17/01/2020 - 22:08

انتفاضة تشيلي.. ثورة على النيوليبرالية

تستدعي معالجة المطالب الاجتماعية، رفع الإنفاق العام، ما يعني التعارض مع مبدأ النيوليبرالية، وهو مفهوم غريب بالنسبة للحكومة الحالية. ومن شأن التدابير الضرورية أن تضع حدًا للزيادة الهائلة في ثروة الطبقات المهيمنة في تشيلي، ما سيؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي

انتفاضة تشيلي.. ثورة على النيوليبرالية

(أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقال الكاتب آنا كوولتشيك؛ أستاذة الاقتصاد السياسي في معهد الشؤون العامة بجامعة تشيلي في سانتياغو.


لم ينجم اللون الأحمر في سوق الأسهم في تشيلي، ولا الانخفاض المتواصل لعملتها، البيسو، عن عجز مالي أو فقاعات اقتصادية أو حتى عن الوضع السياسي للحكومة؛ بل على العكس تماما، لطالما أُشيد بمتانة سياساتها المالية وسياسات الاقتصاد الكلي التي تتبعها، إضافة إلى قوّة القطاعين، المالي والبنكي، في تشيلي.

ودعمت حكومة تشيلي اليمينية برئاسة الملياردير، سباستيان بنيرا، الاستثمار الخارجي، وقد وصلت إلى حد تقديم تسهيلات لدافعي الضرائب من الشركات.

وتنبع مصادر الضائقة الاقتصادية، من عوامل اجتماعية، فالنموذج الأصولي لاقتصاد السوق المفتوحة في تشيلي، وانعدام المساواة الشديدة في البلاد، وارتفاع أسعار المعيشة وتقلبها، دفع الناس في تشيلي إلى اليأس. ومع انحياز الحكومة الواسع وغير المسبوق لمصالح الشركات، نمى شعور عام بانعدام العدالة، ما دفع الناس إلى الخروج للشوارع. وتلبية احتياجاتهم، تتطلب تغييرا هيكليا جذريا.

الأجندة النيوليبرالية

إن طبيعة النموذج الاقتصادي التشيلي، بسياساته النقدية والمالية "المسؤولة"، تُعزز انعدام المساواة، فهو مبني على الإنفاق الاجتماعي المنخفض، وإجراءات ضعيفة لإعادة توزيع للثروة، واقتصاد قائم على سياسة التعهيد، وخصخصة المياه، وقطاع خاص قوي، مسؤول عن توفير الخدمات الاجتماعية.

ومع أن البيانات الصادرة عن صناديق التقاعد الخاصة وشركات التأمين الصحي والجامعات، تشير إلى تحقيقها أرباحًا قياسية، فقد شهدت الأسر التشيلية عكس ذلك؛ ساعات عمل طويلة، وخدمات رديئة، ومعاشات تقاعدية منخفضة للغاية، وارتفاع مستمر للأسعار، وتزايد ديون الأسر. وبينما يتمتع مُصدّرو أسماك السلمون والأفوكادو والخشب، بازدهار مستمر، يعاني البقية من تلوث ونقص حاد في المياه.

وتُسجل معاملات تشيلي الحكومية، أعلى معدلات انعدام المساواة في العالم، ما جعلها عُرضة لانتقادات واسعة النطاق. ويطالب البنك العالمي، ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD)، وحتى المستشارون الاقتصاديون، الحكومة، منذ أعوام طويلة، بتطبيق إجراءات إعادة توزيع للثروة، أكثر شمولا، لكن النمو الاقتصادي في البلاد والأداء الممتاز لسوق الأسهم فيها، ساهما في شرعنة غض الطرف عن العواقب الاجتماعية المترتبة على النموذج الاقتصادي في تشيلي.

وشهد مؤشر انعدام المساواة، تصاعدا حادًا، خلال فترة الحكم الديكتاتوري برئاسة أوغستو بينوشيه (1973-1989). فقد صحب اللبرلة غير المسبوقة للتجارة والقطاع المالي في سبعينيات القرن الماضي، انخفاض شديد بمعدلات الضريبة المفروضة على الشركات والثروة، وإلغاء الإعفاءات الضريبية على القيمة المضافة للسلع الأساسية، من خلال إدخال معدل ثابت، مما أدى إلى تراجع شديد للنظام الضريبي.

وخلال الثمانينيات، انتهجت السلطات سياسيات "شرسة"، ساهمت في تركيز الثروة في أيدي النخبة التشيلية. واستُخدمت الإعانات الحكومية المرتفعة لإنقاذ البنوك المحلية والمجموعات الاقتصادية المتداعية، في أعقاب الأزمة الاقتصادية عامي 1982 و1983؛ خُصخصت الخدمات العامة (التعليم، والصحة، والمعاشات التقاعدية)؛ وأدى إصلاح سوق العمل إلى إلغاء الحق في المفاوضات والإضرابات الجماعية؛ ومنحت مزايا ضريبية أخرى للشركات ومشتري السلع الفاخرة.

ونجح كل من "تحالف الأحزاب من أجل الديمقراطية" و"الأغلبية الجديدة"، أي التحالف اليساري الوسطي الذي حكم تشيلي لمعظم الأعوام التي تلت انتهاء الحكم الديكتاتوري عام 1990، في توفير انتعاش محدود لأفقر سكان البلاد، حيث ارتفع مستواهم المعيشي إلى درجة أعلى بقليل من خط الفقر، وهبطت نسبة الأسر التي تعاني من فقر مدقع من 10.6 في المئة من السكان عام 1990، إلى ثلاثة في المئة في 2011؛ كما انخفضت نشبة الأسر التي تعاني من الفقر، من 22.7 في المئة إلى 6.2 في المئة، خلال الفترة ذاتها.

ونجح التحالف اليساري الوسطي أيضا، بخفض مستوى انعدام المساواة الاجتماعية المُستفحلة في البلاد (فقد انتقل "مقياس جيني"، مؤشر عالمي لعدالة توزيع الدخل القومي، بين عامي 1990 و 2011، من 52.1 إلى 49.1 في المئة. ومع ذلك، لم يكن هذا الانخفاض ثابتًا: ففي عام 2000، وصل "مقياس جيني" إلى 54.9 في المئة، قبل أن يهبط قليلا مرّة أخرى).

لكن لا يُمكننا قياس انعدام العدالة في تشيلي بمعايير الفوارق الاقتصادية فقط، فخدمات الدولة في خطر أيضا، حيث أن أولئك الذين يعملون في وظائف منخفضة الأجر (يحصل نصف عمال تشيلي على ما يعادل 500 دولار شهريا، أو أقل، في دولة تُعد من أغلى بلدان أميركا اللاتينية)، يحصلون على رعاية صحية عامة أساسية للغاية، وتعاني من نقص شديد في التمويل، وجودة متدنية جدا.

ولا تتوفر إمكانية الحصول على الضمان الاجتماعي، والذي توفره شركات خاصة، إلا لأولئك الذين يعملون في سوق العمل الرسمي. أما أولئك الذين يعملون بشكل غير رسمي، ويعادلون نحو 40 في المئة من مجمل العاملين في البلاد، فيحصلون على تغطية أساسية فقط؛ حيث يحصل 50 في المئة من المتقاعدين على معاش تقاعدي يقل عن نصف الحد الأدنى للأجور (المحدد حاليًا بـ 400 دولار). هذا النقص الفعلي في الضمان الاجتماعي يعني أن معظم التشيليين يعيشون في حالة دائمة من التوتر وانعدام اليقين الشخصي.

لحظة الانهيار

ليس صدفة أن الاحتجاجات الضخمة اندلعت في تشيلي خلال فترة حكم بينيرا الذي فاز بالرئاسة عام 2017، على خلفية تعهده بإعادة معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة على نحو استثنائي، التي كانت خلال فترة حكمه بين عامي 2010 و2013 (حيث حكم تحالف ميشيل باشيليت ذو الميول اليسارية، في الفترة قبل عودة بينيرا إلى الحكم).

وفي سياق تباطؤ الاقتصاد العالمي، ولا سيما انخفاض أسعار الموارد الطبيعية التي يعتمد عليها الاقتصاد التشيلي، فإنه لم يكن بمقدور بينيرا أن يفي بوعوده؛ وانخفضت معدلات الأجور والعمالة على حد سواء خلال فترة رئاسته.

بينيرا (تويتر)

وتتوفر اليوم عوامل كثيرة لإثارة الغضب الشعبي، فقد دفع التآمر الشركاتي، أسعار السلع الاستهلاكية إلى الارتفاع (وشمل ذلك مؤخرا، ورق التواليت والدواء والدجاج)؛ وأصبح تحويل الأموال العامة للإنفاق الخاص (عادة من قبل عناصر الشرطة والأجهزة الأمنية)، أمرا شائعا؛ ولا يتعرض مالكو أو مسؤولو الشركات المتهربة من الضرائب، للعقاب، لدرجة أن يفرض على أولئك الذين يصلون لمرحلة الخضوع لمحاكمة قضائية، دروس إجبارية في الأخلاق، فقط.

وعلى فرض أن أنواع التذمّر المختلفة هذه، لم تكن شائعة طوال فترة ما بعد الدكتاتورية، فإن تقارب حكومة بينيرا من مصالح الشركات، جعلها أمورا من الصعب التغاضي عنها أو تجاهلها. كما أن التعامل مع عامة الناس، بطريقة تصل إلى حد الغطرسة المعتمدة على الاستهزاء، زاد من الأمور سوءا. فعلى سبيل المثال، دعا وزير المالية، في الأسابيع التي سبقت الانتفاضة التشيلية، إلى "الدعاء من أجل الاقتصاد". وفي الوقت ذاته، دعا وزير التنمية الاقتصادية، في أعقاب تعرضه لانتقادات شعبية بسبب ارتفاع أجرة المواصلات العامة، الشعب إلى الاستيقاظ مبكرا لتجنب أسعار التذاكر المرتفعة، في ساعة الذروة. وهذا يحصل في بلاد لا يشتمل فيها يوم العمل، الذي يستغرق تسع ساعات، على استراحة غداء، وغالبًا ما يستغرق السفر في وسائل النقل العامة، ما بين ساعة وساعتين في كل اتجاه.

رد الفعل التلقائي ضد مشروع الطوباوي

اندلعت المظاهرات في 18 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ردا على قرار الحكومة استخدام عناصر مسلحين من الشرطة في قمع طلاب المدارس الثانوية المتهربين من دفع أجور المواصلات. وفرض بينيرا حظر تجول، وصدرت تقارير صحافية دعمتها مقاطع فيديو، تثبت استخدام الشرطة للعنف بطرق غير متكافئة مع حجم الجُنح المرتكبة، إضافة إلى التعذيب، ما أحيى لدى الناس الذكرى الألمية لدكتاتورية بينوشيه، ليترجم ذلك إلى غضب شعبي عبّر عنه الشارع أحيانا بإحراق الأملاك العامة، ونهب المتاجر والصيدليات، وسط اشتباكات عنيفة مع الشرطة.

ومنذ اندلاع الاحتجاجات، نشأت حركة شعبية جديدة، لا تملك قيادة مركزية، وتنادي بالمطالب التي تعبّر عن السواد الأعظم من التشليين، أي العدالة والكرامة، وتنحي بينيرا. وركزت الحركة على الحفاظ على زخم شعبي لمطالبها، من خلال التظاهرات المستمرة، والتي في معظمها كانت سلمية، وتشجيع التنظيم الذاتي لاجتماعات في الأحياء.

وبحسب جميع الروايات، لا يبدو أن الحركة مدفوعة بأي مشروع أيديولوجي معين؛ فهي تعبر عن روح براغماتية ومجموعة واسعة من المصالح الاجتماعية المتأثرة بالنموذج الاقتصادي.

وبالإضافة إلى القوى اليسارية المتنوعة التي دعمت المظاهرات، قام بعض رجال الأعمال أيضا، بالحث على الحاجة إلى التغيير. وهناك تقارير تفيد بأن تدخلهم أثار توترا بين مؤسسات رجال الأعمال الرئيسية؛ فمن المحتمل أن يكون الانفجار الشعبي قد وسّع بعض التشققات داخل الطبقات المهيمنة.

وعم الاستياء من بينيرا لدى جميع فئات المجتمع، حتى في الوقت الذي حاولت فيه الحكومة زرع الشقاق. وحاول بينيرا تصوير الاحتجاجات على أنها مبنية على العنف، من أجل تجريدها من محتواها السياسي، أو وسمها بالارتباط بالخارج وأن عدوا قويا يحركها، من فنزويلا مثلا.

ومع ذلك، تشير استطلاعات الرأي إلى أن التأييد الشعبي لإدارة بينيرا لا يتخطى الـ14 في المئة، وهو بمثابة انخفاض تاريخي في تشيلي. وفي المقابل، فإن أكثر من 85 في المئة من المستطلعة آرائهم يدعمون المظاهرات. وفي سعي الحكومة للاستجابة لرد الفعل الشعبي، قامت الحكومة بالاستغناء عن رفع أجرة النقل المرفوضة، وكذلك التراجع عن الزيادة الأخيرة في أسعار الكهرباء. ولكنها لم تقترح أي تغيير جوهري.

وتعهدت الحكومة الآن بالعمل على تطوير أجندة اجتماعية، رغم أنها تفسر الأزمة الحالية بشكل خاطئ، باعتبارها مشكلة في الدخل (الأجور) يمكن حلها من خلال التحويلات النقدية المباشرة الزهيدة للمواطنين. وتعهدت بزيادة أجور التقاعد الأساسية بنسبة 20 في المئة، وإدخال تأمين طبي إلزامي جديد (خاص) للأمراض الخطيرة، وزيادة الحد الأدنى للأجور من 400 دولار إلى 470 دولارًا من خلال الدعم الحكومي.

نظرة إلى الشارع

تستدعي معالجة المطالب الاجتماعية، رفع الإنفاق العام، ما يعني التعارض مع مبدأ النيوليبرالية، وهو مفهوم غريب بالنسبة للحكومة الحالية. ومن شأن التدابير الضرورية أن تضع حدًا للزيادة الهائلة في ثروة الطبقات المهيمنة في تشيلي، ما سيؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي في البلاد، وهروب جزء من رأس المال.

لكن الحكومة التي أعمتها الليبرالية الاقتصادية الأصولية، تعتبر التخطيط والتنظيم والسيطرة، إجراءات خطرة بطبيعتها على النظام الاقتصادي. ومن غير المرجح أن تغير مسارها، على الرغم من أن عدم المرونة يهدد بتدمير كل ما هو عزيز عليها. في المقابل، تكافح أحزاب المعارضة لإشراكها في الحركة الاحتجاجية الناشئة، ويعاني أعضاء البرلمان من انخفاض شديد في الثقة العامة.

إن الجشع المتأصل في ليبرالية السوق، يدمر الأسس الاجتماعية التي أقيم عليها النظام الاقتصادي العالمي. ومع انعدام القدرة على حل هذه التناقضات، فمن المرجح أن يزداد العنف وانعدام الاستقرار السياسي. وفي تشيلي، تتعرض هذه المؤسسات الاجتماعية لضغوط كبيرة، والنظام مُهدد بالانهيار الكامل. وهذا يدل على أن هجمات النيوليبرالية لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية.

التعليقات