05/09/2023 - 13:55

فيتوري كرباتشيو... ’قبّة الصخرة‘ المسيحيّة

فيتوري كرباتشيو... ’قبّة الصخرة‘ المسيحيّة

ريتشارد قلب الأسد لجون ليتش (1817 - 1864) | Getty Images

 

خلال زيارة إلى «متحف اللوفر» بباريس، استوقفتني لوحة الرسّام الإيطاليّ فيتوري كرباتشيو (1465-1525) «عِظة القدّيس إستفانوس في القدس». يظهر في اللوحة القدّيس إستفانوس، أوّل شهداء المسيحيّة من القرن الأوّل الميلاديّ، في مدينة القدس، معتليًا قاعدة لبقايا عمود حجريّ لتمثال. يلتفّ حول القدّيس وعند قدميه جمع من الناس بمختلف الألوان والأزياء والوضعيّات. لكنّ اللافت في اللوحة أنّ عددًا كبيرًا من الناس الملتفّين حول القدّيس يرتدون ملابس وعمائم إسلاميّة من القرنين الخامس عشر والسادس عشر. كما تُظْهِر اللوحة، أيضًا، رسمًا لقبّة الصخرة خلف القدّيس، ومساجد بمآذن، تعتليهما أهلّة مقوّسة تضع المشهد كلّه في إطار غرائبيّ يجمع الماضي بالحاضر والواقع بالخيال.

أمّا القدّيس نفسه فيرتدي زيًّا كهنوتيًّا يناسب العصر الّذي رسم فيه كرباتشيو لوحته. ليس من غير المألوف أن يختار رسّامو عصر النهضة تصوير القدّيسين وآباء الكنيسة بملابس من عصور لاحقة تحيل إلى أزياء كنسيّة لكهنة وبطاركة وباباوات، كتلك الّتي يرتديها القدّيس في اللوحة، ولو نتج عن ذلك مفارقة تاريخيّة (Anachronism). ولكنّ المفارقة التاريخيّة الّتي تستحقّ التأمّل، هي توظيف رموز إسلاميّة واضحة تضع شخصيّات إسلاميّة من القرن السادس عشر في سياق حكاية من الكتاب المقدّس، وتدور أحداثها في القرن الأوّل.

 

الافتتان بالشرق

تُعْتبَر لوحة كرباتشيو جزءًا من سلسلة لوحات ذات سرديّة متّصلة للرسّام نفسه، ترصد محطّات من حياة القدّيس إستفانوس وتدور أحداثها في مدينة القدس ومحيطها. تحكي اللوحات قصّة إستفانوس بالاعتماد على سِفْر «أعمال الرسل» في الكتاب المقدّس بعهده الجديد، حيث حصل إستفانوس على بركة التلاميذ الاثني عشر، من أبرزهم القدّيس بطرس كما يظهر في «لوحة السيامة»، وبشّر بالمسيح في القدس كما يظهر في «لوحة العِظة»، وناظرَ رؤساء كهنتها كما يظهر في «لوحة المناظرة»، حتّى إذا أفحمهم في المناظرة "هجموا عليه بنفْس واحدة، وأخرجوه خارج المدينة ورجموه"[2]، كما يظهر في «لوحة الاستشهاد»[3].

 

«عِظة القدّيس إستفانوس في القدس»[1]

 

لم يكن كرباتشيو استثناء في توظيف تفاصيل تشمل العمارة والأزياء الإسلاميَّين؛ لتكون مسرحًا لشخصيّات دينيّة من عصور سابقة للإسلام؛ فقد ظهرت هذه الثيمة في لوحات عديدة لفنّاني عصر النهضة من الأخوين جينتيلي بلّيني (1429-1507) وجيوفانّي بلّيني (1430-1516) وآخرين، عَمِلوا جميعًا في مدينة البندقيّة في إيطاليا.

ليس هذا الافتتان بالتفاصيل الشرقيّة أمرًا جديدًا على الثقافة الغربيّة في العموم، ولا سيّما بعد الحملات الصليبيّة في الشرق لنحو مئتي عام. لكنّ العلاقة الاقتصاديّة والدبلوماسيّة الّتي نشأت بين جمهوريّة البندقيّة والسلطنة العثمانيّة في القرن الخامس عشر، أعطت ذلك الافتتان حيّزًا جديدًا، خاصّة بعد سقوط القسطنطينيّة في يد محمّد الثاني عام 1453؛ الأمر الّذي ساهم في تشكّل انكشاف جديد بين الثقافتين. أدّى سقوط القسطنطينيّة إلى تدفّق عدد هائل من اللاجئين المسيحيّين الأرثوذكسيّين إلى إيطاليا الغربيّة الكاثوليكيّة[4]؛ جاؤوا يحملون تجاربهم وقصصهم عمّا خبِروه من سقوط بلادهم في أيدي الغزاة، مغذّين بذلك خيال الغربيّين عن الشرق؛ علمًا أنّ الغرب المسيحيّ، عمومًا، بما فيه البندقيّة، تلكّأ عن مدّ يد العون لما تبقّى من الإمبراطوريّة اليونانيّة الشرقيّة، في محنتها مع العثمانيّين عشيّة سقوطها[5]، وذلك لعداوة قديمة بين الكنيستين برزت في عدد من الحوادث التاريخيّة، من ضمنها، الحملات الصليبيّة.

لكنّ البلاد الغربيّة الّتي حكمت البحر بتجارتها، مثل البندقيّة وجنوا، أدركت أنّ في الشرق خصمًا توسّعيًّا لا يسعها تحدّيه الآن، فالمصلحة تقتضي في الوقت الراهن بناء علاقات تجاريّة تفيد الطرفين. كانت تلك العلاقات قد بلغت أوجها في عصر بلّيني نفسه، الّذي أرسلته البندقيّة بطلب من محمّد الثاني ليرسمه، بعد أن كان السلطان قد طلب رسّامًا إيطاليًّا لهذه الغاية تحديدًا[6]. إذن، لم يكن من الغريب بمكان، أن نرى تفاصيل إسلاميّة في لوحات لفنّانين من البندقيّة تصوّر جوانب من ذلك الانكشاف المتجدّد والتقارب والحذِر.

 

مسلمون... وجوههم داكنة

إنّ وجود تفاصيل إسلاميّة في لوحات فنّاني عصر النهضة في البندقيّة، لم يكن مجرّد زينة تُزَرْكِش أعمالهم بغرائبيّة شرقيّة قد تثير فضول الناس في بلادهم. بل يمكن قراءة التوظيف الإسلاميّ نمطًا فنّيًّا استشراقيًّا، سابقًا لصعود الاستشراق، لاحقًا كمذهب رسميّ بملامح واضحة في العصر الحديث. أدّعي هنا، أنّ ضمّ التفاصيل الإسلاميّة في لوحات من عصر النهضة، يتجاوز الجانب الجماليّ، ويدخل في باب بناء رواية وتشكيل وعي لهويّة جامعة عبر توظيف مفارقات تاريخيّة، من جهة، وترسيخ البناء الإسلاميّ، كقبّة الصخرة، بوصفه مَعلمًا مسيحيًّا، من جهة أخرى، في لوحات عصر النهضة.

في لوحة «عِظة القدّيس إستفانوس»، مثلًا، يقف القدّيس على قاعدة حجريّة في القدس ترفعه فوق الناس، فعليًّا ورمزيًّا. تبدو القاعدة كأنّها لتمثال قديم كان يقف في المكان نفسه في عصور سابقة، ربّما كان لإمبراطور أو لإله رومانيّ وثنيّ قديم. إنّ وقوف إستفانوس؛ الشهيد المسيحيّ الأوّل بعد المسيح، مكان التمثال القديم، يمنح الهويّة المسيحيّة صفة الوارث الشرعيّ للإمبراطوريّة الرومانيّة القديمة الوثنيّة في القدس الّتي يقف القدّيس المسيحيّ على أنقاضها، حرفيًّا. هذا الأمر يجعل من وجود المسلمين في اللوحة – أولئك الّذين لم يعرفوا القدّيس، ولم يعاصروه في الواقع – والمساجد المحيطة، تفاصيلَ غريبة عن المكان وتاريخه.

إذا نظرنا إلى أوجه الناس، وجدنا أوجه البعض مضاءة بشكل لافت يحيل إلى أنّهم قبلوا برسالة القدّيس؛ أبرزهم، ربّما، امرأة بزيّ أبيض غطّت عينيها من وهج النور، ونساء جالسات يستمعن بوجوه أضاءتها كلمات القدّيس. أمّا رجال العمائم، وبعض الرجال الآخرين مثل الرجل اليهوديّ ذي اللحية المدبّبة في وسط اللوحة؛ فوجوههم داكنة لم تستقبل نور الرسالة. نستطيع أن نميّز منهم رجالًا بعمائم عثمانيّة مستديرة تقليديّة، ورجلًا بعمامة مملوكيّة معقوفة إلى الوراء، ورجلًا آخر بعمامة مغاربيّة مع لثام يكشف منه وجهه. المشترَك بين العمائم كلّها أنّها تغطّي آذان أصحابها، فهم لا يسمعون ولا يقبلون ما يقول القدّيس، وبالتالي شاهت وجوههم، بالمقارنة، ولم يُنِرْها الروح القدس. وفي ذلك تمهيد وإحالة إلى مشهد المناظرة مع اليهود الّذين تحوّلوا في اللوحة هنا إلى مسلمين، حيث يختتم القدّيس قوله بحسب سِفْر «أعمال الرسل»:" يا قُساةَ الرِّقابِ، وَغَيْرَ الْمَخْتونِينَ بِالْقُلوبِ وَالآذانِ! أَنْتُمْ دائِمًا تُقاوِمونَ الرّوحَ الْقُدُسَ. كَما كانَ آباؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ!"[7].

 

«استشهاد القدّيس إستفانوس»[8]

 

إنّ غياب نور الروح القدس عن أوجه المسلمين، كما بيّنه كرباتشيو في لوحته، وسدّ آذانهم عن سماع كلمات القدّيس بعمائمهم، ينذر بزوال ملكهم الّذي عبّرت عنه اللوحة بالمآذن الّتي تملأ الحيّز، كما زال مُلْك غيرهم من الوثنيّين الّذين رفضوا الرسالة قبلهم. ويبشّر بعودة القدس إلى الورثة ’الحقيقيّين‘ الّذين يمثّلهم القدّيس الواقف على أنقاض ماضٍ يخصّه. ليس غريبًا، إذن، أن يُرْجَم القدّيس في لوحة «الاستشهاد» خارج المدينة على يد مجموعة من المسلمين بعمائم بارزة، في إشارة إلى أنّ رسالة القدّيس – كما يبيّنها كرباتشيو – مضطهدة في بلاد المسلمين.

 

«قبّة الصخرة» المسيحيّة 

لم يكتفِ كرباتشيو، الّذي أوقف القدّيس فوق قاعدة رومانيّة، بوضع المسلمين تحت القدّيس في اللوحة، بل اختار أن يرسم صورة قريبة وواضحة لـ «قبّة الصخرة»، تماثل القدّيس في وقفته. ولكنّ لضمّ القبّة نفسه رمزيّة سياسيّة مهمّة. لم يكن كارباتشيو الرسّام الوحيد الّذي رسم «قبّة الصخرة» في لوحاته؛ فقد كانت القبّة ثيمة متكرّرة في عدد كبير من لوحات عصر النهضة، جزءًا من سيرورة تدريجيّة لتوظيف القبّة لا مَعْلَمًا إسلاميًّا، بل جزءًا من الإرث اليهوديّ للمسيحيّة الّذي ينطلق من سرديّة هيكل سليمان، ويستمرّ حتّى اليوم. فإذا كانت المسيحيّة في اللوحة قد ورثت بقايا الإمبراطوريّة الرومانيّة، ورأت بذلك حقًّا لها يحيّد المسلمين باعتبارهم أجانب عن المكان، فإنّها كذلك، ورثت ما اعتبرته معالم يهوديّة في القدس، وعملت على امتلاكها وترسيخها في الوعي المسيحيّ. في الحالتين، يكون الوجود الإسلاميّ عدائيًّا بإعدام القدّيس، ومؤقّتًا بلا جذور وثنيّة ولا يهوديّة في المدينة.

على أنّ كرباتشيو وزملاءه من فنّاني عصر النهضة لم يبتدعوا فكرة ضمّ «قبّة الصخرة» إلى السرديّة المسيحيّة، بل ورثوا هذه الفكرة ممَّنْ حكم القبّة من مسيحيّي الغرب قبلهم بنحو خمسمئة عام. عندما دخل الإفرنج الصليبيّون القدس في عام 1099، ارتكبوا فيها مذبحة عظيمة، وأخذوا من جملة ما أخذوا «قبّة الصخرة» الّتي أسموها باللاتينيّة «Templum Domini» أي ’هيكل ربّنا‘، و«المسجد الأقصى» الّذي أسموه ’هيكل سليمان‘. بل إنّ القبّة أصبحت شعارًا رسميًّا لما يُعْرَف بـ ’فرسان الهيكل‘ في مملكة بيت المقدس المسيحيّة، الّذين استبدلوا بهلال القبّة صليبًا يعلوها.

 

«قبّة الصخرة» على ختم فرسان الهيكل[9]

 

يصف فوشيه الشارتري، أحد مؤرّخي الحملة الصليبيّة الأولى وشاهدها، ما رآه في باحة المسجد على نحو يناسب رواية الغزاة: "وفي المدينة هيكل الربّ (Templum Domini) مستدير الشكل، مبنيّ حيث نصب سليمان في غابر الزمان الهيكل العظيم". وفي موضع آخر، يصف فوشيه ما حلّ بالمسلمين في رحاب «المسجد الأقصى» بعد أن تمكّن محاربو الغرب أخيرًا من اقتحام المدينة، فأورد يقول: "دبّ الرعب في الوثنيّين (المسلمين)... فاستعصم بعضهم في هيكل الربّ (قبّة الصخرة)، وآخرون في هيكل سليمان (المسجد الأقصى)... فلم يجدوا مكانًا يحميهم من سيوفنا... وإنّ عددًا كبيرًا من السراسنة (المسلمين) الّذين تسلّقوا أعلى هيكل سليمان هربًا من سيوفنا أصابتهم سهام الموت؛ فسقطوا عن السطح على رؤوسهم مباشرة. وقُطعت رؤوس نحو عشرة آلاف في هذا الهيكل. لو كنتم هناك لوصلت دماء القتلى كواحل أقدامكم. ما عساي أن أقول؟ لم يُتْرَك أيٌّ منهم على قيد الحياة. لم ينجُ منهم لا نساء ولا أطفال".[x] بعد ذلك، ضُمَّت الصخرة إلى أملاك الكنيسة، ودخلت في الرواية المسيحيّة التاريخيّة رسميًّا. حتّى أنّ معظم المسيحيّين من الإفرنج آنذاك تجاهلوا تمامًا أنّ الصخرة والأقصى عمارتان إسلاميّتان بُنِيتا لصلاة المسلمين وتعبّدهم[10].

سترد «قبّة الصخرة» بهيئات مختلفة في لوحات رسّامين من عصر النهضة، لكن جزءًا من سرديّة كرّسها الغزو الإفرنجيّ الصليبيّ، وبوصفها المسيحيّ (Templum Domini). وكما تجاهل الإفرنج الأصول الإسلاميّة للقبّة، ستتعمّد اللوحات ربط القبّة بالرواية المسيحيّة، حتّى لو ضمّت اللوحة شخصيّات إسلاميّة مثل لوحة كرباتشيو، يظهر فيها المسلمون كأنّهم بأزيائهم وأبنيتهم وعاداتهم حاضرون في مكان هو من حقّ غيرهم تاريخيًّا ودينيًّا. هذا الربط، تحديدًا، هو الّذي سيمنح الرواية استمراريّة لقرون لاحقة، يكون فيها المسلمون طارئين على المشهد، ولا حقّ لهم فيه.

يمكن أن نجد تصوّرات لـ «قبّة الصخرة» في أعمال أخرى في إيطاليا وغيرها، مثل لوحة «المسيح يسلّم المفاتيح لبطرس»، للرسّام بيِترو بيرجينو في عام 1482، ولوحة «المسيح يحمل الصليب» لرسّام هولنديّ مجهول في عام 1470، ولوحة «آلام المسيح في مشهد بانوراميّ للقدس» لرسّام فلاندري مجهول في الربع الأخير من القرن الخامس عشر. تظهر القبّة في هذه اللوحات بأشكال مختلفة زيّنها رسّاموها بخيال يبرز جمالها؛ فتكون تارة مرصّعة بالأحجار الكريمة، ومضخَّمة فوق حجمها الطبيعيّ، أو يضيف رسّاموها إليها طبقات فوق البناء الأصليّ، أو تكون مطليّة بذهب يغطّيها والبناء تحتها، وتجمع الناس ’المؤمنين‘ من حولها عنوانًا لهويّة مسيحيّة جامعة.

ههنا، هيكل الربّ يذكّر المؤمنين بأورشليم الجديدة النازلة من السماء؛ كاملة بأبعادها الهندسيّة على نحو جعل «قبّة الصخرة»، بهندستها المعماريّة المتقنة، مثالًا لذلك الكمال؛ فلا مكان لغير المؤمنين فيها. تبدو لوحات عصر النهضة كأنّها، في رسم القبّة، تستوحي كلام القدّيس يوحنّا في «سفر الرؤيا»: "وَأَنا يُوحَنّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَليمَ الْجَديدَةَ نازِلَةً مِنَ السَّماءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَروسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِها. وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظيمًا مِنَ السَّماءِ قائِلًا: 'هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونونَ لَهُ شَعْبًا"[11].

 

«آلام المسيح في مشهد بانوراميّ للقدس»[12]

 

قتلة لَمْ يعاصروا ضحاياهم

سيكون السلام الجميل والهويّة الواحدة لشعب اختاره الربّ بنفسه ملهمًا لكلّ تلك اللوحات. لن تُظهر لوحات كرباتشيو وبلّيني وغيرهما دماء المسلمين الّذين ذُبِحوا في هيكل الربّ ذاك؛ فيُفسدوا بها جمال المثال الجامع والقصد من ورائه. بل على النقيض من ذلك، سيظهر المسلمون في لوحات كرباتشيو، وفي مفارقة تاريخيّة صارخة، في هيئة قاتلي شهداء المسيحيّة الأوائل، الّذين لم يعاصروهم أصلًا، وذلك في لوحة «عشرة آلاف شهيد على جبل أراراط»، حيث شارك المسلمون أباطرة رومانيّين وثنيّين في تعذيب عشرة آلاف شهيد مسيحيّ، وذبحهم في مذبحة وقعت في القرون الأولى للمسيحيّة؛ وسيظهر القدّيس جريس في لوحة أخرى وهو يذبح تنّينه الشهير، وفي الخلفيّة، رجال بعمائم يرجمون القدّيس إستفانوس، خارج أسوار القدس الّتي نرى منها عمارات تعلوها أهلّة إسلاميّة. وكأنّ كرباتشيو يربط المسلمين الّذين يرجمون إستفانوس – الّذي لم يعاصروه - في الخلفيّة بالتنّين الّذي يقتله جريس في الواجهة؛ ثأرًا للقدّيس القديم.

على أنّ شيطنة العمامات لا تتوقّف هنا، فقد حرص كرباتشيو على سرد حكاية جريس التقليديّة كاملة، فجعل معذّبيه وقاتليه من المسلمين في الشريط أسفل اللوحة بعمامات عثمانيّة ومملوكيّة. وبذلك تكتمل سيرة القدّيس الثاني امتدادًا لسيرة القدّيس الأوّل؛ فيصبح الماضي الّذي رسمته مخاوف الحاضر علامة من علامات تشكيل الوعي وصناعة الرواية. 

 

«القدّيس جريس يقتل التنّين»[13]

 

لا يمكن فصل الفنّ الّذي أنتجه كرباتشيو عن تداعياته السياسيّة؛ فإنّ ضمّ تفاصيل إسلاميّة عدائيّة في لوحات لشهداء مسيحيّين، يعني أنّ في الإمكان ابتداع رواية تاريخيّة متخيّلة في الفنّ تعبيرًا عن عداوات سياسيّة-دينيّة معاصرة؛ هنا، لا تكون المفارقات التاريخيّة الّتي تتلاعب بالزمن معضلة منطقيّة، بل تكون الدافع الأساس في بناء وعي جمعيّ يصنع الواقع بقدر ما يصنعه الخيال.

الماضي، إذن، حاضر كبير متّصل، يُعاد إنتاجه بسرديّات تختلط فيها الرغبات والمخاوف والأطماع السياسيّة المعاصرة للعمل الفنّيّ. الماضي حكاية يتداخل فيها الخيال بالرواية التاريخيّة؛ فيصير لتراكم أعمال فنّيّة مشحونة برموز متخيّلة أثر حقيقيّ على صناعة الواقع.

 


إحالات

 

[1] Humphry, Peter et al. Vittore Carpaccio: Master Storyteller of Renaissance Venice. (Yale UP, 2022). (p. 250)

[2] سِفر أعمال الرسل (7:57-58).

[3] هناك لوحة خامسة لا تزال مفقودة حتّى اليوم.

[4] Goetz, Hermann. “Oriental Types and Scenes in Renaissance and Baroque Painting.” The Burlington Magazine for Connoisseurs, vol. 73, no. 425, 1938, (pp. 50–62).

[5] Frazee, Charles A. The Catholic Church in Constantinople, 1204-1453, 1978 (p. 40).

[6] Goetz, Hermann. “Oriental Types and Scenes in Renaissance and Baroque Painting.” (p.56).

[7] أعمال الرسل (51:7).

[8] Humphry, Peter et al. p. 251.

[9]  Archer, Thomas Andrew, and Charles Lethbridge Kingsford. The Crusades: The Story of the Latin Kingdom of Jerusalem. (T. Fisher Unwin 1894). p. 176.

[10]  De Chartres, Foucher. A History of the Expedition to Jerusalem, 1095-1127. (1973). pp. 118-122.

[11]  Berger, Pamela. The Crescent on the Temple: The Dome of the Rock as Image of the Ancient Jewish Sanctuary. BRILL, 2012), p. 76.

 [12] سِفر الرؤيا (21:2-3).

[13] Berger, Pamela. The Crescent on the Temple: The Dome of the Rock as Image of the Ancient Jewish Sanctuary. (BRILL, 2012). p. 186.

 


 

إياد معلوف

 

 

 

محاضر ومترجم مستقلّ من فلسطين، حاصل على ماجستير الأدب الإنجليزيّ من «جامعة حيفا»، وطالب دكتوراه في الأدب المقارَن في «جامعة تل أبيب».

 

 

التعليقات