدمها الأوروبّيّون في المكسيك وأمريكا الوسطى، مثلًا عن طريق تدمير أرشيفات السكّان الأصلانيّين ومكتباتهم؛ هل تميّزين بين المحو المادّيّ والمحو المعرفيّ؟ وهل ترين أنّ الأخير يتبدّى في ممارسات المشروع الصهيونيّ، على الرغم من دأب الفلسطينيّين على كتابة روايتهم؟

هنيدة: الكتابة فعل مادّيّ قبل كلّ شيء، هي نحت ملموس في تاريخ المستقبل، القريب جدًّا أو البعيد. التفكير - بالمقابل - فعل تأمّليّ استقصائيّ تحرّكه رغبة المعرفة واستخلاص المقولات، وإن لم يقترن بالكتابة فقد يتبخّر ويكون نسيًا منسيًّا، أو يتحوّل في حالة تحوّله إلى كلام أو قصص شعبيّة، أو حكم سائلة ومقولات زئبقيّة. إنّ تحويل الفكر إلى كتابة وإنتاج، يعمل على نحت المقولات وموضعتها في أفق الزمن؛ لتكون أثرًا مادّيًّا للمستقبل، وشاهد ملك على الوجود الفاعل لليوم، ثمّ إنّ الكتابة الفكريّة تضع إشارات ودلالات على التاريخ وللتاريخ.

في الحالة الفلسطينيّة، الّتي يسعى الاستعمار إلى محو كينونتها التاريخيّة والثقافيّة، ليس رمزيًّا، بل مادّيًّا على الأرض، تصير الكتابة فعلًا مادّيًّا مقاومًا بحكم الأمر الواقع؛ لأنّه ينثر العراقيل ولو لغةً أمام أدوات المحو، ولأنّه يعيد إنقاذ ما يُمحى عبر الكتابة، ويحصّنه بالذاكرة والتذكّر النشط.

الكتابة البحثيّة في المستعمرة فعل تأسيس لأركيولوجيا المستقبل، الّذي يناور التدمير، ويعطب جرّافات الخراب والمحو، ويعيد بناء صور الحاضر والماضي والمستقبل، ويؤرشفه إلى الأبد. الكلام يموت، لكنّ الكتابة حياة دائمة. بالنسبة إليّ، الكتابة عن فلسطين مشروع حياة؛ لرفع الأنقاض عن الوطن المخنوق، تحت أسمنت المستعمرة الّتي تريد خرسه، ولبثّ الروح في روائحه وصوره، واستنطاق تواريخه المتعدّدة والمتناقضة والمتوتّرة.

 

من إصدارات مركز "مدار" الّذي تديره هنيدة غانم

 

إنّ المحو الاستعماريّ محو مادّيّ ومعرفيّ، والكتابة أيضًا فعل مادّيّ ومعرفيّ. من المهمّ أن نؤكّد أنّ حالنا ليس كحال السكّان الأصليّين في كندا، ولا أستراليا، ولا أمريكا. نحن ما زلنا في خضمّ صراع مفتوح، والمستقبل ما زال أفقًا محمّلًا بالإمكانيّات. لا شيء أكيد؛ يمكننا أن نربح ويمكننا أن نخسر؛ الأهمّ أنّ الأمر لا يتعلّق فقط بالمشروع الصهيونيّ وأدواته وأهدافه فحسب، بل بما نفعل نحن، وبما نمارس على الأرض أيضًا.

 

فُسْحَة: لفتّ انتباه القارئ بدراسة معمّقة حول الاصطلاحات، الّتي نستخدمها للتعبير عن الاستيطان اليهوديّ في فلسطين؛ فقال أجدادنا "خواجا"، وقلنا نحن "مستوطن"، ونقول اليوم "مستوطن متطرّف"؛ هذا الوعي اللغويّ الّذي تثيرينه، إلى أيّ وعي سياسيّ تريدين أن يُشير؟ وكيف سيغيّر في تناولنا لقضيّة الاستيطان؟ ثمّ قضيّة الوجود في المكان؟

هنيدة: فهم سوسيولوجيا تشكّل المفاهيم فهم مهمّ؛ من أجل الإحاطة بالتحوّلات التاريخيّة والنقلات، الّتي يُشَكَّل من خلالها تعاملنا مع المشروع الصهيونيّ، وفق علاقات القوّة في لحظات مفصليّة. الصياغات جزء من تشكّل الوعي ومن إعادة إنتاجه.

من المهمّ النظر إلى الأمر، بوصفه مرتبطًا بجدليّة العلاقة القائمة بين المفاهيم والسياق، لكن من المهمّ - أيضًا - فهمه، بوصفه مؤشّرًا على سيولة المفاهيم وتشكّل الآخر، وفق حدود تاريخيّة متحرّكة وغير جوهرانيّة. من أهمّ ما لفت انتباهي في بحثي هذا، على سبيل المثال، هو كيف كان الفلسطينيّون، في بداية الصهيونيّة، يميّزون بين اليهود أبناء البلاد، ممّن كانوا جزءًا من النسيج المجتمعيّ الفلسطينيّ، وبين اليهود الصهاينة؛ إذ اعتُبر الأوائل يهودًا عربًا مرّةً، أو يهودًا أولاد عرب مرّةً أخرى، في ما عومل الصهاينة خواجاتٍ أغرابًا. هذه العلاقة الاحتوائيّة تحوّلت، تحت ضغط الصهيونيّة والمواجهة الميدانيّة والانتفاضات، إلى علاقة إقصائيّة انتُزع عبرها اليهود من أبناء البلاد من النسيج الفلسطينيّ، وتحوّلوا إلى جزء من الكينونة الصهيونيّة المتشكّلة. هذه اللحظة كانت مأساويّة فلسطينيًّا، وقد أسهمت - إلى حدّ ما - في إنتاج الصراع، وكأنّه صراع على أسس قوميّة بدل استعماريّة.

في سياقنا الحاليّ، يمكن قراءة التمييز بين أنواع من المستوطنين، بأنّه أداة إنتاج هرميّة لـ "الشرعيّة" - وهي غير مقصودة في رأيي - للمستوطنين؛ إذ إنّ التمييز بين مستوطن متطرّف من "شبيبة التلال"، واعتباره من "غلاة المتطرّفين"، ومستوطن "معتدل"، قد يتحوّل بشكل غير مباشر إلى أداة لبناء وعي بديل؛ لاستيعاب المستوطنة بوصفها جزءًا من المشهد العاديّ؛ من خلال خلق استثنائها المتطرّف! لكن يمكن قراءة ذلك أيضًا ضمن علاقته بتجربة اليوميّ الفلسطينيّة، الّتي يتعرّض فيها السائق بين نابلس ورام الله، مثلًا، للمهاجمة والضرب والتكسير من مجموعات المستوطنين، المحسوبة عادةً على "شبيبة التلال"، وعصابات "تدفيع الثمن" الآتية من المستوطنات الأيديولوجيّة. التمييز هنا تمييز إجرائيّ؛ لتوصيف واقع معيّن نتج عن التجربة اليوميّة.

 

فُسْحَة: انطلاقًا من دراستك هذه؛ أستطيع أن أسألك عن منطق مشابه يجعلنا نقول "إسرائيل"، ثمّ نفرّق بالقول "اليمين الإسرائيليّ"، ثمّ "اليمين الإسرائيليّ المتطرّف"؛ ألا تعتقدين أنّ تكريس هذه الاصطلاحات، يجعل من اليسار الإسرائيليّ، من "ماباي" المسؤول عن ترحيل الفلسطينيّين وفرض الحكم العسكريّ، مرورًا بلبنان 82، إلى بيريس التسعينات، يبدو أقلّ "وحشيّة"؟

هنيدة: السؤال هنا فكريّ بحثيّ؛ وهو كيف علينا أن ندرس إسرائيل؟ هل ندرسها بوصفها بنية ثابتة غير متحوّلة ومتبدّلة، ومن ثمّ علينا التزام مفتاح واحد سيفتح كلّ الأبواب؟ بكلمات أخرى؛ هل إسرائيل ظاهرة فوق تاريخيّة ببنية داخليّة متجانسة أبديّة؟ هل استخدام مفاهيم مختلفة لفهم ظواهر متمايزة سينفي عن الصهيونيّة عامّة، بُعدها الاستعماريّ والإحلاليّ والقمعيّ؟

 

 

شغلني الموضوع كثيرًا، وأعتقد أنّ موقفي اليوم مرتبط بمنطلقات عدّة، أوّلًا أنّ إسرائيل خاصّة، والصهيونيّة عامّة، ليست ظاهرة جوهرانيّة ثابتة، وأنّ بنيتها الداخليّة الفكريّة وممارستها، تخضع للتبدّلات والتحوّلات بتأثير السياق العامّ، وتحوّل الشرط العامّ الّذي تعمل خلاله. على سبيل المثال، أنا أعتقد أنّ الصهيونيّة اليوم تذهب باتّجاه التهويد والتديين، وتعيد إنتاج الفكرة القوميّة بصفتها فكرة دينيّة استيطانيّة بالأساس، بعد أن كانت فكرة قوميّة علمانيّة أشكنازيّة استعماريّة في مراحلها الأولى. هل هذا يعني أنّ جريمة "مباي"، بوصفها الّتي قادت تحقيق الصهيونيّة والتسبّب بنكبة الشعب الفلسطينيّ، أقلّ من "الليكود" و"البيت اليهوديّ"؟ إطلاقًا، لكن سوسيولوجيًّا؛ علينا أن ندرك التحوّلات الّتي تمرّ بها وإرهاصات ذلك.

فهم تهويد الصهيونيّة وتديينها، لن يكون إلّا بربطه بتحوّلات البنية الديمغرافيّة الداخليّة للمجتمع اليهوديّ، من حيث زيادة نسبة المتديّنين من جهة، واستدماج الحريديم في المشروع الاستيطانيّ وصهينتهم من جهة أخرى، ذلك بعد أن كانوا خارج الفكرة الصهيونيّة أصلًا، حيث باتوا يشكّلون 33% من المستوطنين، إضافةً إلى تحوّل الشرقيّين إلى قوّة دفع أساسيّة للمشروع الصهيونيّ اليوم، والّذي يقوده "الليكود"، حيث يأتي 75% من أعضاء مركزه من الشرقيّين. هذه ليست مجرّد معلومات ليست ذا صلة، بل معلومات مهمّة؛ لأنّها تفرز ممارسات على الأرض، يمكن أن تؤدّي إلى كوارث إضافيّة مستقبليّة. إنّ المسألة ليست تحرير "مباي" من جرائم الماضي، الّتي اقترفها حين قاد المشروع الاستعماريّ، وتسبّب في النكبة وتدمير 78% من فلسطين، بل بإفرازات التطوّرات على المستقبل الفلسطينيّ. وبفهم علاقة إخضاع الدين وتجييره للقوميّة، من قِبَل مؤسّسي الصهيونيّة الّذين كانوا أصلًا أشكناز ملحدين، مع صعود الصهيونيّة الدينيّة، وتحوّل الدين التدريجيّ إلى قوّة أساسيّة تخضع القوميّة لمنطلقاته وأساطيره. إنّ تديين الصهيونيّة، وصهينة الشرقيّين والحريدييم؛ من خلال تذييلهم لليمين، ليس تحوّلًا هامشيًّا، بل تحوّل مهمّ علينا أن نفهمه بحيثيّاته؛ لأنّه سينعكس على مستقبل ما تبقّى من فلسطين في المدى القريب.

ثانيًا، أنّ معاني المفاهيم المتمايزة، واستخدامها بشكل مختلف، يرتبط أحيانًا بدلالتها الّتي تُستخدم في سياقها؛ هنا مثلًا أنا أميّز بحثيًّا بين مرحلتين في تطوّر المشروع الصهيونيّ: بين مرحلة المستعمَرَة ومرحلة المستوطنة، وذلك تبعًا لعلاقة كلّ مفهوم بالدين والقوميّة، وبأرض إسرائيل ودولة إسرائيل. لكنّي أفعل هذا التمييز، ضمن ربطه بالمنطلقات الأيديولوجيّة والبنى الفكريّة والأدوات. المستعمَرَة بوصفها مشروعًا قوميًّا علمانيًّا إحلاليًّا؛ يهدف إلى تحقيق فكرة الدولة اليهوديّة النقيّة، بصفتها دولة ديمقراطيّة يهوديّة؛ من خلال محو فلسطين والفلسطينيّين بدايةً، ثمّ بعد ذلك إقامة مؤسّسات الدولة على شاكلة المؤسّسات الغربيّة، وهو ما تحقّق بين 1948 - 1967، لكنّ احتلال باقي فلسطين عام 1967، شكّل لحظة جديدة في تاريخ المشروع الصهيونيّ؛ أسّس لإزاحة باراديجماتيّة لفكرة المستعمَرَة وصعود لفكرة المستوطنة؛ لأنّها اللحظة الّتي التقت فيها الصهيونيّة، المؤسّسة العلمانيّة الّتي صارت دولة، وجهًا لوجه، مع أساطيرها الدينيّة الّتي استخدمتها لتبرّر وجودها، وهي فكرة "أرض إسرائيل" التوراتيّة، الّتي تشكّل نابلس والخليل والقدس مركزها، وليس يافا وأسدود وعكّا وحيفا. هذه لحظة قدوم مولود جديد حملته الصهيونيّة العلمانيّة في أحشائها، وغذّته وسمّنته وربّته، حتّى قام عليها كـ "جوليم"، وهو الصهيونيّة اليهوديّة الدينيّة الّتي لا تتعامل مع الأرض بمفاهيم براغماتيّة، بل دينيّة مقدّسة مستمدّة من "سِفْر التثنية" و"سِفْر يشوع" وغيرهما، وتمثّل لها حقائق تاريخيّة وليس ميثولوجيا أو ثيولوجيا. على هذه الخلفيّة؛ فإنّ مشروع الصهيونيّة الدينيّة مشروع المستوطنة (התנחלות)، ببُعده الدينيّ المستمدّ من "سِفْر يشوع"، ومن تقسيمه لأرض كنعان الّتي احتلّها بين أسباط إسرائيل إلى عطاءات "נחלות". إنّ فهم هذا البعد ضروريّ؛ لأنّنا سنربطه اليوم بلحظة هيمنة اليمين الاستيطانيّ مع مساعي حسم الصراع؛ من خلال تكثيف الاستيطان، والتعامل مع الفلسطينيّين بصفتهم أغراب "محتلّين"، كما كان التعامل مع سكّان البلاد سابقًا.

 

 

"اليمين الجديد" هو المصطلح الّذي أتبنّاه اليوم؛ لوصف هذه التشكيلة من الصهيونيّة اليهوديّة الدينيّة، الّتي تتعامل بمفاهيم أرض إسرائيليّة استيطانيّة، تتقاطع مع الأفنجيليّة الصهيونيّة. هذا التمييز مهمّ لأنّه لا يتعلّق بكيفيّة تأسيس الصهيونيّة وماضيها الاستعماريّ الإحلاليّ، بل بمستقبلنا القريب جدًّا، وبما يمكن أن تقترفه الصهيونيّة الدينيّة بحقّ ما بقي من فلسطين، إنّ أهمّيّته تنبع أيضًا من كونه يحمل في طيّاته مؤشّرًا على مستقبل الصهيونيّة، وإرهاصاته على علاقات إسرائيل بحركات اليمين الشعبويّ والدينيّ العالميّ، مقابل علاقات فلسطين بالتيّارات الإنسانيّة والقوى الديمقراطيّة.

 

فُسْحَة: دعينا قليلًا من الفكر السياسيّ الواقعيّ والعقلانيّ الّذي تستيقظين لتمارسيه كلّ صباح، لا يمكن فصل العاطفة عن العمل اليوميّ؛ ما شعورك تجاه مستقبل هذه البقعة من الأرض؟ المعرفة الّتي تتجمّع في دماغك؛ هل تجلب لك التفاؤل؟ الأمل؟ الإحباط أحيانًا؟

هنيدة: أنا لا أدري إن كنتُ متفائلة أو متشائمة، أجدني بصراحة تامّة متقلّبة المزاج، وأتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم، لكنّ الأمر لا يهمّ كثيرًا ما دمت أعمل. في التشاؤم أكتب، وفي التفاؤل أكتب؛ لأنّ المشاعر تكون في الحالتين حاضرة؛ وهذا هو الأهمّ؛ فليدم الله قدرتي على الإحساس، وهذا يكفيني.

 

فُسْحَة: على سيرة الأمل، يعيش المشهد الثقافيّ في أراضي 48 ازدهارًا لافتًا رصدتموه في "مدار"، حيث أقمتم يومًا دراسيًّا حوله، وأصدرتم كتابًا يتضمّن دراسات أكاديميّة وتوثيقيّة. تاريخيًّا، عاشت الثقافة الفلسطينيّة علاقة تبنٍّ مع التيّارات السياسيّة؛ فكانت الأحزاب السياسيّة محرّكًا وحاضنًا للمثقّف؛ كيف تقرئين المشهد اليوم؟ وكيف تنظرين إلى الحركة الثقافيّة الناشئة خارج عباءة السياسة؟

هنيدة: في الداخل ثمّة انتعاش لحركة ثقافيّة جميلة وملوّنة وجريئة؛ وهذا مبعث للأمل. لقد سعينا في "مدار"، من خلال المؤتمر الّذي نظّمناه، إلى كشف هذه الحركة أمام الجمهور الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة، وفتح مساحة للتشبيك والتواصل بين الجانبين. طالما كان الداخل، منذ النكبة، حاضنة ثقافيّة مركزيّة، وقد أسهم في تخريب الحدود الّتي كانت تغرس في لحم الوطن لتقطيعه. كانت أهمّيّة محمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي وراشد حسين، أنّهم - ورغم انتماءاتهم الحزبيّة - صنعوا ثقافة فلسطينيّة جامعة غير مناطقيّة، ورفدوا الهويّة الفلسطينيّة بقيم إنسانيّة كونيّة. هذه هي قوّة الثقافة ودورها؛ أن تنزع الحدود وتهدم الجدران، ولا تستكين للهويّات الممزّقة ولا الهويّات السياسيّة، وأن تكون طلائعيّة، وجريئة، ومنحازة إلى العدالة.

لم تعد الأحزاب اليوم حاضنة للفعل الثقافيّ؛ وهذا أمر جيّد؛ لأنّه يحرّر المثقّف من وطأة الأيديولوجيا وثقلها، ويفتح أمامه مساحات واسعة للإبداع والانطلاق، دون خوف من الرقابة الذاتيّة، لكنّه، في نفس الوقت، مؤشّر محزن على مدى تراجع دور الأحزاب، وتقلّص قدرتها على جذب المثقّفين؛ فالأحزاب بلا مثقّفين منتجين تتحوّل إلى هياكل تنظيميّة ركيكة وضعيفة، في واقع وطنيّ هشّ محمّل بالمخاطر.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها مجموعتان شعريّتان، "ليوا" (2010)، الحاصلة على جائزة الكاتب الشابّ - حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. كما تعمل كاتبة مقالات ومديرة فنّيّة لمتجر فتّوش للكتب والفنون، وبار وجاليري فتّوش. 

 

 

التعليقات