07/06/2021 - 18:51

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

الفيلسوف الفرنسيّ جان بول سارتر | تيري إهيرمان

 

شفاء للمستعمِر من دائه

في مقدّمة كتاب فرانز فانون «معذّبو الأرض»، يخاطب جان بول سارتر المجتمعات الأوروبّيّة بأسلوب لاذع، حول العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، ليؤكّد للأوروبّيّين أنّ ما تراه أوروبّا أن لا قوّة لشعوب «العالم الثالث»، ما هو إلّا ضرب من الفراغ. إنّ هذه الشعوب ليست واحدة ولا هي متجانسة، فبعضها ما زال مستعبدًا، والبعض نال استقلاله كذبًا، وبعض آخر ما زال يقاتل للحصول على سيادته، لكنّها جميعها، في رأي سارتر، عندما تناضل، يكون ثمّة بُعدان في نضالها: نضالها ضدّ نفسها، ونضالها ضدّ أوروبّا المستعمِرة؛ عندئذ، يكون أمام المستعمِر خيار القوّة، ولا شيء آخر، ويكون أمام المستعمَر خيار الاختيار بين العبوديّة والسيادة.

فانون، في كتابه، يعرّي الأوروبّيّين ويعرّي تناقضاتهم؛ الأمر الّذي يتيح لهم، بقراءتهم للكتاب، أن يروا أنفسهم من خلال جراح ضحاياهم وأغلالهم...

ويرى سارتر أنّ ثمّة دافعين أساسيّين يجعلان من قراءة كتاب فانون أمرًا ضروريًّا للأوروبّيّين؛ الأوّل أنّ فانون، في كتابه، يعرّي الأوروبّيّين ويعرّي تناقضاتهم؛ الأمر الّذي يتيح لهم، بقراءتهم للكتاب، أن يروا أنفسهم من خلال جراح ضحاياهم وأغلالهم، وهو ما يجعل شهاداتهم صادقة لا تردّ؛ الأمر الّذي، ربّما، يكون فيه شفاء لأوروبّا من دائها. أمّا الدافع الثاني فهو أنّه سيصير مفهومًا بالنسبة إلى الأوروبّيّين بأنّ العنف الجامح لدى الشعوب المستعمَرة ليس زوبعة سخيفة، ولا هو تيقّظ لغرائز بربريّة في دواخلهم، وإنّما هو محاولة استشفاء لهم من عُصاب الاستعمار، من خلال ردّهم العنف على المستعمِر الّذي زرعه هو فيهم في الدرجة الأولى.

 

عنف المستعمِر، عنف المستعمَر

إنّه لمن المثير للدهشة، على الرغم من كونه ليس أمرًا مستبعدًا، وجود كمّ هائل من التقاطعات بين نصّ سارتر هذا، وبين ما عاشه الفلسطينيّون في الأيّام الأخيرة خلال الهبّة. كأنّما سارتر شاهد على ما يحدث، وكأنّما نصّه وليد اللحظة.

وكأنّما الاستعمار عند سارتر هو الاستعمار الّذي يحدث في فلسطين، بذاته، بما فيه سعيه لأنْ يحوّل الشعوب المستعمَرة إلى كائنات لا ترقى إلى مستوى البشر، من خلال ممارسته للعنف عليهم، وبما فيه اعتقاده أنّ العنف الّذي يمارسه على المستعمَرين سيكبح الشرّ داخلهم، وستختفي بعد ثلاثة أجيال هذه الغرائز الفاسدة، ولن تولد فيهم من جديد.

لكنّ هذا العنف في الواقع لا يأتي بنتائجه المرجوّة باعتقاد سارتر، ولا أتى بنتائجه في الحالة الفلسطينيّة؛ فأبناء الجيل الثاني، كما يرى سارتر، ومع رؤيتهم للقمع والاضطهاد والعنف الّذي يمارسه الاستعمار على آبائهم، تتولّد فيهم الصدمات مدى الحياة. وهذا العنف الّذي لا ينفكّ يتكرّر، لن يؤدّي بهم إلى الخضوع في نهاية المطاف، بقدر ما سيرتدّ عاجلًا أو آجلًا على المستعمِر. وفي هذا تصوير وتفسير لما شهدته المدن الفلسطينيّة في أراضي 48 مؤخّرًا؛ فالأجيال الّتي ظنّ المستعمِر أنّها ستولد اليوم ممسوخة، لا تعرف هويّتها ولا ثقافتها ولا لغتها، لم تكن في النهاية كذلك. بل كلّ ما مارسه المستعمِر من عنف على آبائها وأجدادها، من سلب لأرضهم، ونزع لثقافتهم ولغتهم، وما تتعرّض له هذه الأجيال، باستمرار، من عنف مباشر يتجسّد في محاولة تشويه هويّتها، وفي التمييز العنصريّ الّذي تمارسه دولة الاستعمار، بمؤسّساتها المختلفة، ضدّها، إنّما أخذ يرتدّ على المستعمِر؛ فتظاهرات الفلسطينيّين في هذه المدن في الأيّام الأخيرة، والعنف الّذي مارسوه في حرقهم وتدميرهم لممتلكات الدولة، لم يكن سوى انعكاس وتفجير لعنف آخر مارسه الاستعمار عليهم على مدار عقود.

 

الكفاح العنيف، علاجٌ للمستعمَر

كذلك الفعل المقاوم في قطاع غزّة، فهو محاولة لعلاج الفلسطينيّ وتحرّره ممّا يخضع له من قيود فرضها المستعمِر عليه؛ فالمستعمَر، كما يرى سارتر، يشفي نفسه من عُصاب الاستعمار، من خلال طرد المستعمِر بالقوّة العنفيّة، فعندما يغلي الغضب في داخله، يستردّ شفافيّته المفقودة، ويبدأ يَعرف نفسه بقدر ما يفعل. وقد تظهر هذه المقاومة للآخرين على أنّها الوحشيّة والهمجيّة والإرهاب، لكنّها في الحقيقة صيرورة تحرّر للمستعمَر المقاتل. إنّها تدمّر ظلمات الاستعمار الموجودة في داخله، والموجودة في خارجه من حوله.

ويعلم الفلسطينيّ المناضل أنّ صيرورته هذه ستنتهي بولادة إنسان جديد. إنّه يعلم أنّه سوف يُقتل. إنّه على يقين بأنّه ميّت لا محالة. هذا الميّت، على حدّ قول سارتر، الّذي فقد زوجته وأبناءه، قد بلغ من فرط فقدانه للآخرين أنّه لا يريد أن يعيش بقدر ما يريد أن ينتصر. ورغم معرفته أنّ نتائج انتصاره لن تطاله، وإنّما ستعود بالنفع على الآخرين غيره، إلّا أنّه يكمل في مسيره. هذا المناضل الميّت قد سئم، وهذه السآمة هي مصدر قوّته في هذا الطريق. وبينما يجد الجميع إنسانيّته سابقة على الموت، فإنّ هذا المناضل يجد إنسانيّته بعد موته. إنّه «ابن العنف»، يستمدّ منه في كلّ لحظة إنسانيّته. وفي حين أنّ المستعمِر صار بشرًا على حسابه، سيصبح هو، على حساب المستعمِر، إنسانًا أفضل.

 

السلميّة، ثمرة اضطهاد

من هنا، فإنّ كلّ مَنْ يؤمن بما هو سلميّ طريقًا لتحقيق الحرّيّة والاستقلال، وكلّ مَنْ لا يحبّ العنف وينبذه، يراه سارتر بأنّه، إن لم يكن ضحيّة، فهو لا شكّ جلّاد؛ فاللاعنف الّذي ينادي به أنصاره سينفع لو لم نكن نعيش في عالم ظالم قائم على الاستغلال والاضطهاد. لكن لكوننا نعيش ضمن نظام يتجذّر فيه الجور والاستبداد، نظام لا يتردّد في السماح للاستعمار بإبادة نوع إنسانيّ، وبلا عذاب ضمير، فإنّ أفكار اللاعنف الّتي هي نفسها ثمرة اضطهاد عمره عشرات السنين، لا تؤدّي إلّا لتضع مَنْ يؤمنون بها جنبًا إلى جنب في صفّ الجلّاد.

هذا المناضل الميّت قد سئم، وهذه السآمة هي مصدر قوّته في هذا الطريق. وبينما يجد الجميع إنسانيّته سابقة على الموت، فإنّ هذا المناضل يجد إنسانيّته بعد موته...

 

لقد عانى الشعب الفلسطينيّ على مدى نحو 15 عامًا حالة انقسام داخليّة، يرى سارتر سببها متمثّلًا في السخط والغضب المكتومَين في صدور الفلسطينيّين، اللذين لا يستطيعان أن يندفعا في وجه المستعمِر الإسرائيليّ؛ فيؤدّيان إلى أن يقاتل الفلسطينيّ أخاه؛ ذلك أنّهم لا يستطيعون أن يقاتلوا عدوّهم الحقيقيّ. غير أنّ الأحداث الّتي شهدتها فلسطين في الأيّام الأخيرة، في القدس وأراضي 48 والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، عكست حالة من الوحدة والتماسك عند الفلسطينيّين، أنستهم ما عانوه من تفكّك داخليّ. إنّهم، في هذه الأيّام، شعب مستعمَر واحد يكشف عن قوّته وعزمه، ويعرّي حقيقة أنّ الاستعمار هشّ ضعيف.

لكلّ مَنْ يتابع ما يحدث في فلسطين اليوم، ويتأمّل سلوك الفلسطينيّين في وجه الظلم الّذي يعانون منه، وبغضّ النظر عمّا يجول في ذهنه عندما يرى ما يرى، فإنّني أقتبس من سارتر، وأقول: "اقرؤوا فانون تعلموا أنّ جنون القتل إنّما هو اللاشعور الجمعيّ للمستعمَرين في زمن عجزهم".

 

 

سهيلة عبد اللطيف

 

 

روائيّة وباحثة فلسطينيّة. طالبة دكتوراة في برنامج العلوم الاجتماعيّة بجامعة بير زيت. تتركّز اهتماماتها البحثيّة في مجال علم اجتماع الأدب. صدرت لها رواية «سفر التكوين» (2018)، وترجمة كتاب «حدود المعرفة» (2018) لجمال ضاهر.

 

 

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

12/08/2021
«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

04/06/2021
محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

28/06/2021
جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

04/08/2021
في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

03/07/2021
«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

27/05/2021
خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

16/05/2021
في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

14/06/2021
هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

30/05/2021
مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

04/07/2021
مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

24/06/2021
 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

25/05/2021
"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

26/07/2021
نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

27/06/2021
مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

02/06/2021
هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

14/05/2021
الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

30/06/2021
معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

19/05/2021
للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

27/05/2021
"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

25/06/2021
حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

25/05/2021
مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

21/05/2021
لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

29/05/2021
التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

26/07/2021
الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

01/06/2021
الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

18/05/2021
الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

19/06/2021
الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

21/05/2021
لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

05/07/2021
واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

22/05/2021
جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

13/08/2021
عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

18/05/2021
مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

21/06/2021
«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

21/06/2021

التعليقات