11/12/2019 - 18:25

السعودية... أكتم صوتك ثم أقول لك: نعم، إنها الليبرالية!

السعودية... أكتم صوتك ثم أقول لك: نعم، إنها الليبرالية!

spector

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في تاريخ 4/11/2019، نشرت "منظّمة هيومن رايتس ووتش" تقريرًا أوردته تحت عنوان: "الثمن الفادح للتغيير: تشديد القمع في عهد محمّد بن سلمان يشوّه الإصلاحات"، وقد وثّقت المنظّمة في تقريرها جانبًا من الممارسات القمعيّة والتعسّفيّة الّتي تقوم بها السلطات السعوديّة، وتستهدف عبرها المعارضين والناشطين السعوديّين، وذلك منذ منتصف صيف عام 2017، وتزامنًا مع تعيين الملك سلمان بن عبد العزيز نجله محمّد بن سلمان وليًّا للعهد في المملكة[1].

 

انفتاح اجتماعيّ وانغلاق سياسيّ

ومنذ تعيينه وليًّا للعهد، تولّى ابن سلمان مهمّة الحكم الفعليّ والإدارة اليوميّة، وأجرى تغييرات تبدو إيجابيّة من حيث أجواء الانفتاح، وقدّم نفسه للعالم من بوّابة الليبراليّة الاجتماعيّة؛ إذ فتح المجال أمام الحرّيّات الاجتماعيّة في صيغتها الشكليّة المعتادة: حرّيّة اختيار نمط الحياة والحيّز الخاصّ، إلّا أنّه رافق أجواء الانفتاح الاجتماعيّ ذاك بأجواء انغلاق سياسيّ تامّ، حين قمع حرّيّة الفعل والتعبير في المجال العامّ، وذلك عبر موجات من حملات اعتقال جرت بين عامَي 2017 و2018، وطالت معارضين حاليّين ومحتملين للسياسات الحكوميّة السعوديّة، منهم رجال دين ومثقّفون وناشطون حقوقيّون، وتحديدًا في أيلول (سبتمبر) 2017، ومنهم مدافِعات بارزات عن حقوق المرأة، وتحديدًا في أيّار (مايو) 2018[2].

معظم مَنْ طالتهم حملات الاعتقال من الإصلاحيّين والإصلاحيّات، الّذين طالما دعوا إلى الانفتاح والإصلاح على المستويات الاجتماعيّة، وكذلك الفكريّة والسياسيّة، وكأنّ ابن سلمان بذلك سجن مَنْ قضوا حيواتهم في الدعوة والنضال من أجل إصلاحات هو نفسه انفتح عليها

ثمّ إنّ المفارقة الّتي تبرز هنا، أنّ معظم مَنْ طالتهم حملات الاعتقال من الإصلاحيّين والإصلاحيّات، الّذين طالما دعوا إلى الانفتاح والإصلاح على المستويات الاجتماعيّة، وكذلك الفكريّة والسياسيّة، وكأنّ ابن سلمان بذلك سجن مَنْ قضوا حيواتهم في الدعوة والنضال من أجل إصلاحات هو نفسه انفتح عليها[3]!

وإنّ المفارقة السابقة بما تُنتجه من نظام سياسيّ، يتبنّى شكل الليبراليّة الاجتماعيّة، مع إهمال كلّيّ لأشكال الليبراليّة السياسيّة الأخرى، تجعل السؤال حول شكل الليبراليّة الحقّة المطلوبة في المملكة اليوم سؤالًا مشروعًا.

 

 مذهب الحرّيّة

ضمن سياق الإجابة عن السؤال السابق، يمكن القول إنّ الليبراليّة تقوم بالأساس على مبدأ الحرّيّة، حرّيّة الفرد، وهذا هو معنى مصطلح "الليبراليّةLiberalism " المأخوذ من لفظة "حرّيّة Liberty"، الّتي ترجع إلى الاسم اللاتينيّ "حرّيّةLibertas " المشتقّ من الصفة "حرّ Liber"؛ فلفظة "حرّ" الأخيرة تأتي لتدلّل على وضع اجتماعيّ يكون فيه الفرد حرًّا ومنعتقًا من كلّ أشكال العبوديّة، ومن ضمنها الأسر والسجن والجزية، حيث يعيش في أجواء يغيب عنها الذلّ والقهر والقسر والإرغام والإجبار والإكراه، وغيرها من المعوّقات في جميع الأفعال والاختيارات والقرارات؛ فالليبراليّة مذهب الحرّيّة، تحمل في اسمها ومضمونها معنى الحرّيّة وتقود إليه[4].

فالليبراليّة من الناحية الفكريّة تعني "حرّيّة" الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصاديّة تعني "حرّيّة" الملكيّة الشخصيّة، و"حرّيّة" الفعل الاقتصاديّ المنتظم وفق قانون السوق، وعلى المستوى السياسيّ تعني "حرّيّة" التجمّع، وتأسيس الأحزاب، واختيار السلطة الحاكمة

وإنّ أهمّيّة مقولة الحرّيّة في الليبراليّة لا تأتي فقط من كونها مبدأً أساسيًّا تقوم عليها، بل تأتي أيضًا من أنّها تُشكّل أساس ارتكاز لغيرها من المبادئ الّتي تتأسّس عليها الليبراليّة؛ فالليبراليّة من الناحية الفكريّة تعني "حرّيّة" الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصاديّة تعني "حرّيّة" الملكيّة الشخصيّة، و"حرّيّة" الفعل الاقتصاديّ المنتظم وفق قانون السوق، وعلى المستوى السياسيّ تعني "حرّيّة" التجمّع، وتأسيس الأحزاب، واختيار السلطة الحاكمة[5].

الحرّيّة في الليبراليّة مقولة يتأسّس عليها قيام نموذج نظام سياسيّ، يجعل من الحرّيّة حقًّا أساسيًّا للأفراد والجماعات على المستويات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، حيث تسود في المجالات الخاصّة والعامّة، وتُرى تمظهراتها في شكل الحركة السياسيّة السائدة في الدولة.

 

قاصرة ونفعيّة

وبالعودة إلى المملكة العربيّة السعوديّة، يمكن القول إنّ أجواء الانفتاح الاجتماعيّ الّتي تدخل ضمنها مظاهر قيادة المرأة للسيّارة، وإقامة الحفلات العامّة المختلطة وغيرها، الّتي يسعى ابن سلمان لتقديم نفسه للعالم من خلالها، كأنّه مخترع لليبراليّة وعرّابها، هي على إيجابيّاتها تأتي نموذجًا مجتزأ أو قاصرًا لليبراليّة بمعانيها ومضامينها الكلّيّة؛ لأنّها تقصر الليبراليّة وتحصرها في حقّ الأفراد في حرّيّة اختيار نمط الحياة والسلوك الاجتماعيّ، دون الالتفات إلى حقوقهم الأخرى في التعبير والتفكير والاعتراض والانتقاد.

ليبراليّة ابن سلمان تمثيل شديد الوضوح على الليبراليّة الديكتاتوريّة النفعيّة، تلك الّتي تتعاطى مع حقّ الحرّيّة بشكل انتقائيّ، فتمنحها في المجالات الفرديّة والخاصّة، بما يتوافق ويتواءم مع رؤيتها الّتي تسعى إلى فرضها على المجتمع، وتمنعها في المجالات الجماعيّة والعامّة

وتبعًا لذلك، فإنّ ليبراليّة ابن سلمان تمثيل شديد الوضوح على الليبراليّة الديكتاتوريّة النفعيّة، تلك الّتي تتعاطى مع حقّ الحرّيّة بشكل انتقائيّ، فتمنحها في المجالات الفرديّة والخاصّة، بما يتوافق ويتواءم مع رؤيتها الّتي تسعى إلى فرضها على المجتمع، وتمنعها في المجالات الجماعيّة والعامّة، الّتي ترى فيها خطر انبثاق محتمل لحركة سياسيّة تُطالب بإصلاحات لها علاقة بالديمقراطيّة وتغيير شكل الحكم والنظام الحاكم، وكأنّها ليبراليّة تتحرّك وفق منطق نفعيّ وذرائعيّ بحت[6].

 

دون أن...

أخيرًا، فإنّه يمكن النظر إلى الليبراليّة الاجتماعيّة الّتي تسود أجواء المملكة العربيّة السعوديّة آنيًّا، باعتبارها تُمثّل أبشع أشكال الاختزال والتسطيح لليبراليّة بمفهومها ومعناها الحقيقيّ، بصفتها حرّيّة فكريّة وسياسيّة، تتجاوز في تمظهراتها أنماط الحياة الحديثة (الموديرن)، والحفلات الغنائيّة الصاخبة والمختلطة، إلى تمظهرات أخرى، يمكن صحافيًّا مثل جمال خاشقجي أن يكتب تغريدة، يقول فيها بحرّيّة تعبيريّة كاملة: "مع صعود وليّ العهد الأمیر محمّد بن سلمان إلى السلطة، تعهّد بتبنّي إصلاحات اجتماعیّة واقتصادیّة، وتحدّث عن جعل بلادنا أكثر انفتاحًا وتسامحًا، وتعهّد بأنّه سیعالج الأشیاء الّتي أعاقت تقدّمنا، مثل فرض الحظر على قیادة النساء، لكن كلّ ما أراه هو الموجة الأخیرة من الاعتقالات"[7]، دون أن تُنشر أجزاؤه وتُقطع رقبة صوته!

..........

إحالات:

[1]  هيومن رايتس ووتش، السعوديّة: تغيير فادح الثمن (إصلاحات مقترنة باعتقالات وتعذيب وقتل)، 4/11/2019، شوهد في 30/11/2019، في: https://bit.ly/2LfE4PI

[2] هيومن رايتس ووتش، الثمن الفادح للتغيير: تشديد القمع في عهد محمّد بن سلمان يشوّه الإصلاحات، 11/2019، ص 1-2.

[3] رامي منصور، "الليبراليّة على الطريقة السعوديّة"، قناة العالم، 25/10/2018، شوهد في 30/11/2019، في: https://bit.ly/35UuVEk

[4]  يُمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة (مؤسّسة هنداوي سي آي سي)، ص19.

[5] وحدة الدراسات في مركز صناعة الفكر، الليبراليّة في السعوديّة؛ الفكرة ... الممارسات ... الرؤى المستقبليّة (رصد وتحليل)، ط1 (مؤسّسة الانتشار العربيّ، 2013)، ص 33.

[6]  محمود البازي، "رؤية 2030 السعودية... هل هي ليبراليّة اجتماعيّة أم توحّش سياسيّ"، رأي اليوم، 3/9/2019، شوهد في 30/11/2019، في: https://bit.ly/33DFHxj

[7]  الثمن الفادح للتغيير...، ص1.

 

 

إسراء عرفات

 

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في مختلف المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

التعليقات