31/10/2010 - 11:02

إعلان صنعاء" بين خيارين../ فيصل جلول

إعلان صنعاء
ينسب إلى ياسر عرفات أنه باح لبعض المقربين منه عن حساباته الحقيقية خلف “اتفاق أوسلو” ومن بينها انه “سيتيح ادخال آلاف المقاتلين الى فلسطين”.

في القراءة “الاسرائيلية” لـ“اوسلو” كان على هؤلاء أن يوفروا “السلام” لـ“اسرائيل” عبر وضع حد للانتفاضة الفلسطينية المستمرة منذ العام 1987. وكما عرفات كان اسحق رابين يفصح عن حساباته في جلساته الخاصة قائلا “عندما يأتي عرفات سيشكل محاكم تجتمع ليلا وتصدر أحكاما خلال ساعات بحق المنتفضين، ولن يسأله أحد عما يفعل، في حين تنهمر علينا الانتقادات الدولية عندما نعتقل فلسطينيين بزعم أننا نسيء إليهم”.

كانت استراتيجية ياسر عرفات في “اوسلو” مبنية على مقايضة الانتفاضة والمقاومة بالأرض وتركيز السلطة ومؤسساتها في المناطق الفلسطينية: حكومة ووزارات وأجهزة أمنية ومطار ومرفأ وجواز سفر والاندماج في أروقة “الشرعية الاقليمية والدولية” إلى غير ذلك من العناصر المهمة في حياة الشعب الفلسطيني، في حين كان اسحق رابين يرى أن الانفصال عن الفلسطينيين والتخفف من أكلاف الاحتلال يمكن أن ينقذ دولته على المدى البعيد، لاعتقاده أن “إسرائيل” قبل المقاومة الاسلامية المسلحة كانت قادرة على ردع الجيوش العربية ومنعها من شن الحرب خوفا من الهزيمة، لكن المقاتلين الجدد يطلبون “الموت” وبالتالي يهددون استراتيجية الردع “الإسرائيلية” التي تضمن بقاء “إسرائيل” على قيد الحياة.

الواضح، أن الطرفين الفلسطيني و”الاسرائيلي” كان يحترمان إلى حد ما قواعد اللعبة المنبثقة عن “اتفاق أوسلو” ونجد اثر هذا الادراك في الالتزامات المتبادلة، فقد امتلأت سجون السلطة بالمعتقلين الاسلاميين واليساريين الذي رفضوا الاتفاق، وتمكن عرفات من بناء أجهزة الحكم التي يتطلع إليها، وحصل على قسم مهم من المدن والارض وبنى المطار والميناء البحري إلى أن اقترب أجل البحث في قضايا تالية وأساسية، في هذا الوقت اغتيل رابين وخرج الذين خلفوه تدريجيا عن قواعد اللعبة، ومع خروجهم أرخى عرفات قبضته الأمنية وعادت المقاومة الاسلامية والفتحاوية الى سابق عهدها برعاية غير مباشرة من “أبي عمار” الذي اطلق “انتفاضة الاقصى” صراحة مع علمه المؤكد انها لن تظل مدنية.

في السياق كان التيار الاسلامي المسلح بزعامة الشيخ أحمد ياسين يعرف هو الآخر قواعد اللعبة، لذا كان يردد “لو قتلت السلطة الفلسطينية كل عناصرنا لن نشهر السلاح ضدها”، هذا القول يعني أن “حماس” تقاتل في وجهة انبثقت من تعثر اتفاق “اوسلو” وانها مستعدة لتوقيع تهدئة” في حال حققت السلطة الفلسطينية مكاسب وطنية جديدة. بعبارة اخرى كانت “حماس” تنشط في خط المقاومة المسلحة الذي اندرجت فيه فتح عبر كتائب شهداء الاقصى وبالتالي كانت توفر لأبي عمار عنصر التهديد الضروري لاستراتيجية الردع “الإسرائيلي”، هذا التهديد الذي حمل رابين على توقيع الاتفاق المذكور كما رأينا والذي حمل من بعد بيريز ونتانياهو وباراك على الانخراط في مفاوضات واي بلانتيشين وكامب دايفيد وطابا التي لم تسفر عن اتفاق سلام نهائي، ما أدى الى صعود ارييل شارون وتصميمه على تصفية المقاومة بالقوة المسلحة بعد 11 سبتمبر/ايلول 2001 واحتلال افغانستان والعراق.

اللافت أن صعود شارون ترافق مع تقدم تيار محمود عباس الذي طالب في وقت مبكر بالكف عما اسماه “عسكرة الانتفاضة” ما يعني عمليا الغاء هامش المقاومة المسلحة، وإعادة المقاومين الى السجون، والاستجابة التامة للضغوط الامريكية و”الإسرائيلية” معطوفة على ضغوط عربية من طرف ما سيعرف من بعد بـ“معسكر الاعتدال العربي” الذي طرح “مبادرة سلام” شاملة في قمة بيروت عام 2002.

لم تصادف استراتيجية محمود عباس نجاحاً يذكر، لأن المقاومة المسلحة باتت عصية على الضبط، تردفها المقاومة اللبنانية الناجحة والمعين الاقليمي الايراني الصاعد، ولأن فشل استراتيجية شارون بعد انسحابه الاحادي من غزة ودخوله الغيبوبة من بعد وضع الطبقة السياسية “الإسرائيلية” في مأزق حقيقي، فلا هي قادرة على مجابهة المقاومة الفلسطينية واللبنانية بنجاح، ولا هي مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية تعين عباس على النهوض وتمد “المعتدلين” العرب بالأسباب الضرورية لتغطية سياسة فلسطينية متشددة ضد المقاومة.

وسط هذه الظروف ولدت أحداث غزة في حزيران يونيو عام 2007 وفي سياقها حققت استراتيجية المقاومة المسلحة أرجحية بادية على الاستراتيجية العباسية (نسبة الى محمود عباس) المتعثرة الى حد أن الرئيس الفلسطيني أعلن محذرا من أنه قد لا يرشح نفسه لولاية رئاسية جديدة.

لقد صار معلوما أن اللعبة الفلسطينية المناسبة للطرفين المفاوض والمقاتل تنهض بالضرورة على استراتيجية مركبة تتيح استخداماً بارعاً ومرناً لعناصر القوة الفلسطينية المتوفرة لدى فتح وحماس وتعيد رمي الكرة في الملعب “الاسرائيلي”. وصار واضحا أن هذه العناصر متوفرة في “إعلان صنعاء” الموقع للتو بين الفريقين، الأمر الذي يوحي باحتمال مباركة عربية في قمة دمشق وبالتالي استئناف التفاوض في العاصمة اليمنية حول ورشة اعادة بناء البيت الفلسطيني على اسس عقلانية تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط ميزان القوى المستجد، وإنما أيضا الظروف الإقليمية والدولية التي تتميز بشلل أمريكي عشية الرئاسيات وبضعف “إسرائيلي” غير مسبوق يمكن أن يدفع تل أبيب نحو مغامرة عسكرية جديدة كما يمكن أن يقودها الى المزيد من التقوقع الدفاعي المترافق مع مناورات تفاوضية طويلة الامد.

حصيلة القول إن “إعلان صنعاء” ينطوي على منطق عرفاتي يجمع بين القتال والتفاوض ويقرب “عسكرة الانتفاضة” وهو ما لا يتناسب مع المنطق “الإسرائيلي” الذي خير “السلطة الوطنية” بين “المفاوضات” والمصالحة مع “حماس”. يبقى أن يوفر العرب في قمة دمشق التغطية المناسبة لإعلان صنعاء معطوفة على تهديد بسحب مبادرة السلام العربية ما يتيح هامشاً اكبر للمناورة امام محمود عباس للتكيف مع المعطيات الفلسطينية والعربية والدولية المستجدة ويعيد الكرة إلى مكانها الطبيعي في المرمى “الإسرائيلي”.
"الخليج"

التعليقات