16/03/2019 - 12:37

حراك "بدنا نعيش": تفكيك المقدس الحمساوي

حراك

للفنّان محمّد سباعنة

 

تزامنًا مع ثورات الربيع العربيّ في عام 2011، انطلق "حراك 15 آذار لإنهاء الانقسام" في قطاع غزّة، ويتكرّر المشهد مرّة أخرى هذه الأيّام، بحراك "بدنا نعيش"، مع "الموجة الثانية للربيع العربيّ"، الّتي انطلقت في السودان والجزائر. وعلى خلاف حراك عام 2011، الّذي دعا إلى مطلب سياسيّ هو إنهاء الانقسام الفلسطينيّ، وحراك 29 نيسان (أبريل) عام 2014، وأشبه بـ "حراك الكهرباء" في 12 كانون الثاني (يناير) 2017، كانت مطالب/ دوافع الحراك اجتماعيّة - إنسانيّة واضحة، متمثّلة بشكل أساسيّ بارتفاع الضرائب وغلاء المعيشة، إضافة إلى غياب فرص العمل، وتكرار مشاهد القمع والاعتقال السياسيّ، الّتي يمكن اختصارها في شعار "بدنا نعيش". وككلّ مرّة، تكون مقابلة هذه الحراكات الاجتماعيّة بأدوات القمع العنفيّة؛ المادّيّة والمعنويّة.

والتفرقة هنا بين نوعَي الحراكات بمعيار الغاية، إشارة إلى نزول سقف التوقّعات والمطالبات الممكن تحقيقها؛ من تحرير وعودة، إلى إنهاء انقسام، إلى ميناء ومطار، ثمّ فكّ الحصار وفتح معبر رفح، وانتهاءً بحلّ أزمة الكهرباء وغلاء المعيشة، وما يقابله من ارتفاع لحدّة العنف المستخدَم من قِبَل الأجهزة القمعيّة التابعة لحركة "حماس"؛ أي كلّما انخفض مستوى المطالبات، ازدادت حدّة العنف! وربّما يمكن تفسير ذلك بقصديّة شبه النظام الحاكم إلى ترسيخ الاستبداد؛ أي فهم سلميّة الشعب ومطالبه اليوميّة، بأنّه خضوع وتكيّف بما تقرّره السلطة الحاكمة؛ أي ترجمة ضعف مقوّمات الشعب على أنّه زيادة رصيد قوّة الجماعة المسيطرة، كونها تتعامل مع الشعب، بوصفه رعايا لا مواطنين.

 

قراءة الحدث لا تُختزل في عنصر الفاعل

انطلق حراك "بدنا نعيش" في أنحاء مختلفة من قطاع غزّة: معسكر جباليا، ودير البلح، وخانيونس، ونصيرات، والبريج، بعد دعوة أطلقتها مجموعة من الناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، تحت وسمَي #الترنس_يجمعنا، للخروج يوم 14 آذار (مارس) 2019، و#بدنا_نعيش، في تظاهرات سلميّة، تنديدًا بكومة الظروف السيّئة الّتي يعيشها القطاع؛ ومنها غلاء المعيشة، وارتفاع أسعار عشرات السلع الأساسيّة، آخرها السجائر الّتي زادت أسعارها بنسبة 200٪، لسدّ العجز الماليّ الّذي تعانيه حكومة "حماس"؛ إذ تعود ضرائب التبغ بما يقارب 20 مليون شيكل إسرائيليّ شهريًّا على خزينة "وزارة الماليّة" في غزّة، وذلك كحقّ في التظاهر السلميّ، الّذي تكفّله القانون الفلسطينيّ. والحراك ليس سياسيًّا - بالمعنى الّذي يُخيف الأنظمة الاستبداديّة على بقائها - ولا يقصد جهة بعينها، إنّما يعبّر عن رسالة موجّهة إلى كلٍّ من حكومة "حماس" في قطاع غزّة، و"السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة" في الضفّة الغربيّة، والفصائل والأحزاب الفلسطينيّة كافّة، الّتي لها مشاركة سياسيّة.

 

 

يعرّف تشارلز تلي الحركات الاجتماعيّة، بأنّها تنظيمات شاملة، مؤلّفة من جماعات متنوّعة المصالح، تضمّ حال تشكّلها طبقات مهمّة من المجتمع، مثل العمّال والجماعات النسائيّة والطلّاب، إلى جانب العنصر الفكريّ. وما يجمع هذه القطاعات شعور عامّ بالضيم، نتيجة إدراك غياب الديمقراطيّة. ويذكُر مع سيدني تارو، أنّ الحركات الاجتماعيّة، "تتكوّن من تحدّ مستمرّ للسلطة، باسم السكّان الّذين يعيشون تحت حكمها، عن طريق إظهار الشعب لمدى جدارة السكّان، ووحدتهم، وأعدادهم، والتزامهم بالقضيّة".

وحسب ميلر، ثمّة أربع طرائق لانتهاء/ إنهاء الحركات الاجتماعيّة، أوّلًا: القمع، باستخدام السلطات العنف لتقويض الحركة الاجتماعيّة أو تدميرها، وغالبًا ما يضفي النظام صفة الشرعيّة، على هذه الإجراءات. ثانيًا: الدمج، وذلك بانخراط قادة الحركة في النظام، وتبنّي قيمه، بدل قيم الحركة الاجتماعيّة، أو بإعادة توجيه أنشطة الحركة، بما يخدم النظام. ثالثًا: النجاح، وذلك بتحقيق الأهداف الّتي ظهرت من أجلها الحركة الاجتماعيّة، ويحدث ذلك – غالبًا - عندما تكون الأهداف محدّدة للغاية. رابعًا: الفشل، وذلك على المستوى التنظيميّ، بسبب الفصائليّة الناتجة عن حدّة تدخّل الأحزاب في الحركة، والّتي تؤدّي إلى التغليف؛ أي الانعزال بسبب التشدّد في الأيديولوجيا. ويضيف جون ماسيونيس طريقة خامسة: التأسيس مع التيّار، على أن يتبنّى النظام السياسيّ أهداف الحركة الاجتماعيّة؛ فلا يَعُد ثمّة حاجة إليها.

وبتطبيق ذلك على حراك "بدنا نعيش" - وكذا الحراكات الّتي سبقته في قطاع غزّة - نجد أنّ المنظومة الحمساويّة تستخدم طريقتين رئيسيّتين، إضافةً إلى وجود عوامل أخرى غير مباشرة، بدءًا بالقمع؛ فقد تعرّض العشرات من المواطنين المشاركين في الحراك إلى الضرب المبرِّح بالهراوات، والاعتقال رجالًا ونساء، إضافةً إلى إطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين، وإصابة مجموعة منهم، وملاحقة المتظاهرين واقتحام البيوت، ولم يسلم من ذلك الصحافيّون؛ فمُنعوا من التغطية، وصودرت أجهزتهم، واعتُقل بعضهم، ومَنْ وثّق هذه الانتهاكات بالصور والفيديوهات، مجموعة من الأفراد عبر حساباتهم الشخصيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ. ويُظهر ما جرى تداوله الدرجة العنيفة من القمع، بما يشبه ما يتعرّض إليه الفلسطينيّون في الضفّة الغربيّة، من قِبَل السلطة "الوطنيّة الفلسطينيّة"، ما يذكّر بأغنية شادي زقطان وعماد الصيرفي "نشرة أخبار": "هَيْ في دوْريّة برّا، مش واضح لمين، لسّا بياخدوا أوامر، مش عارف من مين [...] لا تبكي ولا تعملّي حكاية، قولي إن شاء الله بسّ يكونوا يهود".

 

بيان رقم 1 الصادر عن حراك "بدنا نعيش"

 

ولم يقتصر الأمر على العنف المادّيّ، بل استُخدم العنف المعنويّ/ الرمزيّ، حين أجرت قوّات عسكريّة تابعة لـ "حماس"، عرضًا عسكريًّا على "مفترق الترنس" في مخيّم جباليا، تزامنًا مع الحراك؛ لترهيب الناس وإجهاض الحراك قبل أن يبدأ، من خلال التذكير بوجود قوّة أكبر لا يمكن مواجهتها؛ وفي ذلك بيان للنهج المستمرّ بخلط جدليّة السلطة – المقاومة وتفعيلها. وحاولت المنظومة/ الجماعة الحمساويّة تبرير ذلك بإضفاء الشرعيّة، بدايةً العرض العسكريّ بأنّ تزامنه صدفة غير مخطّط لها، والقمع بأنّ الحراك ليس لديه تصريح، وكأنّ الشعب ككلّ يحتاج إلى إذن أو وصاية، أو كأنّ ذلك يكفي لتبرير القمع التنكيليّ! وكذلك وصف المتظاهرين بأنّهم يُحدثون أعمال شغب.

أمّا الدمج والتأسيس مع التيّار، فذلك من خلال إظهار تبنّي مطالب الحراك، وتوجيهها ضدّ "السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة"، أو تغيير الشعارات إعلاميًّا، أو إشراك عناصر من المنظومة لإفساد الحراك، مثل دسّ شعار "ارحل يا عبّاس"، أو ادّعاء أنّ الأجهزة الأمنيّة التابعة لـ "حماس" تحمي المظاهرات، وكذلك من خلال الاتّهام بالتخوين والعمالة؛ أي تطبيق أجندة خارجيّة أو حزبيّة، وهو ما تعرّض إليه العديد من ناشطي الحراك، عن الاعتقال، قبل الحدث وبعده. وممّا يساعد على ذلك، محاولة بعض الأحزاب/ التيّارات تصدّر الحراك، لإضفاء شرعيّة على وجودهم وخدمة مصالحهم؛ إذ إنّ دورها غالبًا ما يكون سلبيًّا، أي تسييس/ تحزيب الحراك.

ويضاف إلى هذه الطرائق، صُنع العدوّ؛ كي تقمع بضمير مرتاح - حسب تعبير بيير كونيسا - حين أُطلقت مساء الخميس مجموعة من الصواريخ نحو الأراضي المحتلّة عام 1948، بعد فضّ الحراك ودعوات الناشطين إلى الخروج في يوم الجمعة 15 آذار (مارس) 2019 - على الرغم من وجود اتّفاق تهدئة برعاية مصريّة – وذلك على ما يبدو من أجل حرف بوصلة الناس وخياراتهم، وللتغطية إعلاميًّا على الحدث الأبرز. ومع ذلك، في تصريح صحافيّ لـ "وزارة الداخليّة والأمن الوطنيّ" التابعة لـ "حماس"، ثمّة تنصّل من مسؤوليّة إطلاق الصواريخ من قطاع غزّة، رغم أنّها مَنْ يسيطر على هذا القرار، ولا أحد يملك القدرة على الفعل بلا موافقتها، ويمكن تفسير هذا الإنكار بعدم تحمّل مسؤوليّة أيّ تصعيد محتمَل، أمام الداخل أو الخارج.

 

عرض عسكريّ لعناصر مسلّحة تابعة لـ "حماس" في منطقة مفرق الترنس

 

ويمكن إدراج ذلك في نهج الماذاعنيّة/ الماذالويّة (Whataboutism /Whatifism)، الّذي تتبنّاه المنظومة/ الجماعة الحمساويّة، من أجل تحوير القضايا بسبب عدم وجود حجج، وذلك في تبرير القمع والبقاء، ولمنع أيّ محاولة تعبير عن سخط أو تغيير؛ فعند المطالبة بتحسين الكهرباء، يأتي الردّ "ماذا عن المقاومة؟"، وعند المطالبة بإلغاء الضرائب، "ماذا عن عقوبات محمود عبّاس؟"، وعند النداء بالحرّيّات المدنيّة والسياسيّة، "ماذا لو حكمت السلطة أو إسرائيل؟"، وعند الدعوة إلى الحراك مرّة أخرى، "ماذا عن معركتنا مع الاحتلال؟".

صحيح أنّ حراك "بدنا نعيش" اجتماعيّ بحت؛ أي ليس له أيّ مطالب سياسيّة، لكن ما تفهمه المنظومة الحمساويّة، أنّ ذلك تعبير عن فشل إدارتها، ورفض الشعب لوجودها ككلّ، حتّى لو لم يُستخدم شعار "إسقاط النظام"، ولا سيّما بعد استهلاك الشعارات الأيديولوجيّة "المقاومة، التحرير، العودة... إلخ"، المستخدمة لإضفاء الشرعيّة لأكثر من اثني عشر عامًا منذ أحداث الانقسام الفلسطينيّ؛ إذ لم تعد تكفي، لذلك يكون تفعيل ماكينة القمع، فلا تختلف في ذلك عن باقي الأنظمة الاستبداديّة، الّتي تعمل على إقصاء المواطنين من الميدان العامّ إلى مجالاتهم الخاصّة، وتطالبهم بالانصراف إلى شؤونهم وأعمالهم، لكن هنا لا تتركهم حتّى ينصرفوا إلى عاديّاتهم الحياتيّة، بسبب عدم وجود أيّ موارد تمكّنهم من ذلك.

 

احتكار إدارة شؤون موت الغزّيّ

يمكننا الاستفادة من كتاب "صور موت الفلسطينيّ" في مسألتين تضمّنهما الكتاب، كإطار نظريّ نقرأ من خلاله المنظومة الحمساويّة - طبعًا مع الاختلاف والمفارقات الكثيرة بين تناول المنظومة الحمساويّة، والنظام الصهيونيّ، على المستويات البنيويّة والوطنيّة الفلسطينيّة، الّتي لا حاجة إلى شرحها - فيرى إسماعيل ناشف، أنّه نظرًا إلى آليّة عمل النظام الاستعماريّ الصهيونيّ، الّذي احتكر ممارسة موت الفلسطينيّ، وقتلَ الفلسطينيّ - كلّ فلسطينيّ - مادّيًّا واجتماعيًّا في لحظة 1948، تُصبح فكرة العودة ترجمة لتحرير "إدارة شؤون الموت الفلسطينيّة"، ولا سيّما أنّه يواصل تفعيل الحدث النكبويّ - سيناريو عام 1948 - على كلّ واحدة من جماعات المجتمع الفلسطينيّ، الناتجة من النكبة. ويرسم ناشف العلاقة بين الاغتيال - الاعتقال والمجزرة؛ كون الاستهداف بالاغتيال والاعتقال يُنتج شكل مواجهة، تُبنى من خلالها آليّات المجزرة، بوصفها نتيجة تسلسل "حرب" ما، و/ أو "انتفاضة" عارمة؛ ويعطي مثالًا على ذلك، ما حدث يوم الأرض 30 آذار (مارس) 1976.

 

 

وإذا استخدمنا هذه المقاربة، فإنّ نهج المنظومة الحمساويّة، بوصفها - حسب نظريّة روبرت بلاونر - استعمارًا داخليًّا، ككلّ الأنظمة الاستبداديّة، يقوم على احتكار الإدارة الفلسطينيّة الذاتيّة لشؤون موت الغزّيّ، تحت الإدارة الاستعماريّة الإسرائيليّة له، بحصرها فعل المقاومة في نفسها؛ أي أنّها تؤدّي دورًا في تحديد متى يموت الغزّيّ وكيف، ومن ثَمّ كيف عليه أن يحيا؛ فما تفعله "حماس" بحقّ الغزّيّين، باستغلال ظروف وأحداث يعيشها القطاع، أو تجييرها لصالحها، لا يحقّق إلّا مصلحة المنظومة/ الجماعة الحمساويّة، وهذا تكرار للحدث الغزّيّ المؤسّس، المتمثّل في أحداث الاقتتال الفلسطينيّ - الفلسطينيّ عام 2007. ويمكن التدليل على ذلك من خلال قراءة الردّات الحمساويّة على فعل الآخر - غير الحمساويّ - في مقاومة الاحتلال من جهة، ومحاولاته لإصلاح النظام/ الوضع القائم من جهة أخرى.

ففي 30 آذار (مارس) 2011، منعت المنظومة الحمساويّة، تظاهرة سلميّة لإحياء الذكرى الخامسة والثلاثين ليوم الأرض، واعتدت على المشاركين والصحافيّين بالضرب، واعتقلت عددًا منهم. وفي عام 2013، اعتقلت مجموعة من الناشطين المشاركين في تظاهرة ضدّ مخطّط برافر الصهيونيّ - العنصريّ؛ بذريعة عدم الحصول على تصريح للتظاهر! وكذلك في غالب أحداث المقاومة الشعبيّة، تحاول دائمًا تصدُّر المشهد والتفرّد به، وتحويره وفق مصلحتها، والمثال الأخير على ذلك، مسيرات العودة الكبرى. وفي المقاومة المسلّحة، رغم وجود تنظيمات أخرى مثل "الجهاد الإسلاميّ" وغيره، إلّا أنّ الكلمة الفصل، في قرار خوض الحرب أو التزام الهدنة، تقرّرها هي، وكذلك متى يكون إطلاق الصواريخ مقاومة، ومتى تصبح "مشبوهة".

أمّا الحراكات الاجتماعيّة والتظاهرات، سواء الافتراضيّة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو على أرض الواقع، فدائمًا ما يتكرّر الحدث الغزّيّ المؤسّس معها، وبنفس أساليب القمع. وفي حراك "بدنا نعيش"، تبيّنت بشكل واضح العلاقة بين المقاومة والقمع - مثل العلاقة بين الاعتقال والمجزرة - إذ بعد خروج الحراك وقمعه، كانت محاولة خلق بيئة حرب، لمنع تكراره، والتوجيه نحو العدوّ الخارجيّ - وهنا تلعب المنظومة الحمساويّة باستمرار على وتر الأولويّة؛ ممّن نتخلّص أوّلًا؟ الاستبداد أم الاحتلال؟  لكن إن حدث فخرج الحراك مرّة أخرى، يُقمَع من باب النتيجة لا السبب؛ أي القمع بحجّة التخوين/ العمالة، كون المنظومة تعيش حربًا مع آخر؛ أستختار الوقوف معها أم في صفّ الآخر؟ حيث يصبح أيّ فعل ضدّ المنظومة، فعلًا ضدّ المقاومة، فيخدم الاحتلال، ويصبح الفاعل عميلًا؛ إذن، قمعه مبرّر ومشروع.

 

 

وهو ما يندرج تحت بند استخدام القضايا العادلة أداةً لتبرير الاستبداد/ الظلم؛ وذلك بتطبيع الظلم، من خلال فئة تمثّل دور الضحيّة كوظيفة، وتقصي الضحايا العينيّين، وقد يُدعى الضحايا ليكونوا "الضحيّة الحقيقيّة"، وفي ذلك استخدام الحروب بديلًا للانتخابات؛ أي تجديد الشرعيّة المتخيّلة داخليًّا وخارجيًّا، كون كلّ ما يحدث هو جرّاء مقاومتنا للاحتلال، وهو التساؤل الّذي يُطرح دائمًا: إن اندلعت الحرب، فمَنِ المستفيد؟ ومَنِ الخاسر؟ وتبدو الإجابة واضحة لدى الطرفين، ولا سيّما في ظلّ وجود حدث مثل حراك "بدنا نعيش".

لكن ولو كان الشعب رغم اختلافه ورفضه للمنظومة و/ أو الجماعة الحمساويّة في السلم، إلّا أنّه يقف خلف المقاومة، بوصفها تقاتل من أجل هدف وطنيّ، تشترك فيه معها - وهنا التوصيف بالغيريّة؛ كون المنظومة هي مَنْ تتعامل بهذه المنهجيّة - ويخسر الشعب أكثر منها، وكذلك لا يكسب شيئًا؛ كونه يخوض معركة لا إرادة ولا قرار له فيها، وهو نفسه مَنْ يموت ويخسر منزله، وأقدامه في مسيرات العودة، كلّ ذلك من أجل رمزيّة المقاومة... لكن هل وقفت المنظومة الحمساويّة مع الشعب كما فعل هو تجاه المقاومة؟

يعالج فيلم "V for Vendetta" قضيّة التغيير في بلد يحكمه نظام شموليّ؛ يكون ذلك من خلال نزع المقدّس من قداسته؛ فالقيام بتفجير قصر وستمنستر مدخلًا لتأسيس ديمقراطيّة، لا يكون بوصفه مبنًى، بل فكرة/ رمزًا؛ إذ إنّ المبنى يتحوّل إلى رمز يكتسب القداسة، بحيث يحرّم الحديث فيه أو حتّى التفكير في إزالته، وكذلك الأمر لدى الجيش العسكريّ/ المقاومة؛ فالجيش ليس مادّة، بل فكرة؛ أي اتّخذ فكرة القداسة في عين المواطن، بسبب العنف/ الاستبداد الّذي ترسّخ على مدار التاريخ، ومن ثَمّ ما يمنع الناس من التغيير/ يجرّد عنهم سلاحهم، هو التاريخ لا الخصم.

والأهمّ في حراك "بدنا نعيش"، حتّى لو أُجهض كاملًا، أنّه عرّى الشعار الّذي يختبئ خلفه كلّ أشكال سلطويّة المنظومة الحمساويّة؛ أي حرّر إدارة شؤون موت الغزّيّ، سواء بالقصد أو الصدفة؛ فيكون قد حقّق النجاح الأكبر غير المعلَن. والمطالب تأتي تباعًا، بتكرار هذه الحراكات وإشغال الفضاء العامّ، وصولًا إلى التغيير الكامل في المنظومة الفلسطينيّة ككلّ، ليغدو المواطن هو مَنْ يقرّر، لا طرفا الانقسام.

 

 

مجد أبو عامر

 

 

شاعر وقاصّ من مواليد غزّة عام 1996. حاصل على بكالوريوس الحقوق من جامعة فلسطين، ويدرس ماجستير العلاقات الدوليّة والعلوم السياسيّة، في معهد الدوحة للدراسات العليا. عضو اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، صدر له المجموعة الشعريّة "مقبرة لم تكتمل"، ويعمل محرّرًا في "مجلّة 28" الغزّيّة.

 

 

التعليقات