23/03/2020 - 21:48

جوردان بيترسون... هل هو نبيّ اليمين المنتظَر؟

جوردان بيترسون... هل هو نبيّ اليمين المنتظَر؟

جوردان بيترسون

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

دلائل كثيرة تشي بأنّه نبيّ اليمين المنتظَر، منها أنّه يكره كارل ماركس ويحبّ الكتاب المقدّس، منها أيضًا أنّه بعد كتابين جدليّين وعشرات المقابلات ومئات التسجيلات الصوتيّة والمرئيّة، يُعَدّ من أهمّ المنظّرين للمركزيّة الغربيّة، ومن أكثر الناس عداوة لليسار. على وجهه كدر دائم، ويتكلّم بشغف هائل كأنّ الحقيقة أمر شخصيّ جدًّا. 

 

المحافظ الكاره لما بعد الحداثة

وصفت "نيويورك تايمز" المفكّر الكنديّ جوردان بيترسون أنّ لديه "ميولًا محافِظة". "واشنطن بوست" كانت أكثر صراحة ومباشرة ووصفته بـ "المحافظ". وفي مقابلة مع "الغارديان"، قال إنّه "ليبراليّ بالنمط البريطانيّ الكلاسيكيّ"، وإنّه "تقليديّ".

من أهمّ ما يميّز بيترسون عن غيره من المحافظين أو الميّالين إلى اليمين، أنّه أكثرهم عمقًا وأقلّهم سعيًا وراء رضا الأحزاب السياسيّة؛ فهو يتجنّب الثرثرة في أمور الإسلام السياسيّ، ودعم قيادة سياسيّة معيّنة أو مهاجمتها، وعندما يهاجم اليسار فإنّه يهاجمه باستخدام حجج واستقراءات، وهو ما لا يفعله ناشطون يمينيّون، مثل سام هاريس وبين شابيرو.     

يكره بيترسون ما بعد الحداثة لأنّها "تهدّد الحقيقة"، ويعتقد أنّ سياسات الهويّة والجندر أبعدت الفرد عن جوهر الحقيقة. في محاضراته يقتبس نيتشه ودوستويفسكي، جملة نيتشه المفضّلة لديه هي من كتاب "أفول الأصنام": "مَنْ يملك سببًا للحياة يستطيع تحمّل العيش بأيّ طريقة".  

هو أكاديميّ مختصّ بعلم النفس السريريّ، لكنّه وعلى نمط مفكّرين كثر، ليس منظّمًا أو منهجيًّا كما هو مألوف في العمل الأكاديميّ المحض. يعتبر بيترسون أنّ اليسار الأكاديميّ أفسد الجامعات، وشتّت أفكار الطلبة وقدرتهم على الحصول على المعنى. خلال مناظرته الشهيرة مع سلافوي جيجيك عام 2019، قال إنّ التراث اليهوديّ - المسيحيّ والميثولوجيا الدينيّة حقائق إنسانيّة أصيلة، وهاجم المانيفستو الشيوعيّ والماركسيّة الثقافيّة. يكره بيترسون ما بعد الحداثة لأنّها "تهدّد الحقيقة"، ويعتقد أنّ سياسات الهويّة والجندر أبعدت الفرد عن جوهر الحقيقة. في محاضراته يقتبس نيتشه ودوستويفسكي، جملة نيتشه المفضّلة لديه هي من كتاب "أفول الأصنام": "مَنْ يملك سببًا للحياة يستطيع تحمّل العيش بأيّ طريقة".  

إذن، ما الأصنام الّتي يريد بيترسون أفولها؟ وما تلك الّتي يريد إشهارها؟   

 

الكتاب الّذي لم يفهم أحدٌ ما يقوله

يتّفق بيترسون، في بحثه عن المعنى ومهاجمته الليبراليّة، مع ألان بلوم صاحب "انغلاق العقل الأمريكيّ"، لكن كتاب بيترسون "خرائط المعنى: معمار الإيمان" أكثر طموحًا وجرأة من كتاب بلوم. في "خرائط المعنى: معمار الإيمان"، يبحث بيترسون عن صور وتمثيلات للمعنى في تاريخ الميثولوجيا الدينيّة، ويحاول ربط رموز ودلالات قديمة بمفهومين أساسيّين، هما: النظام والفوضى. الكتاب الّذي لم يحظَ بذات القبول الّذي حظي به كتابه الثاني "اثنتا عشرة قاعدة للحياة"، فيه خليط من كلّ شيء: أنثروبولوجيا، وعلم نفس، وفلسفة، وسياسة، وسيرة ذاتيّة.

من المآخذ الّتي أخذها أكاديميّون مرموقون على بيترسون، أنّه اقترح خليطًا فكريًّا يداعب الخيال ورسومات بيانيّة تحفّز العقل. لم يحمل ذلك ثقلًا إمبريقيًّا أو منهجيّات أكاديميّة تقليديّة راسخة، لكنّ أمرًا في غاية الأهمّيّة غاب عن مخيّلة أولئك النقّاد، وهو أنّ بيترسون لم يقم بذلك البحث للتعريف بمحطّات فلسفيّة، أو أنثروبولوجيّة، أو تاريخيّة، في رحلة المعرفة البشريّة؛ فثمّة كتب عديدة فعلت ذلك من قبل ونجحت. بيترسون يُدرك ذلك تمام الإدراك؛ فقد قال في حوار أُجري معه عام 2018، أي بعد تسعة عشر عامًا من صدوره: "لم يفهم أحد ما يقوله الكتاب".

 

الأخرويّ والأرضيّ

فاتحة كتاب "خرائط المعنى" تعطي انطباعًا أوّليًّا بأنّنا أمام نقطة أو وحدة مركزيّة، هي تكوين الكاتب وأقنعته أو تحوّلاته؛ الكاتب فردًا، عقلًا فاعلًا ووارثًا؛ فهو يبدأ بآية من إنجيل متّى: "سَأَفْتَحُ بِأَمْثالٍ فَمي وَأَنْطِقُ بِمَكْتُوماتٍ مُنْذُ تَأْسيسِ الْعالَمِ." (متّى 13: 35). الآية، بعمقها النبوئيّ، تعطي مسحة خطابيّة لأسلوبيّة الكتاب، وثقلًا رمزيًّا للكتاب المقدّس. أمّا عن اختيار هذه الجملة بالذات، فإنجيل متّى الأوّل في ترتيب الأناجيل الأربعة، وحلقة صلة فريدة بين العهد القديم والعهد الجديد. في مقدّمة كتابه، وبوعي حادّ بأهمّيّة النثر الإلهيّ، يمهّد بديباجة رمزيّة تضع الملكوت الأخرويّ في مواجهة الملكوت الأرضيّ.

ثمّة مَنْ عاب على بيترسون أنّه لم يبحث جيّدًا في "اللوغوس" المسيحيّ و"فوضى" مفهوم الأب الابن، عندما قارَبَ الميثولوجيّات الدينيّة. وثمّة أيضًا مَنْ حاكمه على عدم الإشارة إلى الإسلام، وكيف أنّه وحّد قبائل الجزيرة العربيّة تحت راية واحدة

ثمّ تأتي سيرة بيترسون الشخصيّة تحت عنوان "نزول المسيح إلى الجحيم". في السرد، تتشكّل حلقة أخرى بين العهد الجديد وسيرة المسيح مخلّصًا للعالم من جهة، و"خرائط المعنى" وسيرة الكاتب من جهة أخرى. مقتبسًا من كارل يونغ، عالم النفس الشهير، يتحدّث بيترسون عن قدرة الإنسان على قول الحقيقة، بناءً على خبرته مع الألم. الحقيقة هنا حجر زاوية الحكاية الشخصيّة؛ فثمّة رواية ما، قصّة. أحدهم يريد أن يفتح فمه وينطق بمكتومات. بين جملة العهد الجديد، وجملة يونغ المتمثّلة بقول الحقيقة بصفتها نتيجة بدهيّة للخبرة مع الألم: "لأنّه سيرى معضلته ويكشف عن الحقيقة". إذن، نحن أمام نقطتين يتحرّك بينهما مجمل دلالات الكتاب: الأولى دراميّة ميثولوجيّة، والأخرى سببيّة براغماتيّة.     

 

 هربًا من الكنيسة والشيوعيّة

يسرد بيترسون أيّامه الأولى في الكنيسة، ثمّ أيّام الجامعة بعد تخلّيه عنها لصالح الفكر الاشتراكيّ. يقول إنّه ترك الكنيسة؛ لأنّ الكتاب المقدّس لم يقدّم إلّا قصصًا وخرافات. على الجانب المقابل، لم يجد بيترسون لدى الاشتراكيّين غير الشكوى من كلّ شيء؛ فهو يصفهم بأنّهم: "بلا مهن محترمة، بلا عائلات، بلا تعليم، ويعيشون فقط على الأيديولوجيا".

إنّ كراهيّة بيترسون للأيديولوجيا دفعته إلى البحث في الماضي، في الحلم، في علم النفس، في العودة إلى الدين المسيحيّ والتصوّرات الميثولوجيّة العالميّة، بصفتها مرجعيّات رمزيّة لا مناهج. من المعلوم أنّه بعد سيطرة العلم والتجريبيّة على الفكر الإنسانيّ تراجعت الميثولوجيا، وتراجع المعنى الباطن والمعنى الظاهر في الحكايات القديمة. هنا يستنتج بيترسون أنّ "الأخلاق المبنيّة على تلك الأساطير اختفت أيضًا، كما اختفى الإيمان بالوهم المريح". يعرّج بيترسون على نيتشه الّذي "أثار بإعلانه موت الإله هذه النقطة بوضوح، منذ أكثر من مئة عام".

 

سرد باذخ

في ظلّ غياب الميثولوجيا وغياب الإله؛ كيف بإمكاننا فهم الخير والشرّ؟ وكيف بالإمكان الوصول إلى مرجعيّة أخلاقيّة سويّة يتّكئ عليها العالم؟ عمومًا، هنا يكمن سؤال الكتاب المركزيّ. لكنّ إشكاليّة الكتاب الجوهريّة تكمن في أنّ بيترسون أجاب عن السؤال في الصفحات الأولى، عندما قال: "على الرغم من التقدّم العلميّ، وعزوف الناس عن الدين، تظلّ أخلاق الإنسان الغربيّ مؤسَّسة على الدين ومفاهيمه الميثولوجيّة المرتبطة بالفرد".

في أحد الحوارات، قال بيترسون: "الدول الوحيدة الّتي توفّر العيش الأفضل لمواطنيها، تلك القائمة على التقاليد اليهوديّة المسيحيّة". إذن، يبدو أنّ الإشارة إلى الحضارات الأخرى، كانت في سياق مقارنة أشباح وظلال ونماذج ثانويّة

لكن ثمّة مَنْ عاب على بيترسون أنّه لم يبحث جيّدًا في "اللوغوس" المسيحيّ و"فوضى" مفهوم الأب الابن، عندما قارَبَ الميثولوجيّات الدينيّة. وثمّة أيضًا مَنْ حاكمه على عدم الإشارة إلى الإسلام، وكيف أنّه وحّد قبائل الجزيرة العربيّة تحت راية واحدة. بذلك تبدو رحلة الكتاب في الأساطير والأيقونات الدينيّة عبر العالم، تبدو مجرّد سرد باذخ لحضارات ونماذج بشريّة حاولت الإجابة عن جدليّة الفوضى/ النظام، ومعنى كلّ حكاية في الوعي واللاوعي، لكنّها لم تصل قطّ، وفقًا لمرجعيّة التراث اليهوديّ - المسيحيّ الّتي يفخر بها بيترسون، إلى العتبة العليا الّتي وصلتها الأخلاقيّة المسيحيّة.

 

تفوّق التراث المسيحيّ - اليهوديّ

تتوالى صفحات "خرائط المعنى" في سرد حكايات ميثولوجيّة قديمة، فكأنّنا أمام كتاب جيمس فريزر "الغصن الذهبيّ دراسة في السحر والدين"، لكن بمرجعيّة أخرى تفسّر تأسيس نظم وخرائط للمعنى فوق أرض الخرافة، عبر قدرة الفرد على الاكتشاف وتحويل الفوضى إلى نظام.

النصّ الضمنيّ الّذي يحضر تقريبًا في كلّ فصل، الإشارات الواضحة إلى القدرة النسبيّة الفائقة للتراث المسيحيّ – اليهوديّ، على تعريف النظام والفوضى. في أحد الحوارات، قال بيترسون: "الدول الوحيدة الّتي توفّر العيش الأفضل لمواطنيها، تلك القائمة على التقاليد اليهوديّة المسيحيّة". إذن، يبدو أنّ الإشارة إلى الحضارات الأخرى، كانت في سياق مقارنة أشباح وظلال ونماذج ثانويّة، بنموذج مثاليّ أكبر تمثّله الآن الحضارة الغربيّة، صاحبة الأسبقيّة في الوضوح الرؤيويّ والمنهجيّ المتصالح مع العلمانيّة ومقوّمات الحداثة.

 

 

د. أشرف الزغل

 

 

شاعر وباحث من فلسطين. له أربع مجموعات شعريّة؛ 'دواليب الرماد' (بالاشتراك مع عبد الرحيم الشيخ)، و'نوم كما أرى'، و'صحراء في المترو'، و'صورة العائلة البشعة'. حصل على جائزة الكاتب الشابّ – حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطان عام 2001.

 

 

التعليقات