04/02/2017 - 19:20

هل بدأ داعش بالتفكك؟

تفكك داعش هو انتصار لجهود مكافحة الإرهاب، خاصة إذا ما أدى هذا التفكك إلى ما يُطلق عليه "المنافسة الإرهابية المدمرة"، وهي ديناميكية تقوض أيدولوجيا التنظيم عبر دفع أنصار التنظيم إلى مناطق إقليمية أخرى في حين يتعفن المركز وينتهي أثره.

هل  بدأ داعش بالتفكك؟

إعدام بين آثار تدمر (تصوير شاشة)

ترجمة خاصة: عرب 48

مع الانتكاسات التي يواجهها تنظيم 'الدولة الإسلامية ' (داعش)، بات معظم المراقبين يعتقدون بأن الجماعة دخلت مرحلة الانهيار. فخلال الأسبوع الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، 'التحرير الكامل' للجزء الشرقي من مدينة الموصل، من يد التنظيم. لا شك بأن قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والمكلف بمكافحة داعش، والذي توشك حملته العسكرية على دخول عامها الثالث، قد حقق تقدمًا ملحوظًا. فنتيجة لجهوده في العراق وسورية في عام 2016 فقط، تم قتل واعتقال عدد من قادة التنظيم الكبار، كما تلقى التنظيم ضربات موجعة في مصادر تمويله، وخسر الكثير من الأراضي. ولا شك بأن التنظيم يوشك على التفكك خلال السنوات القادمة.

ثمة مساران مُتوقعان للتنظيم في المرحلة المقبلة. الاحتمال الأول، هو أن يؤدي تفكك التنظيم إلى تمركزه في مجموعة صغيرة مركزية، حتى لو كانت أضعف. أما الاحتمال الثاني، فهو أن يسلك التنظيم نهج القاعدة في بدايات الألفية الجديد بأن يضعف تأثيره في المركز (العراق وسورية)، في حين يُعطي الزخم لعملياته الإقليمية في مناطق مثل أفغانستان، ليبيا، شبه جزيرة سيناء واليمن.

يرى بعض المحللين، مثل كلينت واتس، بأن تفكك داعش هو انتصار لجهود مكافحة الإرهاب، خاصة إذا ما أدى هذا التفكك إلى ما يُطلق عليه 'المنافسة الإرهابية المدمرة'، وهي ديناميكية تقوض أيدولوجيا التنظيم عبر دفع أنصار التنظيم إلى مناطق إقليمية أخرى في حين يتعفن المركز وينتهي أثره.

على أن محللين آخرين، مثل كولين كلارك وتشاد سيرينا، يرون بأن هذه الديناميكية أكثر إشكالية مما يُظن عادة، وهي ديناميكية يُمكن أن تؤدي إلى ظهور جماعات أصغر، وأكثر تطرفًا؛ يُمكن أن تتسبب بإطالة أمد الحرب.

في هذه الحالة، يُمكن أن تكون القاعدة مثالًا مفيدًا. ففي أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، كانت تنظيم القاعدة تنظيمًا إرهابيًا هرميًا ومتماسكًا. ولكن في السنوات الخمس التالية لجهود الولايات المتحدة لتدمير هذا التنظيم، تحول التنظيم تدريجيًا إلى هيدرا قاتلة (الهيدرا اسم كائن أسطوري؛ تنين متعدد الرؤوس)، وأصبحت فروعها تمتد من شمال إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا. وفي نهاية المطاف، انتشر مقاتلو القاعدة حول العالم، مؤسسين فروعًا لا مركزية، تحمل معها تحديات لوجستية وقانونية كبيرة. في هذه العملية أصبح المركز، في أفغانستان وباكستان، ضعيفًا نسبيًا، ولكن بدلًا من التعامل مع كيان موحد، أصبح على وكالات مكافحة الإرهاب التعامل مع الفروع في أندونيسيا، العراق، مالي، اليمن وأماكن أخرى.

علاوة على ذلك، ومن الزاوية القانونية، أصبح الحق باستعمال القوة العسكرية أمرًا معقدًا أمام شبكة القاعدة الجديدة التي تتشكل من مجموعات مختلفة يرتبط بعضها بالمركز بشكل وثيق، في حين تبقى بعض المجموعات مرتبطة بخيوط رفيعة بمركز التنظيم.

لا حاجة للقول بأن داعش بحاجة إلى بعض الوقت قبل أن تتضح طبيعة المسار الذي ستسلكه. ولكن أيًا كان ما يحدث، فبإمكاننا أن نكون واثقين بأن التنظيم لا يرغب بالانتشار.

المؤشرات الإعلامية

لفهم طريقة تأثير مسار التفكك على داعش، قمنا بتحليل المُخرجات الإعلامية للتنظيم، البروباجندا التي يُذيعها التنظيم، بمرور الوقت. فبدراسة حجم الإنتاج، ومصدره، ونوعيته يُمكن أن نرى مجموعة من الأدلة حول طبيعة تحول السرديات الكبرى، وحول مدى تماسك فروع التنظيم، وبالطبع مدى قدرة التنظيم على مخاطبة جمهوره. في مسعانا هذا، توفر المجموعات المنشقة عن التنظيم فرصًا أفضل للبحث. خاصة وأن الدعاية السياسية لداعش تُغرق الفضاء الإلكتروني لكثرتها.

على الرغم من أن حجم الإنتاج الإعلامي لداعش قد انحسر في الفترة الأخيرة، كما أظهرت دراسة حديثة أجراها مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، إلا أن تراجع حجم الإنتاج في هذا السياق ليس هو المسألة الأكثر أهمية هنا بالمقارنة مع الرسائل الإعلامية التي تُقدمها داعش. بأخذ هذا بعين الاعتبار، واعتمادًا على الأرشيف الشامل للدعاية السياسية التي أنتجتها داعش في الأشهر الستة الأخيرة، قمنا بدراسة وحدات الإنتاج الـ57 التابعة للتنظيم لتقدير مستوى الهدوء والانحسار في الانتاج الإعلامي، باحثين في طبيعة المواد التي تنشرها هذا الوحدات.

لقد ظهر لدينا بوضوح أن ثمة اتجاهًا واضحًا، وهو أن فروع داعش تتقلص. فخلال الشهور الماضية، كان النطاق الجغرافي لإصدارات التنظيم ينحسر، وظهر ارتفاع واضح في مستويات الهدوء وقلة الانتاج في الأطراف البعيدة. في أوج الانتاج الإعلامي للتنظيم في 2015، كان ثمة ما لا يقل عن 40 مكتب إعلامي مُنتج للدعاية السياسية للتنظيم. أما في منتصف يناير 2017، فلم يعد ثمة سوى 19 مركز نشط. هذه الأيام، يبدو أن تنظيم الخلاف منشغل كليًا في العراق وسورية، في حين يبدو أن الفروع الإقليمية باتت بعيدة ومنفصلة عن المركز.

على الرغم من أن تحليلاتنا الإعلامية قد أظهرت بأن فروع التنظيم في الخارج لا تزال مهمة لداعش، إلا أنه مما لا جدال فيه أن مركز التنظيم لم يعد ينشر التقارير عن المجموعات البعيدة التابعة له كما كان يفعل في السابق. فعلى سبيل المثال، كانت وكالة أعماق الإخبارية، وسيلة الإعلام الرسمية التابعة لداعش، تحمل عبء النشر الإعلامي للفروع المختلفة، ولكن مما لا شك فيه أن الفاعلين من داعش في العراق في سورية، باتوا ينقلون التقارير عن أنشطتهم، وأنشطتهم وحسب، ويركزون على العملية الطوباوية لهم أكثر مما كانوا عليه في السابق.

في أوج قوة الخلافة في 2014 و2015، كان التنظيم أكثر نجاحًا بتسويق نفسه كحركة فوق الدولة. فلم تتبنى فروع التنظيم وأنصاره المشروع الإرهابي فقط، وإنما تم دمجهم، من غرب إفريقيا إلى جنوب آسيا، في جهوده الحكومية. فبدرجات مختلفة، كانت الهيكلية القانونية، والقضائية والتعليمية والدعائية للتنظيم تتطور في سورية والعراق ثم تتم إعادة إنتاجها في الفروع الخارجية.

ومن خلال مكاتبها الإعلامية، كانت داعش تقدم الدعم، حول العالم، لصورتها الفعالة غير الواقعية، يوتوبيا السلفية الجهادية، وتُقدم وتعرض صورة شاملة ومتسقة عن الحياة في دولة الخلافة. أما الآن، مع انخفاض انتاجها في الخارج، وتراجع مستويات انتقال المجندين المحتملين إليها، فإن معدلات تجنيد داعش للمقاتلين من الخارج قد تراجعت بشكل كبير جدًا.

بعيدًا عن المفاهيم السائدة، فإن الدعاية السياسية للتنظيم لم تكن مجرد وسيلة للتجنيد، فقد كانت داعش تستعملها بهدف إجبار المُقيمين في المناطق التي تحكمها على الرضوخ. فمهما كان حضور التنظيم ضعيفًا في بعض المناطق، فإن بإمكانه أن يستعمل دعايته السياسية لتأطير خلايا المنشقين والمعارضين المنتشرين في مجتمع مزدهر ولتعزيز جاذبيته الأيدولوجية، ومن ثم فإنه يصور نفسه باعتباره تنظيمًا مرنًا وناجحًا على خلاف الواقع. فعلى سبيل المثال، عندما تم كسر حصار التنظيم لكوباني في 2015، وجه التنظيم انتباه أتباعه بعيدًا عن سورية، إلى ليبيا ليُقدم لهم الزخم الذي يحتاجونه.  ولا يهم الآن أن ليبيا، التي كانت خسارة كبيرة لداعش، لم تكن ملاذًا آمنا أو قادرًا على الصمود؛ فمن خلال الدعاية السياسية كان أتباع التنظيم يظنون بأنها حصن منيع لهم لا يُمكن اختراقه.

لكي تنجح هذه الاستراتيجية، فإن وجود شبكات الإعلام في الخارج والتواصل معها أمرٌ حيوي وضروري. فلكي يتمكن التنظيم من تنظيم جهود فروعه والحفاظ على رسالته موحدة، فإنه بحاجة إلى التواصل اليومي بين الفروع والمركز. فلا يُمكن للدعاية السياسية أن تكون تلقائية؛ ولكي تكون السردية التي يقدمها التنظيم متماسكة، لا بد من درجة من المركزية في الإدارة.

في نهايات 2014 و2015، وعبر المحافظة على التواصل المستمر بين المركز والفروع، كانت داعش قادرة على تقديم سردية عالمية لمشاهديها بشكل متكرر ومدهش. أما الآن فقد أصبحت الأمور مختلفة. حاليًا، من النادر أن تعثر عن دعاية سياسية من أحد فروع داعش سواء في ليبيا أو اليمن أو جنوب آسيا. وهذا ما يعني أمرًا واحدًا، وهو أن الفروع قد انحصرت في نطاقها المحلي، فيما أصبح المركز في سورية والعراق على سلم الأولويات.

بانكفاء الخلافة على الداخل، فإن هذا سيؤثر بشكل كبير على قدرة المركز على الإشراف على الرسالة الجهادية. فكما تعلمنا من التنظيم التوتاليتارية، فإن أفضل دعاية سياسية هي الرسالة نفسها. لا يعني هذا بأن داعش على وشك الفناء؛ وإنما يعني أن الخطر قد تغير. فأنصار داعش في الخارج لم يختفوا، ولم يتخلوا عن السلفية الجهادية. ولكنه يؤكد على أن داعش تركز الآن على الاستمرار والبقاء، لا على التوسع.

مع ضعف تماسك داعش على المستوى العالمي، يبدو أن التنظيم يبحث عن تماسك أفضل في مناطق المركز: العراق وسورية. فالمنتجات الإعلامية للتنظيم، وبأغلبية ساحقة، سواء تلك التي تركز على الحرب أو على اليوتوبيا، تتجه للتركيز الحصري على هذه المناطق. حتى لو حافظ التنظيم على مناطقه فإن الفروع الخارجية، إن بقيت الأمور في مسارها، قد تتنافس في القريب على راية الخلافة 'الحقة'. سواء أحصل ذلك بالمصادفة أو عن طريق التفكير، فإن داعش قد اختارات نموذجًا مختلفًا عن القاعدة، وهو نموذج يسمح للتنظيم بالتفكيك والبقاء في آن. ومن ثم، فعلى المستوى الأيدولوجي، يُمكن لمركز الخلافة أن ينتقل من مكان إلى آخر دون تكاليف كبيرة.

مخاطر الانقسام والتفكك 

مع محاولات التنظيم المركزي للحفاظ على زعامته الأيدولوجية، يبدو أن من المعقول والمتوقع أن يحاول التنظيم إرسال مقاتليه إلى بلدانهم الأصلية للقيام ببعض الهجمات. وبفعل ذلك سيتمكن التنظيم من تقوية الروح المعنوية لمقاتليه وإشعال الروح الواهنة الحالية. وكما أشار الخبير في الحركات الجهادية، توماس هيغهامر، فإن المقاتلين الأجانب الذين يعودون إلى أوطانهم لشن الهجمات يكونون أكثر فعالية وكفاءة ممن لم يقاتلوا مع التنظيم المركزي. وفي ضوء شح الموارد والانشغال بأعباء قضايا كثيرة، بما في ذلك ضعف المعلومات والتعاون بينها، فإن الحكومات الأوروبية، وقوات تطبيق القانون والاستخبارات تواجه تحديًا سيزداد صعوبة في الفترة المقبلة.

إذا بدأت الفروع الخارجية لداعش في التنافس حول النفوذ الأيدولوجي، فإن 'المخططين العمليين'، الذين يعملون على تنظيم الهجمات من خلال الإنترنت، مع أنصار التنظيم المنشترين حول العالم، سيكونون قادرين على العمل من خارج التنظيم المركزي في العراق وسورية. في كلمة صوتية، تعود إلى مايو 2016، قال أبو محمد العدناني، الذي قتل بعد ذلك، بأن التنظيم قد يعود إلى أسلوب حرب العصابات مع خسارة المزيد من أراضيه. وعلى الرغم من أن هذا الخيار لا يزال مستبعدًا، فإن انتشار المخططين العمليين قد يساعد في تخفيف وقع انهيار قدرة التنظيم المركزي على القيادة والسيطرة مع انحسار أراضيه الاستراتيجية في العراق وسورية.

قد تمتلك المجموعات المنشقة الجديدة أهدافًا وأساليب مختلفة عن التنظيم الأم، وعلى العالم أن يُعدل من أسلوبه واستراتيجياته في مكافحة الإرهاب هو الآخر ليتمكن من التعامل مع هذه الاختلافات. لا شك بأن تفكك داعش وانقسامها أمرٌ جيد، وهو نتيجة للنجاح الجزئي لجهود مكافحة الإرهاب. مع استمرار عملية التفكك، فإن على التحالف الذي يحارب داعش أن يتابع عمله وفق استراتيجية متعددة الجوانب. فمن جانب، يجب ملاحقة الخلايا المنشقة واستهدافها بعنف من خلال الاعتقال أو القتل لمنعها من التفشي. ومن جانب آخر، لا يُمكن العمل بهذه المقاربة بشكل منعزل، بل لا بد من مزاوجتها بالجهود لتحسين نظام الحوكمة وتقليل الفساد في الدول الهشة بالإضافة إلى بناء قدرات شركائنا في قوات الأمن في الدول المتضررة.

التعليقات