من يتذكر جبرا ابراهيم جبرا كاتباً متعدد الآفاق؟

من يتذكر جبرا ابراهيم جبرا كاتباً متعدد الآفاق؟
تحلّ الذكرى الحادية عشرة لرحيل الكاتب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا، من دون أن يتذكره العراق الذي قضى فيه زهرة عمره وأنجز في عهوده الملكية والجمهورية، على السواء، معظم ما كتب من روايات وقصص قصيرة وقصائد ونقد وترجمات، وكل ما كتب حول الفن التشكيلي العراقي. وإذا كان العراق تعصف به الحرب والفوضى وعدم الاستقرار، منذ الاحتلال الأميركي وقبله، فإن فلسطين، مسقط رأس جبرا وحلمه الثقافي الذي نعثر عليه في حوارات أبطاله في «صيادون في شارع ضيق» و «السفينة» و «البحث عن وليد مسعود»، مشغولة عن أبنائها بالأفق الرمادي الذي يغلفها منذ سنوات طويلة. فمن لجبرا لكي يهتم بإنجازه الثقافي الكبير في حقول متعددة واسعة؟

المدهش أن جبرا قضى سنواته الأربع والسبعين (1920 - 1994) وهو يضيف إلى المكتبة العربية الكتاب تلو الكتاب من دون أن ينتظر من أحد فضلاً ولا منة، لأن إنجازه كان يغنيه ويرفع اسمه عالياً في سماء الثقافة العربية. كان واحداً من الكتاب العرب الموسوعيين في القرن العشرين الذين توزعت اهتماماتهم وانشغالاتهم على حقول إبداعية ومعرفية متعددة، فهو روائي وكاتب قصة قصيرة وشاعر وفنان تشكيلي وناقد ومترجم، وقد استطاع أن يحقق في حقول الإبداع المتنوعة حضوراً مميزاً. في الكتابة الروائية أنجز عدداً من الروايات التي أغنت اللغة الروائية العربية، وأثارت جدلاً واسعاً بين النقاد حول معنى الكتابة الروائية وأساليب كتابتها، وتقنياتها، والأبعاد التجريبية التي أضافها جبرا إلى النوع الروائي العربي. وهو بدءاً من عمله الأول «صراخ في ليل طويل»، الذي كتبه عام 1938 بالإنكليزية ثم عاد فترجمه إلى العربية، وانتهاء بعمله الروائي الأخير «يوميات سراب عفان»، أثار الكثير من الأسئلة التي تتعلق بعلاقة الروائي بشخصياته، وحقه في توزيع ذاته على هذه الشخصيات، وادعاء الروائي، حين يبني عالمه السردي، أن ذلك العالم يصور المجتمع ويغور عميقاً للقبض على توق ذلك المجتمع وأحلامه.

لهذا السبب كانت الشخصيات، التي بناها جبرا في رواياته، من ذلك النوع الذي يتلبث في الذاكرة بسبب اختلاف تلك الشخصيات، وسوبرمانيتها، وادعاءاتها الثقافية التي تسعى إلى تغيير العالم، وتحرير فلسطين، بالسلاح والمقاومة، كما بالفكر. كانت تلك الشخصيات، وديع عساف ووليد مسعود وغيرها من الشخصيات التي تدور في فلك الشخصية المركزية في عمل جبرا إبراهيم جبرا، تدعي القدرة على تمثيل المجتمع بطبقاته وشرائحه المختلفة، الغنية والفقيرة، المثقفة وغير المثقفة، المنخرطة في النضال من أجل التغيير، والمنشغلة في شؤونها الذاتية وملاذها الشخصية.

في السياق نفسه كتب جبرا مجموعة قصصية واحدة «عرق وقصص أخرى» استقى شخصياتها وأحداثها من بيئة طفولته وشبابه الأول في بيت لحم والقدس، ومن البيئة البغدادية بعد رحيله إليها عام 1948 اثر النكبة وقيام دولة إسرائيل وانسحاب فلسطين لأكثر من عشرين عاماً من المشهد السياسي. ويمكن أن نلمس في أعماله القصصية والروائية، وحتى في قصائده، تلك النبرة الأسيانة والروح المعذبة بآلام البعد عن فلسطين. وهو في القصائد التي كتبها ونشر الكثير منها في مجلة «شعر»، ثم جمعها في مجموعتيه الشعريتين «تموز في المدينة» و «المدار المغلق»، يمثل في شعره تلك النبرة الجهنمية الغاضبة التي تشي بالحزن العميق على ضياع فلسطين.

ثمة بعد آخر في سيرة جبرا الثقافية يوازي تلك الجوانب الإبداعية، وينجدل معها بصورة باهرة، فقد كان واحداً من المترجمين البارزين فــــي العالـــــم العربي خلال النصف الثانـــي مـــن القرن العشريـــن، وترقـــى ترجماتــه إلى مصاف الأعمال الإبداعية الكبيرة. لقد درس جبـــرا إبراهيم جبرا في جامعة كمبريـــدج ببريطانيا خلال الأربعينات، مـــن القرن الماضي، وتشرب اللغة والثقافة الإنكليزيتين فكتب بالإنكليزية شعراً ورواية ونقـــداً. وعندما عاد إلى العالم العربي مــــن رحلة الدراسة أخذ على عاتقه نقل أمهات الكتب من الإنكليزية إلى العربية، فأنجز ترجمة لمسرحيات شكسبير الأساسية، ومن ضمنها «هاملت» و «عطيل» و «ماكبث» و «العاصفة» و «الملك لير»، إضافة إلى ترجمة أربعين مــــن سونيتات شكسبير. ولم يكتف بالتراجيديات الشكسبيرية بل ترجم «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت، و»الصخب والعنف» لوليم فوكنر، و»الأمير السعيد» لأوسكار وايلد. كما ترجم كتباً عن شكسبير وألبير كامو وديلان توماس. ومن بين الكتب الأساسية التي ترجمها الجزء الأول من كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر الذي يتناول الأساطير القديمة، وقد أثرت هذه الترجمة المميزة تأثيراً عميقاً في تطور القصيدة العربية المعاصرة، خصوصاً في عمل بدر شاكر السياب ومعاصريه.

من الواضح لدى استعراضنا للعدد الكبير من الكتب التي وضعها جبرا إبراهيم جبرا أو ترجمها أنه كان يفكر بعقلية الكاتب الشمولي الموسوعي الذي يعد ألوان الكتابة المختلفة حركات في سيمفونية متكاملة. ولهذا كان يرسم ويكتب نقداً وانطباعات حول الرسم، كما أسس مع الرسام والنحات العراقي الشهير جواد سليم، وآخرين، «جماعة بغداد للفن الحديث». وكان، لاهتمامه بالفن وسعة اطلاعه على الفنون العالمية المعاصرة ونقدها، العقل النظري للجماعة، وتشهد على ذلك كتاباته النقدية الكثيرة وكتبه التي ألفها عن بعض أعلام هذه الحركة، ومن ضمنها «الفن في العراق اليوم» (وقد كتبه بالإنكليزية ونشره في لندن عام 1961)، و «الفن العراقي المعاصر»، و «جواد سليم ونصب الحرية» و «جذور الفن العراقي».

أثر جبرا في مسيرة الفن التشكيلي في العراق، كما أثر في تطور الشعر العربي المعاصر عبر كتاباته النقدية، خصوصاً في مجلة «شعر» اللبنانية التي أخذت على عاتقها في نهاية اخمسينات القرن الماضي تطوير واقع الكتابة الشعرية العربية. وقد جمع جبرا هذه المقالات في عدد من الكتب النقدية التي ما زالت تعد علامات في حركة النقد العربي المعاصر. ومن ضمن هذه الكتب «الحرية والطوفان» (1960)، و«الرحلة الثامنة» (1967)، و«النار والجوهر» (1975)، و«ينابيع الرؤيا» (1979).

كان جبرا، من دون شك، علماً من أعلام زماننا، من أولئك المثقفين والكتاب الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة، وإنتاجه الغزير المتنوع وإنجازه الضخم في مجال الرواية والترجمة والنقد هو من العلامات الأساسية في الثقافة العربية المعاصرة، إذ يصعب فهم ما أنجزه العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين من دون قراءة ما كتبه جبرا. فهل تتحرك دور النشر، التي خولها نشر كتبه خلال حياته، وأنا أقصد دار الآداب والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، لتقوم بعمل كبير يستحقه الراحل بعد ما يزيد على عشر سنوات على رحيله. وهل تقوم وزارة الثقافة الفلسطينية ومؤسسات فلسطينية كثيرة، متناثرة في أرجاء الأرض الأربعة، بإيفاء هذا الكاتب الذي حمل فلسطين داخله، طوال ما يزيد على نصف قرن، وحلم بها في رواياته وقصصه وقصائده، بعض الدين الذي طوق به أعناقنا؟

(فخري صالح - "الحياة")

التعليقات