22/11/2021 - 14:10

حول كتاب عزمي بشارة «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟» (2/3)

حول كتاب عزمي بشارة «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟» (2/3)

 

في الجزء الثاني من مراجعته لكتاب عزمي بشارة «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟» الصادر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» (2018)، يعالج الباحث شمس الدين الكيلاني تعدّد وجوه السلفيّة واختلاف تأويلاتها للنصّ الدينيّ الإسلام.

يستعرض الكيلاني تعريفات بشارة المتعدّدة للسلفيّة بين المفهوم، والتخييل، والتجربة التاريخيّة. بادئًا بالتمييز ما بين السلفيّة والأصوليّة، وكذلك سؤال حداثة «السلفيّة» وإشكاليّة القراءة الاستشراقيّة للحركات السلفيّة الإسلاميّة بوصفها تمثّل معنًى جوهريًّا واحدًا. وفي قسمها الثاني، يتتبّع الكيلاني أصول الفكر التكفيريّ لدى الحركات السلفيّة الإسلاميّة، في علاقته مع «مبدأ الحاكميّة» والدولة الوطنيّة، القوميّة، أو الخلافة الإسلاميّة قديمًا.

***

 

لقد كانت صحبة هذا الكتاب صعبة بالقدر الّذي كانت فيه ممتعة ومفيدة. هذا الكتاب الصغير المدهش، عرّفنا فيه بشارة على نفسه وطريقته في دراسة المفاهيم والأفكار والعقائد، في الوقت الّذي كشف فيه الغطاء عن الظاهرة السلفيّة؛ فاخترنا تقريب الكتاب إلى القارئ بأقصر الطرق، ولم نتّبع ترتيب الفصول ولا تتابعها، بل حاولنا أن نقترب من روح  البحث، ومن فحواه الكامنة في تشعّب الأفكار واللمحات الذهنيّة بين الفصول.

 

أوّلًا - التعريف بالسلفيّة: بين المفهوم والتخييل والتجربة التاريخيّة

في العودة إلى «السلفيّة» تسمية، يذهب بشارة إلى أنّ تيّار السلفيّة لم يعتمد هذه التسمية في بداية تشكّله وبنائه، بل أطلَقَت عليه المدوّنات الحنبليّة المبكّرة مصطلح «أهل الأثر»، كما أطلقوا على أنفسهم المصطلح نفسه، بمعنى أتباع«السلف الصالح»؛ فتاريخ نشوء التيّار السلفيّ الفعليّ وتطوّره لا يتطابق بالضرورة مع تبلور مفهومه المتداول اليوم. كما أنّ مفهوم «الأصوليّة» المتداول اليوم لا يعتبره بشارة متماهيًا مع السلفيّة، بل هو مفهوم "مستورد" عن فقه الكنائس البروتستانتيّة، ولا يتّفق مع مصطلح «أصول الفقه» أو «أصول الدين»، ويمكن إطلاقه على الحركات الإسلاميّة الصحويّة الحديثة، الّتي تعاني من الشعور بالاغتراب عن العصر ومنتجاته الّتي دخلت في كلّ منازلنا. هذا الرجوع إلى «الأصول» يستتبع الهزّات الاجتماعيّة الكبرى الّتي يصعب على المرء، أحيانًا، أن يتكيّف معها، فيعتريه الخوف من اقتلاع هويّته، فيندفع نحو الحفاظ عليها أو إعادة إنتاجها. لهذا؛ يكتب بشارة: "إنّ مفهوم الأصول في التراث الإسلاميّ مفهوم مختلف عمّا تستخدمه تلك الدراسات الإسلاميّة المعاصرة، على نحو خاطئ، في المماهاة بين السلفيّة والأصوليّة" (ص 13 - 14).

والحال كما يرى بشارة أنّ ثمّة "سلفيّات متنوّعة"، ولسنا أمام سلفيّة واحدة؛ فيعود بنا إلى الصور المتبدّلة للسلفيّة في أزمانها، متشكّكًا في ما يتخيّله سلفيّو اليوم من اعتقاد بأنّهم متماثلون مع سلفيّة ابن حنبل أو ابن تيمية، وسلفيّة محمّد بن عبد الوهّاب، على الرغم من تعدُّد خصائص صور السلفيّة تبعًا لتحوّلات الزمان والمكان؛ فمن سلفيّة تحتضن منجزات الحاضر علمًا وحركة، إلى سلفيّة تنحبس في الماضي الّذي تعطيه حمولات تُناسب معاني حاضرها ومشكلاته.

"إنّ مفهوم الأصول في التراث الإسلاميّ مفهوم مختلف عمّا تستخدمه تلك الدراسات الإسلاميّة المعاصرة، على نحو خاطئ، في المماهاة بين السلفيّة والأصوليّة..."

يتوقّف بشارة قليلًا هنا ليقول: إنّ مصطلح السلفيّة يحمل في دلالاته العامّة المتداولة، التزام القرآن والسنّة، والاستناد إلى سيرة الرسول وأقواله وأفعاله والسلف الصالح؛ أي الصحابة والتابعين بما أجمعوا عليه (أو الأئمّة عند الشيعة)، مع تفضيل القرون الأولى، وتقديم النقل على العقل، واتّباع سلوك النبيّ وخلفائه وصحابته، وكلّ ما عدا ذلك بدعة. وينبّه إلى أنّه يستوي في ذلك مراجع الشيعة ومراجع السنّة (ص 17 - 18). ويحذّر بشارة من التبسيطات الّتي تماهي بين السلفيّة والوهّابيّة، وتتجاهل العلاقة الإشكاليّة بينهما؛ فيرى أنّ الوهّابيّة تمثّل "استعادة تخيّليّة لنسخة السلفيّة الآثاريّة أو الحنبليّة"؛ بمعنى ما، هي صورة من الدرجة الثانية من الحنبليّة، فيحذو حذو جورج مقدسيّ في زعمه: "كانت السلفيّة الحنبليّة منذ لحظة التأسيس مذهبًا عقديًّا وفقهيًّا في الوقت ذاته" (ص 19).

على الرغم من ذلك، بقيت السلفيّة بحسب بشارة مذهبًا ملتبسًا، تحمل في ثناياها قابليّة التفسيرات المتعدّدة، "تارة للتدليل على المحافظة والارتداد إلى السلف، وطورًا للتدليل على الحفاظ على الهويّة، على الرغم من قبول قيم الحرّيّة والتقدّم، ولا سيّما حين استُعيدت ... في حال الإصلاح الدينيّ الحديث" (ص 20 - 21)، مثل الأفغاني ومحمّد عبده والكواكبي في نهاية القرن الـ19، مكتشفًا بذلك القاعدة الذهبيّة القائلة "في كلّ إصلاح دينيّ عودة إلى أصول الدين، وإلى السلف الصالح" النقيّ من الشوائب، فيقول بوضوح: "السلفيّة بالمعنى الإصلاحيّ الكلاسيكيّ عودة إلى السلف، ليس من حيث العودة إلى النصوص أو قضايا محدّدة فحسب، بل أيضًا إلى روح السلف بانفتاحهم وجهوزيّتهم للتطوّر والاجتهاد، وللتخلّص من الانحطاط والخرافة ... السلف في هذه الحالة هم نقطة انطلاق مرجعيّة للتقدّم، بينما هم عند الوهّابيّة نقطة عودة وانكفاء ... وبهذا المعنى يمكن وضع فكر السلفيّة الإسلاميّة على النمط الوهّابيّ وأشباهه، في فضاء الإنتاج الإسلاميّ لأيديولوجيا الوعي التقهقريّ بالتاريخ" (ص27 - 28). وحتّى في ذلك يمكنها أن تستجيب لوظائف متباينة، فمع علّال الفاسي (ت 1974)، تَجْمَعُ بين الديمقراطيّة والوطنيّة، وهكذا انقسمت سلفيّة محمّد عبده بين تلاميذه الحداثيّين إلى قوميّين ليبراليّين (سعد زغلول)، وسلفيّين متشدّدين (رشيد رضا)، وغيرهما من الأصوات.

 

سلفيّة ظاهر النصّ وسلفيّة الإسلام النقيّ

ثمّ يركّز بشارة على نموذجين اثنين متعارضَيْن من السلفيّة، يبدآن بمقدّمتين متماثلتين، وينتهيان إلى نتائج ضدّيّة: "تعود السلفيّتان إلى إسلام نقيّ مفترض أو متخيَّل. لكنْ عودتاهما لا تجمعهما جامع واحد... إحداهما تعود إلى روح الإسلام النقيّة... لبناء تركيب نوعيّ جديد متخيَّل... متخطّية عوامل التخلّف واللاعقلانيّة... وتعيد الاعتبار إلى المقاصد... أمّا السلفيّة الأخرى فتعود إلى ظاهر النصّ... وإلى المعاني الّتي تلائمها... تقرأ النصّ من منظور "ماضويّ"... في عمليّة انتقام دمويّ من الحداثة... بل من الحضارة والمدنيّة" (ص 30 - 31). وبهذا؛ فإنّ تيّارَي السلفيّة لا يعودان إلى الماضي نفسه، بل إلى صورة متخيَّلة مرغوبة عنه، وكلاهما يختلف عن المركّب الناجم عن تفعيل السلفيّة مع التديّن الحركيّ السياسيّ (ص 32). هذا الأخير شكّل نقطة اهتمام كتاب بشارة.

"السلفيّة بالمعنى الإصلاحيّ الكلاسيكيّ عودة إلى السلف، ليس من حيث العودة إلى النصوص أو قضايا محدّدة فحسب، بل أيضًا إلى روح السلف بانفتاحهم وجهوزيّتهم للتطوّر والاجتهاد، وللتخلّص من الانحطاط والخرافة... السلف في هذه الحالة هم نقطة انطلاق مرجعيّة للتقدّم..."

أمّا التفاعل الثقافيّ في حالة التديّن الشعبيّ، فيتّخذ له صورة "تقديس السلف"؛ ليصبح أهمّ عنصر في تكوينه، فيضفي القداسة على الأجداد، ثمّ على الصحابة، والخلفاء الراشدين، وآل البيت عليّ والحسين؛ فيصبح الماضي والسلف يمثّلان العصر الذهبيّ لديه، تسيّره رؤية تقهقريّة للتاريخ والزمان. غير أنّ هذه الرؤية التقهقريّة للتاريخ و"لوثة فساد الزمن"، لا تقتصر على أصحاب التديّن الشعبيّ والسلفيّين المحافظين، بل يجدها بشارة مبثوثة لدى "فئات علمانيّة وقوميّة" معاصرة، عند حديثها على الذات والغير؛ وفي "إسقاط طموحاتها وإحباطاتها على السلف المتخيَّل" (ص 34).

ويرى بشارة في "تقديس السلف" و"إضفاء السحر" على المرحلة النبويّة الراشديّة، كما جاء في نصّ طبقات الحنابلة، نوعًا من رواسب تقديس الأجداد، وفي الوقت نفسه يقترن، أو يتلازم هذا التقديس بالدعوة إلى طاعة السلطان البرّ والفاجر، وتكتسب هذه المسألة "أولويّة في المدوّنات الحنبليّة المبكّرة حتّى اليوم"، ويمضي في القول إنّ هذا التلازم بين الفكرتين "هو أفضل تصوير لفكرة السلفيّة (المحافظة) المعاصرة، سلفيّة التبرير للنظام القائم، في مواجهة السلفيّة (الثوريّة) الّتي تستخدم السلف والسلفيّة لمعارضة النظام القائم" (ص 36 - 37)؛ وهو ما يجعل ابن حنبل وتقليده أقرب إلى أن يكون مصدرًا للسلفيّة الموالية للحكّام، لكن لا يجوز حسب بشارة المساواة بين تشدُّد بعض رموز المؤسّسة الدينيّة القديمة والمعاصرة، وتشريع الخروج على الحاكم المسلم بالقوّة في بعض تيّارات الإسلام الحركيّ السياسيّ المعاصر... لم تعنِ المبدئيّة المتمسّكة بالقرآن والسنّة ضدّ عسف الحاكم - لدى ابن حنبل - الخروج عليه... ولم يؤمن ابن حنبل بجاهليّة جديدة، وهو لم يكن أبو الأعلى المودوديّ عصره أو سيّد قطب عصره (ص 42 - 43).

 

من مبدأ «الحاكميّة» إلى «داعش»

ويرى بشارة أنّ السلفيّين لا يثقون بقدرة البشر على التوصّل إلى ميثاق (تعاقد) في ما بينهم، يؤمّن لهم سبل العيش الكريم، "وسبل إدارة المجتمع، ويَصِمُونَ الديمقراطيّة بالكفر؛ فلا سبيل قويمًا أمام البشر سوى الاستعانة بسلطة متعالية (وحي) فوق إرادتهم، تُخلّصهم من الضياع" (ص 50)؛ فاللّه وحده ذو التشريع الحقّ، والتشريع البشريّ شرك بالله، فتشتقّ سلفيّة محمّد بن عبد الوهّاب، ومن قبله ابن تيمية، هذا المبدأ من مبدأ «وحدانيّة الله»، ويصوغ أبو الأعلى المودوديّ في هذا السياق مبدأ «حاكميّة الله»، مذكّرًا بقول الخوارج "لا حكم إلّا لله"، وبردّ عليّ عليهم "قول حقّ يُراد به باطل"، فيلخّص بشارة المسألة بالقول: "ولكنّ الله لا يحكم (مباشرة) في النهاية، بل يحكم البشر"، مذكّرًا بانتقال صيغة الحاكميّة عبر سيّد قطب نحو التداول، وبقيت جذور هذا المفهوم ملتصقة بتأليف ابن عبد الوهّاب. وأشار بشارة إلى رفض السلفيّة لمبدأ التعدّديّة وتمسّكها بالوحدة تحت خيمة الشرع؛ لأنّها بالأساس لا تثق بقدرة البشر على صنع ميثاقهم، وهذا الطريق يقودهم إلى فكرة الفرقة الناجية.

يرى بشارة أنّ السلفيّين لا يثقون بقدرة البشر على التوصّل إلى ميثاق (تعاقد) في ما بينهم، يؤمّن لهم سبل العيش الكريم، "وسبل إدارة المجتمع، ويَصِمُونَ الديمقراطيّة بالكفر؛ فلا سبيل قويمًا أمام البشر سوى الاستعانة بسلطة متعالية (وحي) فوق إرادتهم، تُخلّصهم من الضياع"...

ثمّ يعرِّج بشارة سريعًا على النقاشات الدائرة حول «داعش»، فيثير غرابته ما ذهب إليه فيليب سلازار من أنّ «داعش» يجمع بين الأصالة؛ الحضارة الإسلاميّة، واقتباس أحدث تقنيّات الغرب وعلومه ووسائله التواصليّة. فـ «داعش» تنضح من الحداثة فقط بمعنى "أنّ التاريخ يُفسّرها"، وليست استيرادًا من بضاعة الماضي، أساس وجودها "الصراع الطائفيّ في العراق، وقدرات التنظيم العنيفة، والأهمّ من هذا كلّه فشل الدولة الوطنيّة في العراق وسوريا، ونشوء مناطق سكّانيّة خارج الدولة" (ص 53 - 54)؛ ليصل إلى نتيجة مفصليّة مهمّة للغاية، وهي أنّ السلفيّة والصحوة الإسلاميّة "هي نوع من "العودة"، ولكنّها على العموم ليست عودة إلى الإسلام التقليديّ، بل هي في صراع ضدّه، بدليل أنّها خرجت عن إطار المدارس الفقهيّة التقليديّة الراسخة في ضوء المذاهب الأربعة المعتمدة، ثمّ وضعت بديلًا هزيلًا يفتقر إلى ذلك الرسوخ... وهي لا تعترف بالمجتمعات الإسلاميّة وتراثها الحضاريّ، بما في ذلك الدينيّ، بل بالدين وحده كما تُصوِّره الأحاديث الّتي ينتقونها... لا كما وُجدت فعلًا... أنّها الأمّة الإسلاميّة المحض؛ أنّها الجماعة المقدّسة المجرّدة الّتي لم توجد ولن توجد" (ص 55). وبذلك؛ يشخِّص المرتكزات المفهوميّة المحلّقة، ربّما الطوباويّة للسلفيّة، المرتبطة بتعلّقها بصورة جوهرانيّة عن الإسلام والمسلمين، هي صورة لا تكترث بالواقع لأنّها رهنت نفسها، بالأساس، لأمّة الإسلام الجوهرانيّة المتخيَّلة، وتضعها بموازاة الواقع، وربّما ضدّه. تشبه في ذلك تعلّقها الطوباويّ بصورة السلف الحقّ، وبالإسلام الصحيح، وبالفرقة الناجية كتجسيد تخيُّليّ عن الإسلام الحقّ. وهذا معنى العودة إلى «الإسلام النقيّ».

 

ثانيًا - السلفيّة في التكفير

مرّة أخرى، يتحرّى بشارة في التجربة التاريخيّة، وفي تلافيف النصوص، عن معاني التكفير ومغزاه ووظائفه المستخدمة، وعن صوره الّتي اتّخذها لدى التيّارات الفقهيّة المتنوّعة، وعن موقعه التكوينيّ لدى هذا الفقيه أو ذاك، وفي المذاهب القديمة والمعاصرة، والمقايسة على مفاهيم الإسلام السياسيّ الحركيّ وتجاربه، وقد أعادنا إلى التاريخ وإلى حومة الفتنة؛ ليكشف خلاصة الإجابات عن سؤال الإيمان والكفر؛ فمن الخوارج الّذين استسهلوا التكفير، ولم يميّزوا بين الكفر والمعصية، والمرجئة الّذين اعتزلوا الفتنة بين أتباع عثمان وعليّ، وعبّروا عن ذلك بتجنُّب تكفير الطرفين، فإنّ المعصميّة لا تجبُّ الإيمان وإسلام المرء، وأرجؤوا الحكم إلى الله. وتبنّى هذا المنظور الماتريديّة والأشعريّة، وانحلّ هذا المبدأ عمومًا في "التسنُّن"، غير أنّ الشيعة ربطت الإيمان (القول) بالعمل، بينما التكفير لدى السلفيّة - كحاله لدى السنّة عمومًا - يرتبط بنصّ قطعيّ، وموانع التكفير لديها ثلاثة: الجهل، والإكراه، وثبوت النيّة الصادقة (ص 70). لكنّ السلفيّات الجهاديّة المصريّة وغيرها، قالت: "لا عذر بالجهل"، فرأى بشارة في ذلك تأثّرًا خفيًّا بالقاعدة القانونيّة الحديثة "لا جهل بالقانون"، بالطريقة نفسها الّتي وجد فيها تلك الصلة، بين ما آل إليه مفهوم الحاكميّة الوهّابيّ لدى المودوديّ، حين صاغه بتأثير نظريّة السيادة الدستوريّة الحديثة، فغدا الله "صاحب السيادة"، وليس الشعب؛ فاستنتج بشارة أنّ هذا يشير "إلى كون السلفيّات المعاصرة حديثة بالفعل، وإن عَدّت نفسها امتدادًا أمينًا للفهم السلفيّ القديم"، وإلى جانب ذلك "أنّ السلفيّة الجهاديّة عمومًا سلفيّات" (ص 71). لهذا تتباين أحكامها حول تكفير المذاهب الإسلاميّة غير السنّيّة، والمخالفين داخل السنّة، فيبدو «داعش» الأشدّ تكفيرًا (ص 72 - 73).

"السلفيّة والصحوة الإسلاميّة "هي نوع من "العودة"، ولكنّها على العموم ليست عودة إلى الإسلام التقليديّ، بل هي في صراع ضدّه، بدليل أنّها خرجت عن إطار المدارس الفقهيّة التقليديّة الراسخة في ضوء المذاهب الأربعة المعتمدة، ثمّ وضعت بديلًا هزيلًا يفتقر إلى ذلك الرسوخ..."

وهنا يقدّم بشارة لفتة نابهة في أحد وجوه مقارنته بين «داعش» والخوارج، فيرى أنّ «داعش» عاد "إلى نهج بعض طوائف الخوارج في تكفير الخصوم والمجتمعات بالجملة، لكنّ الفرق الكبير والجوهريّ يكمن في أنّ تكفير «تنظيم الدولة» يستند إلى "نقائض الإسلام" عند محمّد بن عبد الوهّاب، وجميعها عقديّة، في حين أنّ الخوارج أدخلوا القضايا الأخلاقيّة (المعاصي الكبائر) في صلب نقائض الدين"، فأتاح «داعش» لعدم اكتراثه بالأخلاق، لأفراده "السرقة والغدر والكذب والخداع والقتل باسم خدمة قضيّة الإسلام، وقد صاغ كتابًا كاملًا[1]... في تبرير الدوس على جميع المعايير الأخلاقيّة باسم الجهاد (ص 74).

 

سلفيّات لا سلفيّة واحدة

وقد اعتمد السلفيّون - الّذين حدّد بشارة ظهورهم في أواخر القرن الثاني الهجريّ، وأوائل الثالث الهجريّ بالأساس - على الأحاديث النبويّة، وحوّلوا الحديث (الصحيح) إلى سند للحقيقة، وعندما لا يتوفّر لديهم يلجؤون إلى الأحاديث الّتي تلبّي حاجات الوضع الراهن، وكانوا مختلفين، فلم تكن جماعة ابن حنبل سوى إحدى جماعاتهم. وغالبًا ما اختلفوا في تشخيص الواقع والتعامل معه؛ فيقدّم بشارة أمثلة عديدة صارخة عن اختلافاتهم، قديمًا وحديثًا، من زمن ابن حنبل مرورًا بزمن ابن تيمية، ووصولًا إلى الزمن الراهن؛ وهذا ينطبق على مسألة الكفر والإيمان، وهو ما يسمح له بالقول: هناك سلفيّات لا سلفيّة واحدة؛ فالإيمان ذاته لا يكفي أن يكون معلومًا من الله فحسب، "بل يجب أن يكون معلومًا لهم؛ كي يحكموا هم على إيمان الشخص" (ص 76 - 77)، وليحاكموه في هذا العالم أيضًا. ويذهب بشارة في تفسير لمغزى موقفهم هذا، "تصبح إرادة الله سبحانه هامشيّة، مقارنة بمشيئة هذا النوع من التديّن الحركيّ التكفيري... وتصبح إرادة الله تابعة لإرادته. وهذا تفسير للدين والتديُّن تنعدم فيه الروحانيّة، وتُهمَّش فيه الأخلاق مع حرّيّة الاختيار، ويهمّش فيه عنصر الإيمان... ويصبح الأمر الأساسيّ إظهار الله شكلًا" (ص 81). يستثني بشارة من ذلك تلك الحركات الإسلاميّة الدعويّة الرافضة للتكفير، في فتحها للنقاش "في شأن مصلحة المجتمع وظروفه، ومعنى الديمقراطيّة في عصرها، وأتتلاءم مع الشورى أم لا، فهي تُطوّر على الأقلّ فكرًا فقهيًّا، أو تبني تفسيرات أقلّ تشدّدًا" (ص 78). ويرى بشارة وراء هذا الاسم (السلفيّة) خلافات محتدمة إلى حدّ التكفير والقتل؛ فخلافاتهم الإستراتيجيّة خلافات جوهريّة "بلغت مؤخّرًا حدّ الانقسام وتكفير المخالفين... وجرى تحويل قضايا غير عقديّة إلى عقديّة... فيتنوّع الاختلاف في عصرنا من سلفيّة تُجافي السياسة وتتركها لأُولي الأمر... وتتدرّج التنوّعات وصولًا إلى السلفيّة الجهاديّة" (ص 84).

 

مملكة العقاب على الأرض: الجحيم بدلًا من الجنّة

ينتقد بشارة بشدّة التبسيط المخلّ الّذي دأبت عليه مجموعة من المستشرقين، ولا سيّما الاستشراق القديم، وذلك بتأكيدهم الوحدة الجامعة الّتي تجمع الحركات الإسلاميّة على تعدّدها، وتربطها بمعنًى جوهريّ واحد، "فلا جديد من وجهة نظر هذا الاستشراق تحت شمس الإسلام، هذا موقف الاستشراق القديم، وهو شبيه جدًّا بموقف الإسلام الحركيّ في فهم ذاته وتأصيلها" (ص 141). فأخذ بشارة نهج المستشرق برنارد لويس خطًّا معبّرًا عن هؤلاء، مستشرقين أو حركيّين إسلاميّين، "خطًّا رابطًا بين نصوص معيّنة في القرآن والسنّة والسيرة النبويّة (سورة التوبة مثلًا، وأخبار قتل أسرى بني قريظة، وغيرهما) وممارسات "تنظيم الدولة الإسلاميّة"، كما يرى التنظيم نفسه، بالاستناد إلى أمثال أبي عبد الله المهاجر..." (ص 141). يرفض بشارة هذا المنهج برمّته، ويعيد المسألة بالأساس إلى ركنها الاجتماعيّ - السياسيّ التاريخيّ: "نحن ندّعي أنّ فهم «تنظيم الدولة الإسلاميّة» لا يبدأ أصلًا بتحليل هذه النصوص، ولا نصوص الفقهاء، ولا ينتهي بها"، ويتابع الكتابة: "إنّ نصوص «تنظيم الدولة» هي على وجه الضبط أيديولوجيّة بتعريفها كوعي زائف... كوعي مقلوب. وهي لا تعتقد باستعادة التاريخ ثانية إلّا بعد تخيُّله الجديد الّذي يفسّره حاضرها، وليس ذلك الماضي في القرن الأوّل «قرن الخير» و«خير القرون»..." (ص 141)؛ فالحاضر - حسب بشارة - يمكن أن يفسّر الماضي المتخيَّل وليس العكس. كما أنّ السلفيّة "لا تلوذ بظواهر النصوص فحسب، بل تعود أيضًا إلى حياة المدينة المنوّرة المتخيَّلة... مثال أعلى في زمن التمزّق"، مدّعية اتّصالها فيها ومتماهية بها، وهي في حقيقة الأمر تمارس الأسكاتولوجيا، تعيد فيها صناعة الماضي تخيُّليًّا، غير أنّ «تنظيم الدولة» لم يفعل بذلك سوى أنّه "قلبَ الأوتوبيا إلى كابوس دمويّ عدميّ، وتصرَّف وكأنّ إقامة الحدود، وقطع الرؤوس، وإقامة أسواق السبايا، هي أركان المرحلة النبويّة... وهو في سعيه لإقامة الدولة على نهج النبوّة، عَكَسَ الأوتوبيا في عمليّة تحدّ للواقع الدنيويّ، بإقامة مملكة العقاب على الأرض... الجحيم، بدلًا من الجنّة" (ص 143).

أتاح «داعش» لعدم اكتراثه بالأخلاق، لأفراده "السرقة والغدر والكذب والخداع والقتل باسم خدمة قضيّة الإسلام، وقد صاغ كتابًا كاملًا... في تبرير الدوس على جميع المعايير الأخلاقيّة باسم الجهاد..."

ويذهب بشارة على نحو أبعد في تفسيره لمفاعيل تحوّل الأوتوبيا إلى أيديولوجيا سياسيّة رماديّة؛ إذ هي تُدخل الناس في ما يُشبه الفاشيّة أو الشيوعيّة؛ ففي سعي «داعش» وأمثاله نحو خلق مجتمع منصهر "تتحوّل - الأوتوبيا - إلى حركة ضدّ الآخر المختلِف، وضدّ استقلال الفرد، والأقلّيّات الدينيّة والثقافيّة... ولكنّ الأوتوبيا الدينيّة تُحوّل الإيمان الدينيّ إلى نظام اجتماعيّ مقدّس، يُعَدّ تنفيذه واجبًا إلهيًّا... تتصوّر أنّ لديها برنامجًا خلاصيًّا للمجتمع برمّته" (ص 145). والحال، فإنّ التشابه يبدو لبشارة واضحًا بين تنظيم «داعش» (الإلهيّ) وتنظيم «الخمير الحمر» (الدهريّ)؛ الاثنان سعيا نحو صهر المجتمع، "المجتمع الفلّاحيّ الزراعيّ غير الطبقيّ في حالة كمبوديا «الخمير الحمر»، ودولة الخلافة في حالة «داعش». والاثنان ضحاياهما لا  تُعَدّ  ولا تُحصى.

ينظر بشارة إلى نشأة الحاجة إلى الطوبى، إلى أنّه يعبّر عن ذلك الانفصال العميق بين المعيش الفعليّ في الحاضر والمثال في الماضي، النموذج الأعلى المتراجع باستمرار زمانيًّا وقداسة، أمّا في حالة ابن تيمية فالأمر أصبح انفصالًا في الزمان والمكان (ابتعاد نموذج يَثْرِبْ وتدهور المثال الاجتماعيّ)، ويحتاج تكريسه إلى تنصيب المثال الأعلى، ربّما إلى مؤلّفه (العقيدة الواسطيّة)، الّذي خطّ فيه نهجه الفقهيّ، ودعا فيه إلى فرض الشريعة بالصرامة الضرورة لطاعة الناس لتعاليمها، وذلك ناتج عن شعور بانفصال الواقع بحدّة عن مثالها، في العقل والضمير، فغدت الشريعة بحاجة إلى صرامة الدولة كي تتّصل بالمعيش، فـ "ابن تيمية يرى أنّ الابتعاد المكانيّ الزمانيّ عنها (عن الشريعة) لا بدّ أن يُعالَج باتّباع الصرامة في فرض الشريعة بتفاصيلها... لقمع مظاهر الابتعاد عن المثال الأعلى الّذي كان ينتج بذاته شريعة"، ولتصبح الشريعة في نظر العامّة مجموعة أحكام قابلة للتطبيق. وهنا "يصبح السلطان مكلّفًا بمنع التدهور التاريخيّ من المثال الأعلى نحو الانحلال"[2] (ص 148 - 149).

تصبح إرادة الله سبحانه هامشيّة، مقارنة بمشيئة هذا النوع من التديّن الحركيّ التكفيري... وتصبح إرادة الله تابعة لإرادته. وهذا تفسير للدين والتديُّن تنعدم فيه الروحانيّة، وتُهمَّش فيه الأخلاق مع حرّيّة الاختيار، ويهمّش فيه عنصر الإيمان... ويصبح الأمر الأساسيّ إظهار الله شكلًا"...

يستخرج بشارة من مضامين هذه الديباجة نتائج خطيرة؛ ففي هذا الانفصال بين إيمان الجماعة وانتمائها، الّذي أصبح يحتاج لحمُه إلى "وازع السلطان"، وإلى إجبار الناس على الرضوخ لتعاليم الدين، يفتح الطريق للدولة لتفرض ما تشاء من قوانين على المجتمع من خارج الدين، فيصبح الناس أمام وجهين للدولة الاستبداديّة "وجه يفرض الدين بواسطة الدولة (الدولة الثيوقراطيّة)، ووجه تستخدم به الدولة للدين (الدولة الأتوقراطيّة السلطويّة الّتي تستخدم الدين)" (ص 151).

ويكشف بشارة عن مخاتلة العقل التاريخيّ؛ ففي الوقت الّذي يذهب فيه السلطان بموافقة الفقيه إلى فرض الدين بالقوّة، يتيح الفرصة لخلق "مجال" لأوامره هو؛ كي تسود خارج دائرة الأوامر الدينيّة؛ إذ إنّ "الإسلام مثل كلّ الحضارات الأخرى ليس بمعزل عن التمايزات بين الدين والسلطة السياسيّة الّتي نطلق عليها، مع أمور أخرى، عمليّة العلمنة... وإن لم تصل إلى تحييد المجال الدينيّ، وجعل القرار الدينيّ قرارًا خاصًّا بالفرد"، وتصبح العلمانيّة واعية لمقاصدها. ويضيف بشارة مؤكّدًا اختراق "العلمنة" لمجالات معيّنة في العالم الإسلاميّ، كالتمايز الّذي حدث "بين الخليفة وأمير الأمراء... والتمايز بين الفقهاء والسلطان... وهو ما فتح الباب في عام 1922 لشرعنة قرار «الجمعيّة الوطنيّة» بفصل السلطنة عن الخلافة؛ لأنّها انفصلت في التاريخ فقهًا وواقعًا وشرعنة، وهو الفصل الّذي مهّد لإلغاء منصب الخلافة (ص 151).

 


إحالات

[1] يذكّر هذا الكتاب، بكتاب تروتسكي، «الشيوعيّة والإرهاب»، وكتابه الثاني «أخلاقهم وأخلاقنا». 

[2] إنّ فكرة التدهور التاريخيّ، هي فكرة تكاد تكون عامّة لدى المصنّفين العرب، في مختلف مصنّفاتهم الدينيّة، والتاريخيّة، والأدبيّة، اختلفوا في طريقة علاج هذا الخلل، غير أنّهم كانوا يقصدون بهذا التدهور، التدهور (الروحيّ) فحسب، وليس التدهور الحضاريّ أو العمرانيّ.

 


 

شمس الدين الكيلاني

 

 

باحث في «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، صدر له عن المركز ثلاثة كتب، وهي «تحوّلات في مواقف النخب السوريّة من لبنان 1920-2011»، وكتاب «مفكّرون عرب معاصرون: قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان» (2016)، وآخرها كتاب «مدخل في الحياة السياسيّة السوريّة: من تأسيس الكيان إلى الثورة» (2017). 

 

 

التعليقات