30/01/2022 - 14:47

الاعتصام في «بير زيت»: أزمة أم تجربة؟

الاعتصام في «بير زيت»: أزمة أم تجربة؟

إغلاق الكتل الطلّابيّة لبوّابة «جامعة بير زيت» | صورة أرشيفيّة

 

يحاول هذا المقال القراءة في طبيعة اعتصام طلّاب «جامعة بير زيت» بعيدًا عن الجدال الإعلاميّ، البيانيّ والخطابي الّذي يختزل هذا الاعتصام في الموضوع الّذي أشعل الخلاف القائم بين الحركة الطلّابيّة بمن تمثّلهم من طلّاب، وبين إدارة الجامعة ومجلسها بما تمثّله من سياسات وتوجّهات، وبما تمخّض عنه هذا الموضوع من أفعال الجهتين وردود أفعالهما ووجهات نظرهما المتعلّقة مباشرة بموضوع الخلاف. وذلك لأنّ محتويات هذا الجدال لا تشكّل سوى منطقة تحليل ضحلة، ربّما نكون في هذه المرحلة قد قطعناها بالفعل، فكلّ ما سيُقال بشأنها قيل، ولم يبقَ من الفعل المترتّب على هذا النوع من الفهم سوى مجرّد الانحياز إلى طرف من الطرفين، وفي أحسن الأحوال محاولة التوفيق بينهما من خلال فنّ إدارة التنازلات.

لو سلّمنا إلى المنظور الّذي يتعامل مع الوضع القائم باعتباره أزمة (اختزال أوّل)، نجد أنّ إدارة الأزمة (اختزال ثانٍ) بحدّ ذاتها لا يمكنها قطع ما يكفي من الأشواط في أبعاد الأزمة النفسيّة، العاطفيّة، الاجتماعيّة والسياسيّة، والّتي قد يقبع بعضها في اللحظة الراهنة، ولكنّ معظمها يتجذّر في الماضي وفي المستقبل أيضًا، والّذي نختبره أغلب الأحيان على شكل أماني ورغبات لا على شكل خطط واستراتيجيّات. كما أنّ إدارة الأزمة لا تمكّننا من تحويلها إلى أفق إبداعيّ يساهم في تغيير بعض جوانب الواقع، ولكنّه جهد يكتفي فقط باستعادة التوازن وحفظ الاستقرار. ولذا علينا أيضًا أن ننظر إلى الطريقة الّتي تدير فيها الأزمة نفسها داخليًّا، وإلى الآفاق الّتي تبتدعها من خلال الشكل المنفرد الّذي تتّخذه، والّذي قد يميّزها عن غيرها من الأزمات الّتي تقع ضمن النوع نفسه.

 

أبعاد أخرى للاعتصام

إنّ زمنيّة فعل الاعتصام الّذي تمخّض عنه الخلاف باعتباره الشكل النهائيّ للاعتراض الّذي اتّخذ أشكالًا تمهيديّة مختلفة، إلى جانب محتوى الاعتصام العاطفيّ، الاجتماعيّ، الفكريّ والقيميّ، بالإضافة إلى طريقة تنظيم هذا المحتوى، تفرض علينا أن ندرس مجموعة أخرى من الأبعاد الهامّة الّتي يمتدّ عبرها الاعتصام، والّتي لربّما تمسّ قضايا أبعد، أعمق وأهمّ من تلك المطروحة في واجهة الحوار (والّتي تقتصر فاعليّتها على المستوى الظاهراتيّ). كلّ هذه الخصوصيّات والامتدادات تدفعنا لأن نتجاوز في تحليلنا مسألتَيّ الثوابت الوطنيّة (الّتي تشكّل القوّة الدافعة للحراك الطلّابي) وسير العمليّة التعليميّة (الّتي يستند إليها خطاب مجلس الجامعة في مطالباته بإنهاء الاعتصام)، رغم حضورهما الجوهريّ والتأسيسيّ بالنسبة للإشكال القائم.

الاعتصام، لا بتجريده وإنّما بخصوصيّته وتشكّلاته الحالية، يقول الكثير عن الحدّ الّذي تراكمت إليه الرغبة باستبدال طرق التعليم المعتمدة بطرق تعلّم بديلة يحدّدها المتعلّم نفسه...

ولكنّ الاعتصام، لا بتجريده (أي باعتباره اعتصامًا طلّابيًّا) وإنّما بخصوصيّته وتشكّلاته الحالية، يقول الكثير عن أوّلًا، الحدّ الّذي تراكمت إليه الرغبة باستبدال طرق التعليم المعتمدة بطرق تعلّم بديلة يحدّدها المتعلّم نفسه، وثانيًا، إمكانيّة انبثاق القدرة الآنيّة على التنظيم الاجتماعيّ بطرق أقلّ هرميّة، وثالثًا، حاجة الفئات المستهدفة بالقرار للمساهمة في صياغته، ورابعًا، رجحان كفّة التجريب والمغامرة على كفّة التخطيط المسبق والاستقرار من أجل تجديد أو تحسين الوضع القائم أو تحديد أفضل سيناريوهاته. رغم أنّها جميعًا مسائل غائبة على مستوى الخطاب (التمثيل اللغويّ) الّذي يتوسّط فهمنا للظاهرة أو الحدث، ولكنّها حاضرة على مستويات أخرى مختلفة، ممّا يعطيها وجودًا لا مرئيًّا دون أن ينزع عنه بالضرورة صفته المادّيّة.

 

الفرصة الثوريّة والبعد التنظيميّ: التكوين، التفاعل، الديناميكيّة

خلال أيّام من تجمهر الطلبة في باحات الجامعة التزامًا بقرارهم في الاعتصام، بدؤوا ينظّمون مسابقات وتحدّيات رياضيّة وفكريّة، ألعابًا ومحاضرات، حلقات موسيقى وغناء، ونقاشات جماعيّة لمواضيع سياسيّة وثقافيّة ومبادرات لتوفير الاحتياجات الأساسيّة من الطعام والشراب، التدفئة، الإنارة وغيرها، ساهمت بها جهات من داخل مجتمع الجامعة، مثل لجان الطلبة ونوادي الكلّيّات وغيرها من التنظيمات الطلّابيّة، واشتركت معهم جهات من خارج مجتمع الجامعة، من بلديّات واتّحادات جامعيّة أخرى، متاجر، مؤسّسات وأجسام سياسيّة، ممّا أنشأ طرق تفاعل جديدة بين مجتمع الجامعة وبيئته الحاضنة، تقوم على التكافل، التطوّع، الدعم والتضامن. وهي قيم لا سلطويّة رائعة، على الرغم من حضورها الجيّد في المجتمع الفلسطينيّ، فهي لا تجد بالعادة في المؤسّسة الأكاديمية السياق الأمثل لتجلّيها، وهو الأمر الّذي اختلف هذه المرّة، ممّا يعلّمنا أنّ الصّفات الّتي تتكرّس في جسم ما لدرجة تبدو معها صفات بنيويّة حتميّة داخل الجسم، يمكن أن تنقلب أو تتغيّر مع ظهور ظروف أو أحداث مستجدّة، وأنّ التغيير مهما بدا مستحيلًا فهو دومًا قاب قوسين أو أدنى.

يذكّرنا هذا بأنّ حدوث الفعل الثوريّ ليس شرطَ حضورِ الفرصة الثوريّة، بل على العكس، فإنّ الفرصة الثوريّة موجودة في كلّ لحظة وفي كلّ شيء دون شروط، وأنّ الفعل الثوريّ هو مجرّد ’تفعيل‘ لهذه الفرصة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذا الروابط بين الداخل والخارج تشير أيضًا إلى مسألة هامّة تناقشها التكتولوجيا (أو العلم التنظيميّ)، والّتي بدأها ألكساندر بوغدانوف، وهي مسألة ’التفاعل‘ بين الجسم الثوريّ وبيئته، والّتي تشكّل إلى جانب مسألتيّ ’التكوين‘ و’الديناميكيّة‘ الذاتيّة زوايا مثلّث المحدّدات الداخليّة أو الجوهريّة للصفات الثوريّة لأيّ حركة أو شكل تنظيميّ طبيعيّ أو سياسيّ. فعند دراسة أيّ حراك، علينا أن نقيم وزنًا لما يتيحه هذا ’التفاعل‘ من إقامة روابط جديدة بين العناصر والكيانات القائمة بالأساس في النظام السائد. وهذه الروابط بحدّ ذاتها شكل من أشكال التغيير الّذي يجب قياسه. يشير دينيس ياو في إحدى أوراقه القائمة على تطبيقات التكتولوجيا إلى أنّ القضيّة الّتي ينشأ التنظيم أو الحراك بالأساس من أجل مناهضتها لا تشكّل سوى المحدّدات الخارجيّة أو العَرَضيّة الّتي تساهم في تعريف الجسم التنظيميّ الناشئ.

 

المسيرة التعليميّة: تعطيل أم تبديل؟

يتعلّق تعبير «المسيرة التعليميّة» الّذي يتصدّر محور تحليل الاعتصام بهذه المحدّدات العَرَضيّة المذكورة أعلاه، لا شكّ أنّ هذا الاعتصام عطّل المسيرة التعليميّة، ولكنّ الوقوف عند هذه العبارة يعني الاكتفاء بظاهر الأمور، ويعني عدم المرونة -أو عدم الرغبة- في قراءة صيرورة الوضع. فالمسير التعليميّ الّذي تعطّل هو مجرّد واحد من سبل تعليميّة كثيرة. وما يجعلنا نظنّ أنّ هذا المسير هو الأهمّ بين كلّ السبل والطرق التعليميّة الأخرى ليس مثاليّته، ولكن علاقته التكافليّة واشتباكه الوطيد مع بيئة معيّنة تعتمد عليه ويعتمد عليها، وهي بيئة النظام السائد، والّتي تتألّف من القيمة الاجتماعيّة، المؤهّلات المُعتَمَدة، الوضع الاقتصاديّ والمهن وجميع المنتجات المرتبطة بهذا المسير التعليميّ. يعني تعطّل هذا المسير بالذات خلخلة هذه المنظومة كاملةً، ولكن هل يعني انهيارها بالضرورة؟

إنّ المسير التعليميّ موضع التهديد هو بالذات المسير المؤسّساتيّ الأحاديّ الاتّجاه، والّذي يعيّن المؤسّسة المزوِّدة بالخدمة صاحبةً للقرار التعليميّ ويعطيها السلطة على التعليم...

يقدّم لنا دولوز طريقة أخرى لقراءة هذا التشابك بين مكوّنات النظام من خلال النموذج الجذموريّ، الّذي لا يعني انقطاع العلاقة فيه بين أيّ كيانين سوى نشوء علاقة أخرى بين كلّ واحد من هذه الكيانات مع كيانات أخرى في المنظومة. إنّ المسير التعليميّ الحاليّ موضع التهديد هو بالذات المسير المؤسّساتيّ الأحاديّ الاتّجاه، والّذي حتّى لو كان سبيلًا رائعًا من ناحية الجودة، أو من ناحية سلاسة اندماجه مع بقيّة مكوّنات النظام القائم ومساهمته في استقراره، فهو يعيّن المؤسّسة المزوِّدة بالخدمة صاحبةً للقرار التعليميّ ويعطيها السلطة على التعليم، ويعيّن الطلّاب متلقّين، سيتقيّم نجاحهم وفشلهم بناءً على قدرتهم على التقولب ضمن منظومة المعايير المُختارة رغم اختلافاتهم الفكريّة، النفسية والبيئيّة، إلخ، ولذا نرى هذه المعايير المُوحّدة تفشل في الانطباق على هذه الجموع المختلفة قبل أن يفشل الطلاب في الارتقاء لها.

يُحْضِرُ هذا إلى أذهاننا النقاش الّذي يطرحه باولو فريري في كتاب «تعليم المقهورين» حول مفهوم «التعليم البنكيّ» في مقابل «التعليم الحواريّ». يصبح التعليم مع النوع الأوّل ضربًا من ضروب الإيداع الّتي يتحوّل فيها الطّلاب إلى بنوك يقوم فيها الأساتذة بدور المودعين، يقاس نجاح هذه العلميّة بكفاءة المعلم في الملء وكفاءة الطلّاب في الامتلاء. لا يشير مفهوم «التعليم البنكيّ» بأيّ شكل من الأشكال إلى صفات المعلّم أو صفات المتعلّم، ولكنّه قد يحدث في أيّ سياق تعليميّ قائم على أحد أشكال السلطة الّتي يتموضع حولها المتعلّم والمعلّم (مهما كانت صفاتهما الفرديّة وجهدهما المبذول) على شكل طرفين متضادّين.

يفرّق باولو فريري بين التعليم النظاميّ الذي لا يمكن تغييره إلّا بواسطة القوّة السياسيّة (تغيير على صعيد المناهج)، وبين الأنشطة التعليميّة الّتي يقوم بها المقهورون خلال مرحلة تنظيم أنفسهم. وهي المرحلة الّتي تتمثّل الآن -في واحدة من إمكانيّاتها المختلفة- على شكل اعتصام طلّابيّ. وهو ما يجعلنا نوظّف كتابات فريري لفهم هذا السياق.

 

الانتقال من خطاب الهدم إلى خطاب البناء

ولو طبّقنا خطوة أوّليّة في القراءة الجذموريّة على ما يحدث في اعتصام طلّاب «بير زيت»، نجد أنّ تعطيل هذه المسيرة التعليميّة (التعليم النظاميّ) يقابله تبنّي مسيرة أخرى (الأنشطة التعليميّة الّتي يقوم بها المقهورين[1])، أي أنّ الأجدر بنا في هذه الحالة أن نستخدم مصطلح «استبدال» بدلًا من مصطلح «تعطيل». ما الّذي يجعل من إعادة التسمية هذه أمرًا بالغ الأهميّة؟ ليست التسمية بحدّ ذاتها ما سيشكّل فرقًا، إنّما الوعي بمحتواها هو ما قد يدفع هذا الاعتصام إلى تحقيق مخرجات تعليميّة فعّالة. فربّما يحفّز الوعي بهذا المنظور الجديد (منظور الاستبدال) الطلّاب المعتصمين على التركيز على ما يقومون ببنائه، ويضعهم أمام مسؤوليّة صقله، إنجاحه، تنظيمه والاجتهاد في أدائه، في حين أنّ «خطاب التعطيل» يدفع الطلّاب إلى التفكير فيما قاموا بهدمه أو إيقافه، وهو اتّجاه غير مُنتِج في أحسن حالاته، ومتورّط في اللوم، التذنيب، التوبيخ والمعاقبة في أسوئها، أليست هذه أيضًا توجّهات هدّامة بشكل آخر؟ فالتركيز على الهدم هو هدم آخر. بينما يقع الهدم الأوّل على الشيء، يقع الهدم الثاني على فاعل الشيء، وهو هدم أخطر لأنه يمسّ القوى الفاعلة.

ما الذي يعنيه هذا ’الاستبدال‘ بالنسبة لعمليّة التعليم على صعيد المحتوى، القرار والسياق الزمنيّ والحدثيّ؟

 

على صعيد المحتوى والقرار

على الرغم من أنّ الطلاب كفّوا عن تعلّم الموادّ المتعلّقة باختصاصاتهم الجامعيّة، فهم الآن يتعلّمون مواضيع أخرى غير منفصلة تمامًا عن موادّهم الجامعيّة، وغير منفصلة بتاتًا عن احتياجاتهم ورغباتهم الإنسانيّة والوطنيّة. أعتقد أنّ الفرق الأساسيّ بين محتوى ما يتعلّمونه الآن أثناء الاعتصام وما كانوا يتعلّمونه خلال الفصل الدراسيّ لا يكمن في المواضيع والموادّ نفسها، وإنّما يتمثّل في إسقاط الشعور بالاغتراب والقسوة والضّغط النفسيّ الملازم للتعلّم الجامعيّ التقليديّ. حيث ناقش الطلّاب خلال الاعتصام مجموعة من الكتب السياسيّة بتوجيه من «نادي الكتاب» في «جامعة بير زيت»؛ ألا يمكن اعتبار ذلك نشاطًا يمكن أن يضيف للمتعلّمين ضمن تخصّص «العلوم السياسيّة»؟ ربّما ضمن تخصّص «اللغة العربيّة» أيضًا؟ على خلاف أنّه أُتِيحَ للطلّاب بشكله الجديد على أساس الرغبة والاهتمام لا على أساس التخصّص. الأمر نفسه ينطبق على الألعاب الرياضيّة، مسابقات الشطرنج، وغيرها من التحدّيات الفكريّة الّتي ستجد طريقها بشكل ما إلى مجموعة من التخصّصات الّتي تطرحها الجامعة. لو نظرنا هذه المرّة إلى الإضافات الّتي حقّقتها هذه الأنشطة، بدلًا من التركيز على ما خسرته، سنجد أنّها وظّفت الفكاهة، المتعة، الرغبة والراحة بشكل جوهريّ داخل النشاط التعلّميّ نفسه. نقرأ ذلك في سلوك الطلاب وحماسهم الشديد وحضورهم الطوعيّ لهذه الأنشطة، والّذي يتّخذ أيضًا امتدادات عفويّة عبر صفحات ’الميمز‘، الّتي وجدنا فيها الفكاهة هذه المرّة رفيقةً للقيمة التعليميّة لا بديلةً عنها، وهو مؤشّر صارخ على طبيعة التغيّر الحادث.

نجد أنّ تعطيل المسيرة التعليميّة (التعليم النظاميّ) يقابله تبنّي مسيرة أخرى (الأنشطة التعليميّة الّتي يقوم بها المقهورين)، أي أنّ الأجدر بنا في هذه الحالة أن نستخدم مصطلح «استبدال» بدلًا من مصطلح «تعطيل»...

خلال هذا الأسبوع، اختلف نصيب الطلّاب من عمليّة اتّخاذ القرار، فبعد أن كان نصيبهم مقتصرًا على التقرير بشأن تخصّصهم الجامعيّ (الّذي لا يخلو من الارتهانات لمعدّل التوجيهي، طموحات الأهل وحسابات السوق المعقلنة، إلخ)، قرّروا هذه المرة بشأن المحتوى التعليميّ نفسه، والوقت الّذي يتعلّمون فيه، والطريقة الّتي يتعلّمون بها، والجهة الّتي يثقون بها لتوّجه عمليّة التعليم هذه. ينطوي هذا التغيّر على العديد من الإيجابيّات، أقلّها أن ازدادت مسؤوليّة الطلّاب تجاه أنفسهم، وازدادت ثقتهم بأنفسهم. أجزم أنّ العديد منهم وجد في الأنشطة الّتي ينظّمها الطلّاب خلال الاعتصام فرصة للمشاركة برأيهم وقراراتهم، وربّما اكتشف بعضهم لأوّل مرّة أنّ بإمكانه أن يساهم بنجاح في فكرة نشاط جماعيّة ويرى هذه الفكرة تُطبّق أمام عينيه ويُحتفى بها.

 

على صعيد السياق الزمنيّ والحدثيّ

علينا أوّلًا أن نضع في اعتبارنا أنّ الاعتصام حتّى هذه اللحظة هو حدث مؤقّت لا ظاهرة مكرّسة، وانتهاؤه مرهون لا فقط بقرار الطلّاب أنفسهم إنّما أيضًا بمبادرة الجامعة وقدرتها على الإبداع والتحرّك بمرونة، لا فقط مع مطالب الحركات الطلّابيّة بصيغتها الجامدة، وإنّما أيضًا مع طموحاتهم الدفينة، ومع رغباتهم في تحقيق ذاتهم، وهي مهمّة لا يجب إسنادها بالمطلق إلى ممثّلي الجامعة على أسس وظيفيّة، ولكن يجب رفدها باستشارة خبراء نفسييّن واجتماعيّين لمراعاة تعقيداتها الشديدة. هذا إن أردنا العمل على مستوى جذريّ.

ما تسعى هذه الجزئية للتنويه إليه هي تحجيم الخطر والمؤشّر الكارثيّ الّذي على الجامعة أن تتبنّاه في نظرتها للاعتصام، فحتّى لو لم يحقّق الاعتصام نتائج تعليميّة واجتماعيّة مُبهرة، لن تكون هذه كارثة، فالأمور ستعود بعد حين إلى مجاريها المُعدّلة أو السابقة، أي أنّنا في أسوأ الحالات لا نتحدّث عن خسائر عميقة ونهائيّة. وسيكون أقلّ ما حقّقه الاعتصام هو كسر رتابة العمليّة التعليميّة. إنّ تكرار الموادّ، المساقات، المصادر المعرفيّة والمدرّسين فصلًا بعد فصل، على مجموعة من الطلبة بعد مجموعة ينّبئنا عن تعامل مجرّد مع الزمن، مجرّد من أحداثه وسياقاته، مجرّد من الاختلافات الّتي تحدث في البنية الفكريّة لكلّ جيل من الطلّاب. ربّما أحسّ الطلّاب بوعي أو دون وعي، بضرورة استراق فترة من زمن التعليم ونفضها من محتواها المنعزل عن السياق من أجل رفدها بمحتوى آخر يستجيب بتواضع وعفويّة لا يخلوان من التنظيم والتخطيط للواقع الطلّابيّ اللحظيّ، لرغبتهم في اللعب، لرغبتهم في التعلّم دون سطوة الأستاذ، لرغبتهم في مشاركة الأفكار بشكل اجتماعيّ شبكيّ، لا من خلال أسئلة وأجوبة، ولكن من خلال نقاشات طويلة أو قصيرة لا تحدّها غرفة صفّيّة ولا يحدّها وقت المحاضرة، نقاشات متجرّدة من ثقل علامة المشاركة، ومن التقييمات الفكريّة لمفاهيم الأستاذ عن الذكاء والفهم.

يخاطب هذا المقال طلّاب بيرزيت ويحثّهم على وعي قدراتهم العظيمة وتنظيمها بطريقة لا يكونون هم الخاسرين فيها إذا أرادوا أن يحملوا على عاتقهم مسؤوليّة توجيه دفّة الوضع. ويخاطب الجامعة آملًا ألا تشكّل نهاية هذا الاعتصام قطعًا تامًّا مع مرحلة التجريب في التعليم، وآملًا أن تزور الطرق التقدّميّة الّتي تسيّر بعض الجوانب الاجتماعيّة، السياسيّة والثقافيّة في الاعتصام منظومةَ التعليم الرسميّة الّتي تتبنّاها الجامعة. فربّما علينا أن نكفّ عن قراءة الاعتصام باعتباره أزمة وننظر إليه قليلًا باعتباره تجربة اجتماعيّة، سياسيّة وتعليميّة، تنقلب فيها الأدوار بحيث يصبح الطلّاب معلمين وراسمي سياسات تعليم، ونصبح نحن متعلّمين، نتعلّم منهم تطلّعاتهم، رغباتهم، طرائقهم واهتماماتهم التعليميّة بدلًا من أن نفترضها أو نفرضها أو ندرسها من الكتب والأبحاث.

 


إحالات

[1] حسب باولو فريري فإنّ أيّ وضع يعطّل فيه إنسان قدرة إنسان آخر على تحقيق ذاته هو ضرب من القهر العنيف، لأنّ هذا السلوك يحول دون ممارسة الكينونة الذاتية للإنسان.

 


 

ملك عفّونة

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة ومترجمة ومحرّرة. عضوة هيئة تدريسيّة في «دائر الفلسفة والدراسات الثقافيّة» في «جامعة بير زيت»، وحاصلة على درجة الماجستير في «الفلسفة والأدب» من «جامعة ساسكس» البريطانيّة.

 

 

التعليقات