09/09/2009 - 08:40

جناية نهج التهافت../ رشاد أبو شاور

جناية نهج التهافت../ رشاد أبو شاور
لم يرق - وهذه هي الكلمة المخففة - للقيادة الفلسطينيّة في تونس، أن يبهر حضور الدكتور حيدر عبد الشافي العالم الذي رآه وسمعه على مئات الفضائيّات، التي نقلت وقائع افتتاح مؤتمر مدريد، وهو يجسّد مسيرة الألم الفلسطيني بكبرياء وعمق إنساني تبدّى في لغة الخطاب، وثقل الهّم الإنساني الذي رسمته سنون التهجير ألقسري من فلسطين على ملامح الوجه، وحركة الجسد، والتي رغم هولها لم تكسر روح الفلسطيني ممثلة بقامة ذلك الشيخ الجليل، والذي وضع العالم أمام استحقاقات تجاهله معاناة الشعب الفلسطيني، وفداحة الظلم الذي وقع عليه، والتنكّر لحقوقه التي أقرتها ( الشرعيّة) الدوليّة.

لقد خشيت تلك القيادة من اضمحلال دورها، وأنها ستُنسى في الشتات إن تمّ التوصل إلى حّل مع الوفد الفلسطيني الذي لمع نجمه في مدريد، ومن بعد في جولات التفاوض في واشنطن.

قبل أيّام قليلة التقيت في عمّان بواحد من المشاركين في الوفد الفلسطيني، وهو رجل قانون، كان مقربا من الدكتور حيدر، مُعايشا لتجربتة النضالية البارزة في قطاع غزّة، والتي جعلته شخصيّة وطنيّة اجتماعيّة تحظى بالاحترام والتقدير، وهو ما دفع الأستاذ أحمد الشقيري لاختياره في النخبة المتميّزة التي بنت منظمة التحرير الفلسطينيّة، فأكد لي، وعلى مسامع بعض الفلسطينيين الذين تصادف حضورهم أثناء حوارنا في جلسة عفوية، أن الدكتور حيدر رأى وبنظرة ثاقبة، أن ( الإسرائيليين) إذا ما تعهدوا بالتوقف عن الاستيطان في الضفة والقطاع والقدس، فإن نواياهم بالقبول بدولة فلسطينيّة تكون صادقة ومطمئنة، وإذا ما رفضوا تثبيت هذا البند في أي اتفاق مع الفلسطينيين، فهذا يكشف نواياهم بأنهم يماطلون، ويتلاعبون، ويخادعون، ليكسبوا الوقت، وتحويل الاحتلال إلى حقيقة واقعة، وتحت مظلّة المفاوضات، وهو ما يجب أن نتصدّى له ونفضحه ونرفضه قطعيّا.

مفاوضات واشنطن وبعد تسع جولات لم تتقدّم، واستعصت بسبب تعنت الطرف ( الإسرائيلي) الذي لم يقدّم أي تنازل للوفد الفلسطيني، ولا سيّما تمترسه في رفض بند إيقاف الاستيطان.

ولأن القياد الفلسطينيّة الرسميّة ( تونس) كانت تتلمظ على الظهور في المشهد، وإنهاء فترة الوفد الفلسطيني من الداخل، فقد وجدت في استعصاء مفاوضات واشنطن فرصة لفتح قناة سريّة للتفاوض مع ( الإسرائيليين) هي قناة أوسلو، وهي القناة التي أبحرت فيها تلك القيادة وأوصلت إلى إعلان بنود ذلك الاتفاق الذي تمّ التوقيع عليها في حديقة البيت الأبيض، والتي تؤجّل كل القضايا الرئيسة المصيريّة للشعب الفلسطيني: حّق العودة، القدس، حدود الدولة، تحرير الأسرى من المعتقلات الصهيونيّة، المياه، و..طبعا عدم التشبث بالبند الذي اتفق الوفد الفلسطيني برئاسة الدكتور حيدر على وضعه في مقدمة البنود التي يجري التفاوض عليها، لأنه لا يمكن أن تتحقق للفلسطينيين دولة ما دام احتلال الأرض وزرعها بالمستوطنات يتّم على قدم وساق استباقا لأي اتفاق مُلزم: إيقاف الاستيطان...

من اختاروا قناة أوسلو المظلمة أبحروا دون بوصلة، وبهدف معلّق في الفراغ، تحقيقه غير مرتبط بزمن، ومكانه غير واضح المعالم. كيف ستنشأ دولة مع زحف الاستيطان؟ على أية ارض بالضبط، وهذه الأرض يقضمها الاحتلال قطعة قطعة، ودون توقف منذ رحلة الشؤم في قناة أوسلو المظلمة التي أبحر فيها أشخاص غشماء، لا يعرفون طبيعة (الشريك) الذي يفترض أنهم يبحرون معه، هو الذي يعرف هدفه، واتجاه سفينته، وزمن رحلته، و..ضعف ولهوجة وعزلة من يُبحرون معه، يأخذهم إلى العماء التام، وينأى بهم عن شعبهم الذي يمكن أن يستعينوا به إن هم اكتشفوا تيههم، ونوايا شريك الرحلة النهم لنهب الأرض، وكسب الوقت، والذي لا يعرف الرحمة في طريقه لتحقيق أهدافه، لأن السلام في عرفه يعني التهام الأرض الفلسطينيّة، ورمي الشريك في نهاية الرحلة خارج تلك الأرض، لأنه غير جدير حتى بقبر يلّم رفاته في أرض ( التوراة) ..أرض الميعاد!

شراكة قيادة قناة أوسلو كانت لقطة لقيادة الكيان الصهيوني، تسهّل بلوغ الهدف بدون تقديم أدنى تنازل لقادة غشماء يمثلون شعبا فطنا مجربا، لا يمكن الضحك عليه إلاّ بأشخاص ينتمون له، ويدّعون الحرص والواقعيّة، ثمّ ها هم يقعون ولا يقوون على النهوض، وفي زحفهم المستجدي يتوسلون أوروبا، وإدارة أوباما، بينما التهام الأرض الفلسطينيّة يندفع بلا عوائق في طريقه، فالفرصة سانحة، والمفاوض الفلسطيني متهالك متهافت، والحال العربي أكثر تهافتا، وهو يستمّد أسباب ضعفه من التغطّي بالضعف الفلسطيني الممعن في التهافت، بيمينه، ويساره، وسلطتيه وصراعهما وتنافسهما على من يحظى بالقبول مفاوضا وحيدا نيابة عن شعب فلسطين!.. ولقاء هذا الامتياز سيكون جاهزا قطعا لتقديم المزيد من التنازلات على حساب فلسطين وشعبها...

عدت للتذكير بالبدايات، بمدريد، وواشنطن، ولتعريف من لا يعرف بسّر استعصاء المفاوضات في واشنطن، والسبب الحقيقي لذلك الاستعصاء، حين كان الدكتور عبد الشافي يقود تلك المفاوضات مع وفد الداخل، لأننا ندفع ومنذ سنوات ثمن التهاون في التشبّث ببند وقف الاستيطان، ضياعا لأرضنا، وقدسنا، وأدنى أمل بدولة فلسطينيّة مستقلّة عاصمتها القدس...

عدت للتذكير بالنقطة التي بدأ منها مسلسل التنازلات الذي استثمره العدو المُحتل لوطننا، والذي عرف كل نقاط ضعف المفاوض الفلسطيني، وهكذا بدأ هو بالتشبث والتمترس في الحفاظ على أهدافه الخافية والمعلنة، بينما المفاوض الفلسطيني الأوسلوي يقدم التنازل إثر التنازل، معطيا لمسيرته الكارثية صفة الواقعيّة، وإستراتيجية التفاوض والمزيد من التفاوض...

ها نحن نرى رأي العين، وعلى الفضائيات مباشرةً، ونتينياهو وباراك يكتسحان أرضنا، فهما في سباق مع الوقت، يتخذان القرارات بتوسيع المستوطنات، ويفسحان لغيرهما أن يدشّن حجارة الأساس في أحياء ومواقع استيطانيّة جديدة، استباقا لما يمكن ان يطرحه أوباما وإدارته، وما يمكن أن تطرحه أوروبا، ودون أن اهتمام بردود فعل (الشريك) الفلسطيني الضعيف، والراكض وراء الأوهام، والذي لا خيار له سوى تقديم المزيد من التنازلات، والقبول صاغرا بكّل ما يفرضه الاحتلال على الأرض، والمراهن على إدارة أوباما.. وهل له خيار سوى الرهانات المتوالية ؟! .

ماذا نضيف للقارئ، والمتابع، ومن يسمع ويرى أقله فضائية الجزيرة التي تقدم برنامج (عين على القدس)، حيث يطل علينا أبناء القدس المقتلعين من بيوتهم، والبطريرك عطا الله حنا الذي لا يكف عن مناشدة العرب مسلمين ومسيحيين، ان يهبوا لإنقاذ القدس قبل فوات الأوان، وخليل تفكجي وغيره من الباحثين وأساتذة التاريخ الذين يعرفون كل حجر في القدس، يصرخون رافعين الوثائق، والصور، وعارضين أفلاما توثيقيّة للحفر تحت أحياء القدس العريقة، والصخرة والأقصى.. بينما الأمّة نائمة، والقيادة الفلسطينيّة تتصرّف بكل هدوء، ..فهي لا تغضب لأن الغضب مقدمة لفعل تتهرّب منه، لا تقدر عليه لأنه سيكلفها (مكتسباتها) الخاصة!

أقصى ما قاله رئيس السلطة: هذا الاستيطان غير مقبول! .. ما هذا التصعيد في وجه الاحتلال ؟!
لو أن قيادة أوسلو لم تختر طريق التنازلات، وتأجيل كل القضايا، وصمدت بمطلب وقف الاستيطان منذ البداية لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولاستمر خيار المقاومة والانتفاضة إلى أن ينتزع شعبنا حقوقه، وينهك الاحتلال، ويحرمه من نهب أرضنا!.

الخلل ذاتي، وبه يتلطى عرب يتلهفون على التطبيع،.. والخلاص بالمقاومة التي ستتجاوز طرفي الصراع في رام الله وغزّة، وتنظيمات البيانات العاجزة. هذا هو الخيار لتجاوز حالة التهافت الفلسطينيّة والعربيّة الرسميّة.

التعليقات