04/07/2022 - 18:39

مطاردة زكريّا زبيدي... الفلسطينيّ تنّينًا

مطاردة زكريّا زبيدي... الفلسطينيّ تنّينًا

القدّيس جريس يقتل التنّين، أيقونة سوريّة، 1859

 

معنى المطاردة

يرغب زكريّا زبيدي، في بحثه المعنون بـ «التنّين والصيّاد: المطاردة في التجربة الفلسطينيّة 1968-2018»، في تبيين كيف أنّ الصيّاد، الّذي يرمز عنده إلى المستعمِر، يجهد ليس ليأكل، بل ليقضي على حياة، وكيف أنّ التنّين، الّذي يرمز عنده إلى المستعمَر المطارَد، ليس فريسة. وهذا على عكس الفهم السائد. ويرغب، ثانيًا، في موضعة المطارَد الفلسطينيّ في حركة تاريخ نضال الشعوب ضدّ مُسْتَعْمِريها، من ناحية، وفي تمييزه عن مستعمِره، من حيث المنظومة الأخلاقيّة الّتي يأخذ بها في نضاله، من ناحية أخرى. يعتمد في ذلك، بين الأشياء، على قصّته الشخصيّة؛ على سرده القصصيّ للتجربة الخاصّة به، جاعلًا منها حالة ممثّلة. وفي هذا توظيف للسرد القصصيّ؛ لما فيه من خصائص وإمكانات؛ لتبيين ما لا يُبَيَّن بلغة العلم.  

أبيّن الخطّ الناظم لبحثه بالوقوف على المفاهيم المشكّلة للمعاني عنده، وأبدأ بالقول: إنّ بحثه، في حركة فصوله، إنّما هو بناء للمعاني الخاصّة بمفهوم المطاردة، في السياق الاستعماريّ، بالعلاقة بجهتَيها المتصارعتين: المطارِد والمطارَد؛ لتأخذ كلّ جهة منهما معناها معكوسًا عمّا هو في الأدبيّات المتداولة؛ وهو الأمر الّذي سيكون له إسقاطاته على تحديد معنى المطاردة.

 

لحظة الصيّاد

يستهلّ بحثه بالحديث عن صورة القدّيس جريس والتنّين، وبتوضيح المعاني المتضمّنة فيها. يقول: "نشأ الأطفال الفلسطينيّون، بمَنْ فيهم الباحث، في هذه الدراسة، في طفولتهم، على صورة أيقونيّة للقدّيس جريس الفلسطينيّ (ويُعْرَف بالخضر)، فارسًا على ظهر حصانه، وهو يسدّد الرمح إلى فم التنّين لكي ينقذ العروس الجميلة. وفي ما بعد، فهمنا أنّ رمزيّة هذه الأيقونة المستمدّة من المخيّلة الدينيّة الإنجيليّة في تراثنا الفلسطينيّ تكمن في انتصار الإيمان الخيّر المتمثّل بالخضر على الوثنيّة الشرّيرة المتمثّلة بالتنّين".

ثمّ بعد أن يوضّح المعاني المتضمّنة في صورة القدّيس جريس ورمحه والتنّين، ينبّه إلى أنّ المعاني هذه لم تتغيّر حتّى اليوم هذا، عندنا نحن المستعمَرين كما عند المستعمِر أبدًا...

ثمّ بعد أن يوضّح المعاني المتضمّنة في صورة القدّيس جريس ورمحه والتنّين، ينبّه إلى أنّ المعاني هذه لم تتغيّر حتّى اليوم هذا، عندنا نحن المستعمَرين كما عند المستعمِر أبدًا، الأبيض، مستعينًا بعبارتين لفيلسوفين، عقدتين رئيسيّتين في حركة تاريخ الفلسفة الغربيّة؛ نيتشه وسارتر. تقول العبارة الأولى: إنّ الصيّاد حين يلاحق التنّين يصير هو التنّين. وتقول الثانية: إنّ ملاحقة التنّين يجب ألّا تجعل أرواحنا تتوحّش مثل التنّين. الصيّاد، في المقولتين، هو الإنسان المهذّب النفس، المرهف الحسّ، الناضج العقل والفكر، والتنّين عكسه؛ متوحّش الروح. وعلى الصيّاد، بالتالي، وفق الأدبيّات هذه، أن يحذر في تعامله مع التنّين لئلّا يصبح مثله.

غير أنّه، زكريّا زبيدي، حينما يخوض تجربة المطاردة، ويسمع تفاخر بعض مؤسّسي وحدات المستعربين باللحظة الّتي تتواجه أعينهم بعين المطارَد، بأنّها "لحظة الصيّاد"، يفهم أنّ الصيد، عند الحديث عن استعمار، لا يكون من أجل المعيش، كما كان الحال عند الهنديّ الأحمر، بل من أجل القتل، ورائحة الموت؛ فيقرّر أن ينحاز إلى التنّين، وأن يغيّر صورته الشرّانيّة إلى صورة خيّرة؛ لأنّ التنّين صاحب المكان، والأقرب إلى الطبيعة، وهو الخصم الوحيد الّذي لا يقبل أن يكون فريسة للصيّاد، الطارئ على الأرض، الّذي يعيش متطفّلًا على دم الآخرين.

التمايز الأساس بين الصيّاد/ المستعمِر/ المطارِد والتنّين/ المستعمَر/ المطارَد، كما يُسْتَدَلّ عليه من قول زكريّا زبيدي هذا، هو أنّ الأوّل، الصيّاد/ المطارِد، طارئ على الأرض، وهو الغريب عنها، مقابل الثاني، الملتصق بها ومالكها. وفي هذا إبراز لحالة المستعمِر الذهنيّة، مقابل حالة المستعمَر؛ أنّ الأوّل، الصيّاد/ المطارِد، يتعامل مع نفسه على أنّه كذلك؛ صيّاد/ قاتل، وفي صيده/ قتله تفاخر ومتعة، يسعى إلى تحقيقهما قدر ما يستطيع وتمكّنه الظروف. أمّا التنّين/ المطارَد، فلا يرى بنفسه فريسة، لا يرى بنفسه طريدة؛ المطاردة، في وعي المطارَد المقاوم، ليس جذرها ط. ر. د، والطريد ليس المطرود من الناس، ليس المُبْعَد المُبْتَعِد؛ المطاردة جزء من فعل المقاومة، هي جزء، على حدّ تعبيره، من "العنف الثوريّ المقاوم"، فسمات المطارَد هي العناد والإصرار والمغامرة والتمرّد.

 

القطع مع أدبيّات المستعمِر

نحن، إذن، أمام المعاني معكوسة، تقطع تمامًا مع أدبيّات المستعمِر ومع منظوره، من جهة، وتؤسّس لمنظور آخر، تُرى الأشياء من خلاله مختلفة، من جهة أخرى، يكون ضمنه المطارَد والمقاوم كلًّا واحدًا لا ينفصل ولا ينفصم، لا في الواقع ولا تحليليًّا؛ فيصير على مَنْ يرغب أن يفهم حالة المطاردة، كما هي في حالة الاستعمار، أن ينظر إليها على أنّها حالة تتركّب من طرفين اثنين، من فاعلَين اثنين: الصيّاد؛ القاتل الّذي يجتهد من أجل تحقيق الإبادة الكلّيّة، كما فعل الأبيض مع الهنديّ الأحمر، وكما يفعل الصهيونيّ اليوم مع الفلسطينيّ. والتنّين؛ المطارَد المقاوم، يقف أمام الصيّاد، وبينهما صراع على حالة وجود، ينسحب، ليس على الحاضر والمستقبل فحسب، بل على الماضي أيضًا.

ومن أجل تأكيد فاعليّة المطارَد في فعل المطاردة، يأتي زكريّا زبيدي بأسماء من حركة تاريخ المقاومة الإنسانيّة، مثل تشي جيفارا الّذي استمرّ في القتال حتّى الموت، ومثل عليّ بن أبي طالب الّذي نام في سرير الرسول ليُقْتَل مكانه...

ومن أجل تأكيد فاعليّة المطارَد في فعل المطاردة، يأتي زكريّا زبيدي بأسماء من حركة تاريخ المقاومة الإنسانيّة، مثل تشي جيفارا الّذي استمرّ في القتال حتّى الموت، ومثل عليّ بن أبي طالب الّذي نام في سرير الرسول ليُقْتَل مكانه، ومثل الحسين بن عليّ بن أبي طالب الّذي خرج ليقاتل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهو على دراية بأنّه سيُقْتَل، وقد قُتِل. وبهذا، باستحضاره للأمثلة هذه، يقول: إنّ المطاردة حالة مقاومة، وإنّ المطارَد، بالتالي، لا يركض هربًا أو خوفًا على حياته من الموت، بل مواجهة لعدوّه المستعمِر؛ من أجل أن يتمكّن من ضربه ومن إلحاق الأذى به مدّة أطول؛ الأمر الّذي يعبّر عنه بقوله إنّ المطاردة، عند المناضل الفلسطينيّ حالة مستمرّة ما دام الاحتلال.

 


 

[جمال ضاهر

 

 

روائيّ وباحث في المنطق وعرب ما قبل الدعوة الإسلاميّة. رئيس دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة بير زيت، ومدير برنامج ماجستير الدراسات العربيّة فيها. ممّا صدر له: "‘عند حضور المكان" (رواية، 2000)، "وأضحى الليل أقصر" (رواية، 2005)، "مفاهيم في المنطق، أسس وقواعد" (2010)، "قواعد في المنطق: أسس ومفاهيم" (2012)، "العدم" (رواية، 2013).

 

 

التعليقات