08/02/2020 - 21:40

كيف يقاوم الفلسطينيّون؟

انتهج الفلسطينيّون المقاومة في النسق اليوميّ، وطوّروا منها أنماطًا مختلفة، ليتقنوا بذلك فنّ الحياة والعيش في الظروف الصعبة الّتي يواجهون فيها الاستعمار، الّذي غالبًا ما يُشار إليه بـ "الصمود"، بمعنى الثبات.

كيف يقاوم الفلسطينيّون؟

إسماعيل العدرة، فلّاح فلسطينيّ من منطقة الخليل

 

المقاومة في النسق اليوميّ

اتّخذت المقاومة الفلسطينيّة منذ النكبة أشكالًا متعدّدة، على امتداد الزمن والظروف الّتي يعيشها الشعب الفلسطينيّ على اختلاف أوضاعه وأماكن وجوده، لكن تبقى الصورة النمطيّة الّتي يحملها الفلسطينيّون في أذهانهم حول المقاومة، تلك المادّيّة في طابعها، أي تلك الّتي يتخلّلها قدر من العنف، وتبقى هي المعيار الّذي يُحَدَّد به ما إذا كان الفرد الفلسطينيّ مقاومًا، وإلّا قد تُنتزع عنه تلك السمة.

تأتي هذه المقالة لتُبرز نمطًا مختلفًا من المقاومة الفلسطينيّة، وهي المقاومة الرمزيّة، أو ما يُطلِق عليها جيمس سكوت "المقاومة في النسق اليوميّ"، وهي تلك الّتي يمارسها الفرد الفلسطينيّ في حياته اليوميّة، بحيث تتّخذ حيّزًا من روتينه اليوميّ أو تتّسم بكونها أفعالًا صغيرة الحجم والنطاق، وصعبة الملاحظة.

زاد الاهتمام بدراسة المقاومة وأشكالها من قِبَل الباحثين في مجال العلوم الاجتماعيّة، خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حين وجّهوا تركيزهم نحو الاختلافات في الحياة اليوميّة...

إنّ التركيز على هذا النمط من المقاومة من الأهمّيّة بمكان، كونه يُسكت العديد من الانتقادات الّتي تُلاحق الكثير من الفلسطينيّين اليوم، والمتعلّقة بعدم لجوئهم إلى وسائل المقاومة التقليديّة العنيفة، والظنّ بأنّ الفلسطينيّ لم يعُد يقاوم لمجرّد توقّفه عن انتهاج هذا الشكل من المقاومة المادّيّة؛ فتطرح المقالة عددًا من الأسئلة النقاشيّة، مثلًا: هل يجب على المقاومة الفلسطينيّة أن تتّخذ طابعًا مادّيًّا لكي تُسمّى مقاومة؟ وهل يقاوم الفلسطينيّ بشكل حقيقيّ إذا اتّخذت مقاومته أشكالًا رمزيّة؟ وكيف تُثبت المقاومة في النسق اليوميّ نجاعتها وتأثيراتها؟

تحاول المقالة الإحاطة بجميع هذه التساؤلات، من خلال الاستعراض النظريّ للمقاومة في النسق اليوميّ ومحدّداتها، وما طوّرته من أشكال للحراكات الاجتماعيّة، والأهمّيّة الّتي تكتسبها في السياسة الجزئيّة، وانتهاءً بإيجاد نماذج من السياق الفلسطينيّ ينطبق هذا المفهوم عليها.

 

اللّاحراكات الاجتماعيّة: للمقاومة أشكال أخرى

زاد الاهتمام بدراسة المقاومة وأشكالها من قِبَل الباحثين في مجال العلوم الاجتماعيّة، خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي[1]، حين وجّهوا تركيزهم نحو الاختلافات في الحياة اليوميّة؛ فقد أسهمت الإثنوغرافيا النسويّة تحديدًا، من خلال اشتغالها على السياسة الجزئيّة (Micro-Politics) للنوع في مجتمعات مختلفة، بتحريك اهتمام حقل الأنثروبولوجيا نحو المقاومة. وبمجرّد إعادة تعريف الذات بمفردات سياسيّة، أصبح من الممكن إعادة صياغة إستراتيجيّات البقاء اليوميّة بصفتها أشكالًا خفيّة لتمرُّد "التابع". ويتماشى هذا التركيز على المقاومة مع المشروع الفوكويّ لاستكشاف السلطة. ومثل فكرة الأيديولوجيا، ساعدت المقاومة على إتاحة فضاء يمكن من خلاله اتّهام أيّ شخص بامتلاك وعي برجوازيّ، ومن هنا تميل المقاومة إلى الانتشار من سياقات القمع السياسيّ إلى مختلف أشكال الثقافة الشعبيّة؛ فالمقاومة وسيلة مثاليّة للتعبير عن الحماسة الأخلاقيّة، لأنّها غامضة للغاية، بحيث تُترك لحُكم الناظر إليها[2].

استُخدم مفهوم المقاومة بشكل مختلف ومتفاوت بين الباحثين، للإشارة إلى مجموعة واسعة من السلوكات والإجراءات الّتي تُمارَس على مستويات مختلفة؛ فيصبح الإجماع على شكل واحد من أشكال المقاومة أمرًا صعب الحدوث، إلّا أنّ أكثرها دراسةً المقاومة المادّيّة/ الفيزيائيّة؛ ويُعنى بها الحراكات الاجتماعيّة والمظاهرات، والسياسة الاحتجاجيّة، والأعمال الّتي قد تتضمّن استخدامًا للمقاومة الدراميّة كالعنف. وثمّة وسائل أخرى فعّالة بعيدًا عن الحراكات الاجتماعيّة، الّتي يدور الجدل حول مفاهيمها، إن كانت قادرة على تفسير مختلف التشابكات والتعقيدات والتغيّرات، لكنّنا نرى أنّ هذه المفاهيم - المتعلّقة بالمقاومة غير المادّيّة - يمكنها تفسير أنماط المشاركة السياسيّة المعقّدة في العالم العربيّ، ولا سيّما في السياق الفلسطينيّ.

هذه الديناميّات من المقاومة الّتي يشترك في تجسيدها فاعلون من الناس العاديّين، هي ما يُطلَق عليه "اللّاحراكات الاجتماعيّة"، الّتي يُعرّفها آصف بيّات على أنّها "الأفعال الجمعيّة لفاعلين غير جمعيّين؛ فهم يجسّدون ممارسات مشتركة لأعداد كبيرة من الناس العاديّين الّذين تؤدّي أنشطتهم المتشابهة والمتفرّقة في الوقت نفسه إلى إحداث تغيّر اجتماعيّ كبير

إنّ هذه الوسائل والممارسات ذات نطاق ضيّق، وتكون هي الخيار الأوّل حينما تكون المواجهة السياسيّة المباشرة مستحيلة، أو تتضمّن خطرًا[3]. وتختلف تجلّيات هذه المقاومة وتتفاوت، وتستخدم أساليب المكر والحيلة، كالعمل ببطء والسرقة من أرباب العمل[4]. إنّ هذه الديناميّات من المقاومة الّتي يشترك في تجسيدها فاعلون من الناس العاديّين، هي ما يُطلَق عليه "اللّاحراكات الاجتماعيّة"، الّتي يُعرّفها آصف بيّات على أنّها "الأفعال الجمعيّة لفاعلين غير جمعيّين؛ فهم يجسّدون ممارسات مشتركة لأعداد كبيرة من الناس العاديّين الّذين تؤدّي أنشطتهم المتشابهة والمتفرّقة في الوقت نفسه إلى إحداث تغيّر اجتماعيّ كبير، حتّى إن لم تكن هذه الممارسات موجّهة بأيديولوجيّة أو بقيادات معترف بها أو بتنظيمات"[5]، فهي تُشكّل كيانات مميّزة وفضاءات، يستطيع الناس العاديّون من خلالها أن يعبّروا عن مقاومتهم لمستويات مختلفة من الأنظمة القائمة. إنّ هذه الممارسة السياسيّة بعيدًا عن مؤسّسات الدولة، الّتي تكون غير منتظمة وغير مرئيّة، كتلك الّتي تُمارَس على مستوى المؤسّسات والمنظّمات الاجتماعيّة والمدنيّة، كالجماعات، والأفراد، واتّحادات العمّال، والجمعيّات المهنيّة، والنوادي الترفيهيّة وغيرها، هي ما يُطلَق عليها "السياسة غير الرسميّة"، وهي مهمّة بحيث تكون واسعة الانتشار والتأثير.

 

الاعتراف والنيّة

يرى آصف بيّات في نظريّته حول "اللّاحراكات الاجتماعيّة" أنّها تمزج بين كلٍّ من النشاط السياسيّ والحياة اليوميّة ببعض ممارساتها وأنشطتها، حينما تتجاوز هذه الأنشطة ما يُرى على أنّه اعتياديّ وطبيعيّ. وتمتاز الأفعال في اللّاحراكات الاجتماعيّة بأنّ تقديمها يكون من قِبل فاعلين في الحياة اليوميّة، أي أفعال تكون جزءًا من الروتين الاعتياديّ اليوميّ، وتُمارَس بشكل مستمرّ ودائم ومرِن، وتتّسم أيضًا بهدوئها وأنّها لا تسعى إلى لفت الانتباه، ما دامت المطالب المرجوّ تحقيقها مطالب فرديّة، وما دامت تتمّ بشكل مباشر. وعلى الرغم من أنّ الأفعال فرديّة، إلّا أنّ الهويّة المشتركة بين جموع كبيرة لهؤلاء الأفراد، تدفعهم إلى العمل بشكل جماعيّ؛ إذ يُضفون الشرعيّة على فِعلهم الّذي قد يتعرّض من قِبَل الأطراف المعادية للهجوم، أو الوصف على أنّه غير شرعيّ، فتعمل الهويّة المشتركة في هذه الحالة كعامل تعبئة، ودافعًا نحو العمل الجماعيّ المشترك[6].

إنّ اللّاحراكات الاجتماعيّة ليست مجرّد أفعال احتجاجيّة على وضع مُجحِف سائد، وإنّما أفعال تدفع باتّجاه التغيير، أو حتّى باتّجاه مقاومة التغيير، ومن ثَمّ فاللّاحراكات الاجتماعيّة تنطوي ضمنيًّا على فعل مقاومة سياسيّة، في النسق اليوميّ من حياة الجماعات التابعة أو المحكومين. ويُعرِّف جيمس سكوت المقاومة في النسق اليوميّ على أنّها "الأنشطة السياسيّة الّتي تتضمّن شكلًا من أشكال العمل الجماعيّ، ومن أهمّ الوسائل الفعّالة الّتي تعبِّر من خلالها الفئات الدنيا عن مصالحها السياسيّة". ويرى سكوت أنّه لا ينبغي التغاضي عن هذه الأفعال؛ لأنّها تُمثّل أكثر وسائل التعبير عن مصالح هؤلاء المحكومين ومطالبهم حيويّة. إنّ الهدف من عدم لفت الانتباه لفعل المقاومة اليوميّ والحرص على بقاء أعلامها مجهولةً، يكمن في الحصول على مكاسب آنيّة بطرق آمنة[7].

اللّاحراكات الاجتماعيّة ليست مجرّد أفعال احتجاجيّة على وضع مُجحِف سائد، وإنّما أفعال تدفع باتّجاه التغيير، أو حتّى باتّجاه مقاومة التغيير، ومن ثَمّ فاللّاحراكات الاجتماعيّة تنطوي ضمنيًّا على فعل مقاومة سياسيّة...

لقد أدّى جميع ما ذُكِر أعلاه من توسيع لمفهوم المقاومة في النسق اليوميّ، إلى الاستخدام العشوائيّ والتمييع للمفهوم وسيولة استخدامه، والمفاهيم ذات الصلة، وهو ما يقوّض فائدته التحليليّة.

ظهر بعض الدراسات الّتي حاولت رصد العوامل الّتي تُحدّد ما إذا كان الفعل مقاوِمًا أو لا، نرصد منها عاملَين أساسيَّين: الاعتراف؛ فثمّة أعمال يمكن ملاحظتها، لكن غير مُعترَف بها بالضرورة بصفتها مقاومة، من قِبَل مَنْ يمتلكون السلطة، ويتضمّن ذلك الكثير ممّا يُشير إليه سكوت بأعمال المقاومة اليوميّة. على سبيل المثال، يمكن أن يكون استخدام الفكاهة وسيلة لِمَنْ لديهم أوضاع سيّئة للتعبير سرًّا عن مقاومة الأقوى، لكنّ الاعتراف بالفعل المقاوم يعتمد جزئيًّا على أهداف المقاومين؛ فقد تهدف بعض المقاومة إلى أن يجري التعرُّف عليها، في حين يجري إخفاء مقاومة أخرى عن قصد.

أمّا العامل الثاني فهو النيّة، وعلى وجه الخصوص، قضيّة الوعي؛ أي هل يجب أن يكون الفاعل مدركًا أنّه يقاوم ممارسات السلطة؟ وغالبًا ما تركّز الأسئلة حول النيّة على أعمال المقاومة ذات النطاق الضيّق واليوميّة؛ وذلك لأنّ الباحثين يتّفقون عمومًا على أنّ الحراكات والثورات الجماهيريّة واضحة القصد والنيّة[8].

 

روتينيّة المقاومة الفلسطينيّة

اكتسبت المقاومة الفلسطينيّة خبرة في الطرق والأساليب؛ فقد بدأت جريئة وعنيفة متّخذةً شكل الاحتجاجات والإضرابات والمقاومة المسلّحة والعمل الفدائيّ، الّتي اتّسمت بلفتها للنظر، نجد بعضها متجسّدًا في انتفاضتَي عامَي 1987 و2000 مثلًا، وقبلها حوادث اختطاف الطائرات، ونسف المطارات، واقتحام السفارات ونسفها، واغتيال القيادات الإسرائيليّة خلال حقبة السبعينات من قِبَل "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين"، وصولًا إلى المقاطعات الواضحة والصريحة من جانب "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضدّ إسرائيل" (BDS)، من خلال تنظيم الحملات على وسائل التواصل الاجتماعيّ بشكل رئيسيّ، والمظاهرات والاحتجاجات الّتي تستهدف الشركات الّتي لديها عقود مع الجيش الإسرائيليّ، أو مع شركات في المستوطنات الإسرائيليّة، ومع الأفراد البارزين الداعمين للمستوطنات.

ثمّة حاجة إلى تتبّع هذا الشكل من المقاومة؛ فهي ذات طابع مرِن ومتغيّر، وتتّسم بتطوير وسائلها المستمرّ، بالإضافة إلى أنّه لا يمكن قمعها بسهولة، ومن هنا تبرز صلابتها ومرونتها في آنٍ واحد...

وإلى جانب طرائق المقاومة أعلاه، انتهج الفلسطينيّون المقاومة في النسق اليوميّ، وطوّروا منها أنماطًا مختلفة، ليتقنوا بذلك فنّ الحياة والعيش في الظروف الصعبة الّتي يواجهون فيها الاستعمار، الّذي غالبًا ما يُشار إليه بـ "الصمود"، بمعنى الثبات، وهو مفهوم يُستخدم غالبًا لوصف نوع من القوّة الداخليّة أو الشجاعة عند الفلسطينيّين، للمواجهة والعيش في الظروف القاسية منذ ما قبل النكبة وعبرها وبعدها. ثمّة حاجة إلى تتبّع هذا الشكل من المقاومة؛ فهي ذات طابع مرِن ومتغيّر، وتتّسم بتطوير وسائلها المستمرّ، بالإضافة إلى أنّه لا يمكن قمعها بسهولة، ومن هنا تبرز صلابتها ومرونتها في آنٍ واحد، وهي تتّخذ في السياق الفلسطينيّ بالتحديد أهمّيّة خاصّة، ويمكن التعويل عليها من حيث إنّها مقاومة، وتُسهم في الحفاظ على الهويّة الفلسطينيّة، وفي بناء جماعة موحّدة، ويُلجَأ إليها أيضًا في حال انتفاء المقاومة المادّيّة/ العنفيّة؛ إذ لا يمكن تدميرها بسهولة. نُشير في ما يأتي إلى مجموعة من النماذج الّتي تنطبق على المفهوم.

 

أ. المقاومة الإلكترونيّة: يمكن الكيبورد أن يصير حجرًا

شبكات التواصل الاجتماعيّ إحدى الوسائل الّتي يوظّفها الفرد الفلسطينيّ في حياته اليوميّة، وهي متوفّرة باستمرار وزخم في أيّامنا، ويستطيع الفرد أن يستغلّها بطرق مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، استطاع الفلسطينيّون أن يقاوموا الحظر والمنع من النشر والتهديد بحذف حساباتهم من على موقع التواصل الاجتماعيّ - فيسبوك، إن تكرّر استخدامهم كلمات تتعلّق بالمقاومة الفلسطينيّة في منشوراتهم، خاصّة بعد اتّفاقيّة التعاون بين إسرائيل وإدارة فيسبوك، للقضاء على ما أسموه "الإرهاب الإلكترونيّ" ومواجهة "المضامين التحريضيّة" ضدّ إسرائيل، حتّى أصبح المدوّنون الإلكترونيّون يستخدمون كلمات ملتوية؛ فاستخدام كلمة "حماس" مثلًا يعرّض صاحب المنشور للحظر من قِبَل فيسبوك، وهو ما أدّى بهم إلى استبدال طريقة كتابتها، مثل "حمااس"، أو "حمـ اس"، أو غير ذلك.

ثمّة أيضًا قراصنة الإنترنت (الهاكرز) في فلسطين، الّذين يقاومون من خلال اختراق الحسابات الإسرائيليّة، خاصّة البارزين منهم، مثل بنيامين نتنياهو وشمعون بيريز وأفيخاي أدرعي وجلعاد شاليط، ما دفع العديد منهم إلى تعطيل حساباتهم على فيسبوك خشية الاختراق، وقد أعلن نتنياهو تكريس الجهود لمحاصرة التحريض على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وملاحقة الفاعلين في حملات التحريض.

 

ب. المقاومة داخل السجن: اعتقال المقاوم لا المقاومة

أوجد الأسرى المعتقلون في السجون الإسرائيليّة طرقًا لمقاومة الاعتداءات، من خلال مجموعة متنوّعة من الممارسات الجماعيّة، مثل الإضرابات عن الطعام، فضلًا عن الممارسات الفرديّة، مثل أن تُشغَر دورات المياه لفترات طويلة في أثناء انتظار حارس/ ة السجن في الخارج، ورفض التعاون أثناء الاستجواب، أو المشي ببطء شديد بينما يُطلَب منهم العكس.

يُعَدّ الإضراب المفتوح عن الطعام في السجون من أكثر وسائل النضال أهمّيّة وخطورة، من حيث تأثيراتها الجسديّة والنفسيّة في المعتقل، وكذلك في السلطات الإسرائيليّة، الّتي عادةً ما يلجأ إليها الأسير الفلسطينيّ بعد استنفاد وسائل النضال الأخرى

بالإضافة إلى ذلك، يُعَدّ الإضراب المفتوح عن الطعام في السجون من أكثر وسائل النضال أهمّيّة وخطورة، من حيث تأثيراتها الجسديّة والنفسيّة في المعتقل، وكذلك في السلطات الإسرائيليّة، الّتي عادةً ما يلجأ إليها الأسير الفلسطينيّ بعد استنفاد وسائل النضال الأخرى. وتصل خطورة الإضراب المفتوح عن الطعام إلى حدّ استشهاد الأسير؛ إذ استشهد كثيرون في أثناء إضرابهم، أوّلهم عبد القادر أبو الفحم عام 1970. أمّا أوّل تجربة إضراب فقد كانت عام 1968، في سجن نابلس، واستمرّت ثلاثة أيّام. وتُجابه سلطات السجون هذه الإضرابات بطرق عنيفة؛ بالاعتداء على المعتقل باستخدام الكلاب البوليسيّة والغاز، وعزلهم في زنازين انفراديّة سيّئة الأوضاع، وإجبارهم على الشرب من صنابير الحمّامات، ومحاولة مساومتهم بجميع الطرق لفكّ إضرابهم، ودون ذلك.

 

ت. المقاطعة

إلى جانب حملات المقاطعة المنتظمة، وأشهرها "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضدّ إسرائيل" (BDS)، فإنّ الفلسطينيّين يعملون على مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيليّة، باعتبارها إحدى وسائل المقاومة للوقوف ضدّ الاستيطان، وتشمل المقاطعة محاكمة مُروّجي هذه المنتجات أمام القضاء ووضع المنتجات الفلسطينيّة بدلًا منها؛ فخلال حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيليّة عام 2010 على سبيل المثال، "انخفضت نسبة الاستهلاك والشراء الفلسطينيّ للمنتجات الإسرائيليّة بمعدّل 35% خلال الأشهر الثلاثة الأولى، حسب رئيس الغرفة التجاريّة الإسرائيليّة"[9].

 

ث. مقاومة "الأبارتهايد"

يقفز كثير من العمّال الفلسطينيّين من على جدار الفصل العنصريّ، عبر سلالم من الحبال، للوصول إلى القرى والمدن الّتي يعملون فيها خلف الجدار، في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، ويتجاوزون طرقًا مليئة بالمخاطر والصعوبات، ومراقبة مشدّدة من جنود الاستعمار. وبينما تبلغ نسبة العمّال الفلسطينيّين الحاملي تصاريح العمل 64% من مجموع العاملين داخل إسرائيل، وهم نحو 59 ألف عامل، يدخل بقيّة العمّال بـ "طريقة غير قانونيّة" بالمفهوم الإسرائيليّ، وفق تقرير صادر عن "بنك إسرائيل المركزيّ"[10].

ومن ناحية أخرى، تحوّل "الأبارتهايد" إلى جداريّة فنّيّة مقاوِمة، حين يُعَدّ فنّ الرسم على الجدار بالنسبة إلى الفلسطينيّ طريقةً يتحايل بها على الممارسات الرقابيّة للاستعمار، وطريقته في المعارضة. وأحد أشكال هذا الفنّ، الجرافيتي على جدار الفصل العنصريّ، لِما له من إمكانيّة لبناء المعرفة وإحداث تغييرات اجتماعيّة وسياسيّة، ومن ثَمّ فإنّ الجرافيتي على جدار الفصل العنصريّ يُعَدّ سلاحًا ناعمًا يشارك في إعداده فنّانون فلسطينيّون وغير فلسطينيّين، معتبرين ذلك طريقة لمقاومة الاستعمار.

يلجأ الفلسطينيّون في مقاومتهم الرمزيّة إلى سلوكات يمكن أن يُقال عنها "استفزازيّة"، وتتجلّى بوضوح على نقاط التفتيش والحواجز، منها مثلًا تعمُّد عدم إخراج بطاقة الهويّة على نقاط التفتيش والحواجز...

 

ج. على نقاط التفتيش والحواجز: رفض الامتثال والاشتباك اللفظيّ

يلجأ الفلسطينيّون في مقاومتهم الرمزيّة إلى سلوكات يمكن أن يُقال عنها "استفزازيّة"، وتتجلّى بوضوح على نقاط التفتيش والحواجز، منها مثلًا تعمُّد عدم إخراج بطاقة الهويّة على نقاط التفتيش والحواجز، إلى أن يطلبها الجنديّ، أو حتّى إخراج بطاقة الهويّة قبل أن يمنح الجنديّ فرصة طلبها أصلًا.  وتتمكّن فئة من الفلسطينيّين، خاصّةً فلسطينيّي القدس الّذين لديهم بطاقات هويّة، ممّن يُسمح لهم بالعبور دائمًا عبر نقاط التفتيش الإسرائيليّة، تتمكّن من المخاطرة من خلال اتّباع إستراتيجيّات يوميّة، مثل الاشتباك اللفظيّ والجدال مع الجنود وإجابتهم بقلّة احترام، وتلك أعمال تقوم بها النساء المُسنّات على وجه الخصوص، تقول إحداهنّ: "أغتنم الفرصة دائمًا للمناقشة معهم، لأقول لهم إنّ الّذي يقومون به غير إنسانيّ؛ فلا أُريدهم للحظة أن يشعروا بأنّ ما يفعلونه صحيح أو طبيعيّ"[11].

 

ح. التنغيص على شعور المستعمِر بالنصر

عبّر عامر أحمد مبروك، الأسير المحرَّر المبعَد إلى غزّة، بأنّ الابتسامة تمثّل رسالة تحدٍّ، وبأنّ العمل المقاوم لن يتوقّف؛ إذ يواجِه جنود الاستعمار بالابتسامة، فهي سلاح الأسرى الوحيد لحظة الاعتقال، والسهم الّذي يثقبون له قلوب الجنود[12].

ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من أنّ عمر العبد المحكوم بالسجن المؤبّد أربع مرّات، وهو فدائيّ منفّذ "لعمليّة حلميش" الّتي قُتل فيها ثلاثة مستوطنين وأُصيب رابع، إلّا أنّه اشتهر وانتشرت صوره في مختلف المواقع، وهو يبتسم في كلّ مرّة دخل فيها قاعة المحكمة.

ويعكس حدث الاستشهاد من جانب آخر، صمود الأمّهات الفلسطينيّات اللواتي يستقبلن خبر استشهاد أبنائهنّ بإطلاق زغروتة، وهو سلوك اعتياديّ في فلسطين يعبّر عن التشجيع الدائم على مقاومة الاستعمار.

 

خاتمة: شموليّة المقاومة لا تجزئتها

نجد ممّا استُعرض أعلاه وجود مفهوم "المقاومة في النسق اليوميّ" في السياق الفلسطينيّ وانطباقه، ومن النماذج السابقة نجد أنّ لها قدرة تأثيريّة في الكيان الصهيونيّ؛ فهي أكثر أشكال المقاومة انتشارًا في حياة الفلسطينيّ، لأنّها موجودة بالضرورة، وهي ممارسة طبيعيّة وروتين يوميّ لا خيار فيه، لكنّ المطلوب الوعي بها، واحتماليّة نجاعتها على المدى البعيد. ولا يكفي أن يركن الفلسطينيّ على هذا النوع من المقاومة فحسب، وكأنّه بذلك أدّى ما عليه؛ فالدور المنوط بالفلسطينيّ أكبر.

تحوّل "الأبارتهايد" إلى جداريّة فنّيّة مقاوِمة، حين يُعَدّ فنّ الرسم على الجدار بالنسبة إلى الفلسطينيّ طريقةً يتحايل بها على الممارسات الرقابيّة للاستعمار، وطريقته في المعارضة.

ويمكن القول إنّ المقاومة في النسق اليوميّ - وما تمثّله إذا نُظر إليها خارجيًّا بوصفها لاحراكًا اجتماعيًّا - ضرورة للوجود الفلسطينيّ والحفاظ على البقاء أمام نظام إحلاليّ شموليّ متغلغل في جميع الجوانب الحياتيّة، ويمكن اعتبارها رديفًا للهويّة الفلسطينيّة، الّتي صيغت أبرز ملامحها إثر الحدث النكبويّ عام 1948، والنضال الفلسطينيّ.

..........

إحالات:

[1]Jocelyn A. Hollander & Rachel L. Einwohner. "Conceptualizing Resistance," Sociological Forum, vol. 19, no. 4, (2004): 535.

[2] Michael F. Brown, “On Resisting Resistance,” American Antropologist, vol. 98, no. 4 (December 1996):  729-730.

[3] James C.Scott, "Everyday Forms of Resistance,” The Copenhagen Journal of Asian Studies 4, no. 1 (1989): 34.

[4] Hollander & Einwohner, "Conceptualizing resistance", ibid, p. 536.

[5] آصف بيّات، الحياة السياسيّة: كيف يغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة أحمد زايد (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2014)، ص 44.

[6] المرجع نفسه، ص 38-59.

[7] Scott, “Everyday Forms of Resistance,” ibid, p. 33.

[8] Hollander & Einwohner, "Conceptualizing resistance", ibid, p. 540-542.

[9] "أثر مقاطعة منتجات المستوطنات على الاقتصاد الإسرائيليّ"، وكالة وفا، د.ت.، شوهد في 8/1/2020، في: https://bit.ly/39QyH4a

[10] سامي الشامي، "جدار الموت الإسرائيليّ يهدّد حياة عمّال فلسطين"، العربي الجديد، 4/5/2016، شوهد في 7/1/2020، في: https://bit.ly/35rx2yM

[11] Anna Johansson & Stellan Vinthagen, “Dimensions of Everyday Resistance: the Palestinian Sumud,” Journal of Political Power, vol. 8, no. 1 (2015): 22.

[12] "لماذا يبتسم المعتقلون الفلسطينيون لدى الاحتلال؟"، عربي 21، 9/11/2015، شوهد في 7/1/2020، في: https://bit.ly/2QTkWsZ

 

 

يارا نصّار

 

باحثة فلسطينيّة مُقيمة في الدوحة. حاصلة على بكالوريوس الشؤون الدوليّة من جامعة قطر عام 2017، طالبة ماجستير العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة في معهد الدوحة للدراسات العليا منذ عام 2018. مهتمّة باللّاحراكات الاجتماعية، الأيديولوجيا، المقاومة، قضايا الانتقال الديمقراطيّ. تعمل محرّرةً في "مجلّة 28".

 

 

 

التعليقات