06/10/2023 - 19:30

سقوط المدينة من السرديّة الفلسطينيّة

سقوط المدينة من السرديّة الفلسطينيّة

سينما الحمرا في يافا،

 

أيّ تصوّر عن فلسطين لدى الجيل الجديد؟

في عام 2004، عُرِضَ مسلسل «التغريبة الفلسطينيّة» للمرّة الأولى، وهو يحكي قصّة أسرة فلسطينيّة قرويّة فقيرة تكافح من أجل البقاء، في ظلّ الاستعمار البريطانيّ على فلسطين. حاول كاتب السيناريو، وليد سيف، من خلال قصّة الأسرة تصوير الحياةفي فلسطين، وتحديدًا خلال الفترة 1930-1967. صُوِّرَ المسلسل في مناطق تدمر، وحلب، وطرطوس، وقرية عمار الحصن التابعة لمحافظة حمص في سوريا.

«التغريبة» عمل دراميّ مهمّ، يمكن اعتباره وثيقة مرجعيّة لتجسيد معاناة الفلسطينيّ ومقاومته فترة الاستعمار البريطانيّ، والنكبة واللجوء بعدها. خلال عملي في تحكيم مسابقات أدبيّة نظّمتها «وزارة التربية والتعليم» الفلسطينيّة، لاحظت وجود مؤشّرات على أنّ المسلسل، وبعد عشرين عامًا مِنْ عرضه، غدا بالنسبة إلى الجيل الفلسطينيّ الجديد مرجعًا وحيدًا للحكاية الفلسطينيّة، وهذا مؤشّر على اختزال غير صحّيّ.

مئات القصص حول النكبة الّتي كتبها الطلبة مستوحاة من جوّ المسلسل، ومن روايات الروائيّ إبراهيم نصر الله. ومع كونها محاولات مهمّة لتوثيق تلك الفترة، إلّا أنّها روايات ومحاولات كانت تحتوي على ثغرات...

مئات القصص حول النكبة الّتي كتبها الطلبة مستوحاة من جوّ المسلسل، ومن روايات الروائيّ إبراهيم نصر الله، ومع كونها مشاريع مهمّة لتوثيق تلك الفترة، إلّا أنّ فيها نقصًا كُرِّسَ مع الزمن بطريقة أسقطت جانبًا مهمًّا من حكاية الشعب الفلسطينيّ ووطنه، وفضاءات هذه الحكاية، ألا وهو المدينة الفلسطينيّة.

 

سقوط المدينةمن السرديّة

المتلقّي للأدب الفلسطينيّ الّذي يتناول فترة الاستعمار البريطانيّ حتّى الأعوام القليلة الّتي تلت النكبة، سيجد أنّ المدينة عمومًا قليلة الحضور في السرديّة؛ فأغلب الروايات عن تلك الفترة تصوّر الفلسطينيّين بأنّهم مجموعة من البسطاء الّذين يعيشون في قرًى منعزلة، لا ينغّص حياتهم شيء سوى وجود ’الغرباء اليهود‘ المقيمين في المستعمرات، ثمّ يفاجَؤون عام النكبة بتلك المستعمرات تهجم على القرى والاستيلاء عليها.

إنّ أدبنا في الواقع مُتْخَم بتفاصيل الحياة القرويّة، وفي رواية صراع كلاسيكيّ بين الفلّاح الفلسطينيّ والمهاجرين اليهود المسلّحين، لكن قلّما نجد ما يعكس الحياة المركّبة وأعماقها في المدن الفلسطينيّة الكبرى؛ يافا، وحيفا، وعكّا، والقدس، وغيرها.

مسلسل «التغريبة الفلسطينيّة»، وهو في الأصل عمل سرديّ بعنوان «تغريبة بني فلسطين»، تدور أحداثه مثلًا في قرية فلسطينيّة تبدو بائسة، لا تتعدّى كوتها مجموعة من المباني الحجريّة القديمة البسيطة والمتهالكة. هل كانت قرانا بائسة بهذا الشكل حقًّا؟ مَنْ يزور اليوم أطلال قرًى مثل رافات ولفتة واللجّون وغيرها المئات، أو مدن مثل حيفا ويافا وعكّا، سوف يجد نفسه أمام تراث حضاريّ معماريّ غنيّ ومركّب، أبعد ما يكون عن الصورة البائسة الّتي ظهرت فيها فلسطين في المسلسل.

مَنْ يزور اليوم أطلال قرًى مثل رافات ولفتة واللجّون، وغيرها العشرات، أو مدن مثل حيفا ويافا وعكّا، سوف يجد نفسه أمام تراث حضاريّ معماريّ غنيّ ومركّب، أبعد ما يكون عن الصورة البائسة الّتي ظهرت فيها فلسطين في المسلسل.

أين الروايات الّتي تتحدّث عن الحياة داخل المدينة الفلسطينيّة، وتفاصيل حياته الاجتماعيّة؟ أو الّتي تروي كيف سقطت، وقبيل وبعيد سقوطها؟ هل كان الشعب الفلسطينيّ مجموعة من الفلّاحين البسطاء فقط؟ أين قصص التجّار والمثقّفين؟ قصص المسارح والمصانع والموانئ والنُّظُم المؤسّساتيّة المختلفة؟ أو الروايات الّتي تعالج العلاقة بين الفلسطينيّ والقادم اليهوديّ في تلك الفترة في سياق اليوميّ؟ هل كانت العلاقة مقتصرة على الكراهية بين الفلّاح والجنديّ الصهيونيّ؟ هل كان اليهوديّ فقط يحمل بندقيّة، ويستولي على الأرض بالقوّة العسكريّة الفجّة، وبصورتها السطحيّة؟ كيف عولِج موضوع الإضراب الفلسطينيّ الكبير؟ مثلًا، هل وافق عليه كلّ التجّار؟ ومَنْ التزموا به، كيف تدبّروا شؤون حياتهم؟ كلّها ثغرات تحوّلت مع الزمن إلى صور طاغية في السرديّة الّتي تتناول تلك الفترة من كفاح الشعب الفلسطينيّ.

 

الرواية المضادّة

تقوم الرواية الصهيونيّة عمومًا على فكرة ’شعب بلا أرض يعود إلى أرض بلا شعب‘، وإغفالنا لقصّة المدينة الفلسطينيّة يفيد بطريقة غير مباشرة تلك الرواية؛ ’اليهود المتنوّرون‘ جاؤوا إلى فلسطين الّتي لا يوجد فيها سوى مجموعة مِنَ الفلّاحين، الّذين يعملون في الأرض بطرق بدائيّة جدًّا، فبَنَوْا المدن، وأدخلوا الأساليب الحديثة في الزراعة والصناعة والتعليم وغيرها من مجالات. لكن، ما الرواية الفلسطينيّة المضادّة؟

لقد سقط مجتمع المدينة الفلسطينيّة من قصّتنا، بحيث أنّ القارئ غير الفلسطينيّ سيعثر على صورة لمجتمع لا يملك شيئًا سوى أنّه مسحوق وبائس ويقاوم بأدوات بدائيّة، لا صاحب مدينة وريفها اللّذين سُرِقا منه بكلّ ما فيهما من إمكانيّات وأدوات وأفعال وديناميكيّات مركّبة.

لقد سقط مجتمع المدينة الفلسطينيّة من قصّتنا، بحيث أنّ القارئ غير الفلسطينيّ سيعثر على صورة لمجتمع لا يملك شيئًا سوى أنّه مسحوق وبائس ويقاوم بأدوات بدائيّة...

إنّ مراجعة الأدب الفلسطينيّ الّذي يصوّر الحياة في فلسطين، والصراع الفلسطينيّ مع الاستعمار خلال الفترة 1917-1948، تكشف عن وجود هوّة كبيرة بين قصص الأجداد، وما تكشفه الدراسات التاريخيّة عن المدن الكبرى وازدهارها، والحركة الثقافيّة والاقتصاديّة والعلميّة فيها، وبين الأدب الفلسطينيّ الّذي يركّز على الريف وتهجير قراه بالأساس، ويغفل عن الكثير من تفاصيل الحياة في المدن وتهجيرها. وعلى الرّغم من وجود روايات تتناول المدينة، مثل «بيت وراء الحدود» لعيسى الناعوري، و«عائد إلى حيفا» لغسّان كنفاني، و«كأنّها نائمة» لإلياس خوري، إلّا أنّها تبقى قليلة مقارنة مع تلك الّتي اختارت الرّيف فضاءً لها.

 

تعويض النقص

لا يهدف هذا المقال القصير إلى لوم ما كُتِب عن فلسطين الانتدابيّة والنكبة، ولا يقلّل من مشاريع مثل الّذي أنجزه الروائيّ إبراهيم نصر الله، أو أبدعه وليد سيف، لكنّه مجرّد تساؤل عن سبب تهميش المدينة الفلسطينيّة وعوالمها، وعدم الكتابة والبحث فيها بشكل كافٍ يليق بمكانتها الّتي عرفناها من الآباء والأجداد، والّتي نجدها أيضًا في الدراسات التاريخيّة.

أيّ  مشروع للكتابة عن فلسطين خطوة بالاتّجاه الصحيح والصحّيّ، لكن علينا الاعتراف بوجود نقص لمحاولة تعويضه؛ من أجل تثبيت حقيقتنا والتأسيس لذاكرة الأجيال متينة، ووافية، وشاملة غير ناقصة.
 


 

خليل ناصيف





 

كاتب، وشاعر، وروائيّ فلسطينيّ يعمل في إدارة قسم الكوارث في «الهلال الأحمر الفلسطينيّ». صَدَرَت له عدّة مؤلّفات من بينها «وليمة للنصل البارد» (2014)، و«الغابة الّتي قفزت من الصورة» (2017).

 

 

التعليقات