السينمائيون المصريون الذين لم يقرعوا جدران الخزان (2/3)

من فيلم "أصحاب ولا بيزنس"

 

ناقشنا في الجزء الأوّل من المقالة، فكرة الوطن والوطنيّة في الصناعة السينمائيّة، متمركزين في الأفلام المصريّة الّتي تناولت المسألة الفلسطينيّة في حقبتي الملكيّة والناصريّة؛ ومن المهمّ في هذا السياق، التطرّق إلى رمزيّة النوع (الجندر)، فمن الصور الكلاسيكيّة للتعامل مع القضايا السياسيّة في السينما، أن ترمز المرأة إلى الوطن، وبينما يرمز الرجل إلى حماية شرف هذا الوطن، وقد غدا هذا التنميط شيئًا طبيعيًّا في السينما؛ لأنّ من يسيطر على كتابة الأفلام ويخرجها ويصنعها منذ نشأتها، هم الذكور في الأغلب من الحالات.

 

المرأة في مواجهة الرجل

في أفلام الفترة الملكيّة والناصريّة، كلّ الأبطال الذكور كانوا عسكريّين، عدا شخصيّة أحمد في فيلم "أرض السلام" (كمال الشيخ، 1957)؛ فقد كان فدائيًّا، وهذا ردّ فعل مباشر وواضح على حرب بورسعيد، الّتي وقعت قبل صدور الفيلم بشهور؛ لذا فالفيلم هنا يرى أنّ المقاومة - كما كانت الحلّ في بورسعيد - ستظلّ هي الحلّ في فلسطين، وهذا هو أوّل فيلم يتحدّث مباشرة عن المقاومة، وإن لم يُذكر المفهوم نفسه في أثناء الفيلم، هنا رسم الفيلم صورة جديدة للمقاتل المصريّ، ليس رجلًا عسكريًّا نظاميًّا، بل هو رجل فدائيّ؛ فوضعه ذلك في مساحة أخرى من الحركة، أكثر تحرّرًا.

 

عزيزة أمير وسليمان نجيب في فيلم "نادية"

 

أمّا تجسيد النساء في أفلام هاتين المرحلتين - الملكيّة والناصريّة - فكانت الصورة الملائكيّة هي الحاكمة لهنّ جميعًا؛ فاختيارات عزيزة أمير، الّتي ظهرت في فيلم "نادية" (فطين عبد الوهّاب، 1949) تحت الإضاءة الناعمة Soft Light، مسلّطة على وجهها في كلّ اللقطات القريبة؛ من أجل ربط المشاهد بصورة المرأة المضحّية بكلّ ما تملك من أجل وطنها، وكذلك سعاد محمّد وفاتن حمامة وكوكا، وجوه تمتلك قدرًا عاليًا من البراءة، ولها مردود إيجابيّ للغاية عند الجمهور. هؤلاء النساء كلّهنّ جسّدن فلسطين أو مصر بشكل ما؛ فكلٌّ منهنّ كنّ تمثيلًا للأرض - الأرض في الثقافة واللغة العربيّة مؤنّثة وليست مذكّرًا - الّتي لن تخضع للمغتصب، والمثال هنا تُظهره شخصيّة نادية الأبيّة، الّتي قالت للضابط الإسرائيليّ الّذي يحقّق معها بعد اعتقالها: "إحنا ماعندناش جواسيس، إحنا بنحارب في النور". على الجانب الآخر، يرى الطيّار مدحت المتيّم أنّ لنادية "شخصيّة رهيبة تخلّيها أكبر من الحبّ، وأرفع من البشر"، عبارة كهذه توضّح كيف حاول صنّاع الفيلم رسم صورة الوطن/ الأرض/ الأنثى، سواء نظرنا إليه بصفته فلسطين أو مصر؛ ورغم ذلك فالنساء في هذه الأفلام كنّ ينتظرن لحظة الإنقاذ من البطل المصريّ.

 النساء في هذه النماذج لم يخرجن عن إطار العمل ممرّضات في الحرب، أو معلّمات خارج الميدان، وهذا تنميط واختزال مُخلّ، اعتاده كثير من السينمائيّين.

الرجل المصريّ البطل "ممثّلًا للنظام المصريّ"، والمرأة الفلسطينيّة الأبيّة "فلسطين وأرضها"، تنتهي بهما الحكاية دومًا بالوقوع في حبّ وزواج؛ لتأكيد أبديّة العلاقة وحتميّتها.

 

سينما ردّ الفعل

لم تؤسّس السينما المصريّة ثقافة الفعل في صناعة أفلامها، تجاه قضيّة فلسطين أو الفلسطينيّين بعامّة؛ بل كان لها دومًا دور ردّ الفعل، الّذي يتعامل مع الواقع السياسيّ أوّلًا، ثمّ يكوّن رأيًا أو رؤية تظهر من خلال الفيلم، قد يكون الرأي سطحيًّا، وقد يكون نمطيًّا، وقد يكون ذاتيًّا، لكنّه لم يخرج من واقع المبادرة كرؤية جديدة أو مغايرة لما قدّمه السابقون، ولعلّ هذا ما يجعل أفلام "المخدوعون" (توفيق صالح، 1972)، و"ناجي العلي" (عاطف الطيّب، 1992)، وثنائيّة "باب الشمس" (يسري نصر الله، 2004)، الأكثر رصانة وعمقًا في تناول القضيّة الفلسطينيّة؛ لأنّها أعمال اعتمدت إمّا على روايات رصينة، مثل "رجال في الشمس" لغسّان كنفاني، أو "باب الشمس" لإلياس خوري، وإمّا سيرة ذاتيّة لفنّان عربيّ، هزّت رسومه أركان نظم عربيّة.

 

 

 

الذاكرة المصريّة عن فلسطين

"ليس الماضي بتفاصيله ما يحكمنا، إنّها صور الماضي الّتي تحكمنا"، الناقد والفيلسوف الفرنسيّ الأمريكيّ جورج ستاينر.

السينما وسيط يسعى إلى تكوين معادل بصريّ لزمان ومكان، قد عاش فيه المشاهد، أو قرأ عنه، أو سمع عن أحداثه؛ فالشريط السينمائيّ حتّى لو كان عن أحداث خياليّة، هو في النهاية وثيقة تؤرّخ لحالة ما، سواء كانت عن الزمن الّذي صُنع الفيلم فيه، أو الفترة الّتي يناقشها الفيلم؛ فمثلًا إذا صُوّر الفيلم عن فلسطين، لكنّه في الواقع جرى تصويره في لبنان؛ فنحن نعلم في النهاية أنّ هذه الأماكن في لبنان، وأنّ هذا هو شكل شوارعها، والحياة اليوميّة فيها، في هذا التوقيت. حتّى لو تعاملنا مع التصوير الداخليّ في الأستوديوهات، فهو توثيق لما كانت عليه الأستوديوهات حينذاك؛ إذن فالسينما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالذاكرة والتاريخ، ولو لم تؤرّخ بشكل مباشر لحدث ما.

في كتاب "سينما العالم والذاكرة الثقافيّة"، تشير مؤلّفة الكتاب، إيناس هيدجز، إلى أنّ الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، تَبلور جزء كبير منها بعد النكبة في المنتج الثقافيّ، الّذي ارتبط بـ "الذاكرة الحيّة" عن فلسطين، وما تعلّق بالرحيل والمنفى، وأنّ مثل هذه المنتجات الثقافيّة تزيد من الإحساس الفلسطينيّ المشترك بالتاريخ الواحد، وهنا وصفت الكاتبة الذاكرة الفلسطينيّة بـ "الذاكرة الأدائيّة Performative  Memory"، الّتي يمكن تلخيصها بأنّها ذاكرة تستخدم الفنون بعامّة، من أجل الحفاظ على التاريخ الجمعيّ؛ إذ تأخذ الشكل السرديّ في الحفاظ عليها. هذا النوع من الذاكرة، وفق الكتاب، يحاول بناء حجّة، لكن هذه الحجّة تواجه قوًى مناوئة، مثل الزمن وحجج الآخر وادّعاءاته.

 

 

وإذا طُبّق هذا الرأي على ما قدّمه السينمائيّون المصريّون، فسنجد أنّ عددًا من هذه الأفلام اعتمد على استخدام الذاكرة الأدائيّة، لكن دون بناء حجّة؛ فالأفكار المطروحة تبدو كأنّها مُعلّبة وجاهزة، دون برهان أو منطق، بل العاطفة هي الغالبة. 

 

الفلسطينيّ في مواجهة الإسرائيليّ

حتّى لو كان فيلم "أرض السلام" الأوّل الّذي اقترب من الداخل الفلسطينيّ، إلّا أنّه لم يقترب بشكل دقيق كما حدث في فيلمَي "المخدوعون" وثنائيّة "باب الشمس"، وإذا عملنا مسحًا لشكل الشخصيّة الفلسطينيّة في هذه الأفلام فسنرى الآتي:

تجسيد الرجل الفلسطينيّ غاب تقريبًا عن فيلم "أرض الأبطال"، عدا دور الأب الفلسطينيّ الّذي كانت جمل حواره كلّها تقريبًا عن مصر، مثل: "والله المصريّ كلّاته شهامة، كلّاته وجدان... نحنو ما نقدر ننسى جمايل مصر، زهرة شبابهم ضيّعوا أرواحهم رخيصة من شاننا، تسلمي لي مصر، ويحرسها الله".

 في فيلمَي "نادية" و"فتاة من فلسطين" (محمود ذو الفقار، 1948)، لم يظهر أيّ رجل فلسطينيّ، على حين ظهرت الشخصيّة الإسرائيليّة كوهين، الّذي يتحاور مع نادية فتقول له: "إنت باين عليك رجل طيّب قوي يا كوهين"، فيردّ الجنديّ الإسرائيليّ: "أصلي بحبّ المصريّين، أنا متربّي في مصر"، فتجيبه: "آه، عشان كده بتتكلّم عربي كويّس"، ثمّ يبدأ كوهين في سرد حكايته؛ في محاولة لإظهار قبح الجانب الإسرائيليّ، ثمّ قال: "لو اليهود يعرفوا أنّ الصهيونيّة مقلب، ما كانوش هوّبوا ناحية فلسطين". 

 

 

في فيلم "أرض الأبطال"، ظهر الإسرائيليّ في الفيلم، ولكن من زاوية تصوير من داخل الدبّابة، لم نر أشخاصًا، وتحدّث جنديّان إسرائيليّان بطريقة معتادة في السينما المصريّة، يُصوَّر الإسرائيليّ أو اليهوديّ في غاية من السذاجة؛ فيقول أحدهم: "دخيلك، لا تصيب المرة يا أخي، بدنا إيّاها حيّة"، ليردّ الآخر: "شو بدنا نسوّي بيها، ما جيشنا كلّاته نسوان". أمّا الغياب فاستمرّ في فيلم "الله معنا" (أحمد بدر خان، 1955) أيضًا، وأمّا الفلسطينيّ الأبرز في فيلم "الناصر صلاح الدين" (يوسف شاهين، 1963)، فكان هو والي عكّا الخائن، على حين تماهت كلّ الشخصيّات في الفيلم، دون أن نرى جنسيّتها، فشخصيّة صلاح الدين تحوّلت إلى "عبد الله خادم العرب"، وفق رؤية صنّاع الفيلم، الّتي تخالف المصادر التاريخيّة حول هويّة صلاح الدين الكرديّة.

التطوّر في تقديم الشخصيّة الفلسطينيّة، حدث بالطبع مع الثالوث السينمائيّ، الّذي تمحور حول الفلسطينيّ دون غيره ("المخدوعون"، "ناجي العلي"، ثنائيّ "باب الشمس")، وسوف نتعرّض إليها بتفصيل أكبر بعد قليل.

الأفلام الأخرى الّتي ظهرت للحديث عن فلسطين، مثل "الأقدار الدامية" (خيري بشارة، 1982)، لم تتطرّق إلى صورة الفلسطينيّ أو الفلسطينيّة بأيّ شكل، وإن حُلّلت شخصيّات الفيلم بشكل رمزيّ يتعلّق بفلسطين، إلّا أنّنا لم نر فلسطين بأيّ شكل، سوى من خلال بعض العناوين الصحافيّة الأرشيفيّة.

مع الألفيّة الجديدة، ظهر فيلمان قدّما صورة الفلسطينيّ، "أصحاب ولا بيزنس" (علي إدريس، 2001)، و"بركان الغضب" (أحمد الخطيب، 2002)، صورة المقاوم الفلسطينيّ تحديدًا، وهذا ردّ فعل ناتج عمّا شهدته الأراضي الفلسطينيّة من انطلاق انتفاضة القدس والأقصى عام 2000؛ فالحبكة الدراميّة للفيلمين ضعيفة للغاية، ومع مرور أحداث الفيلم تشعر بأنّ القضيّة الفلسطينيّة أُقحمت، حتّى لو كانت محور الحدث، كما في فيلم "بركان الغضب".

 

 

الفلسطينيّ والفلسطينيّة في كلّ الأفلام المصريّة، أدّى أدوارهم مصريّون، عدا فيلمَي "المخدوعون" - ممثّلون سوريّون وفلسطينيّون – وثنائيّ "باب الشمس" - أبطال عرب متنوّعون - وهذا الأمر في بعض الأحيان أفقدني الشعور بالاندماج في حقيقة الشخصيّات، خاصّة مع عدم إتقان اللهجة الفلسطينيّة؛ فتشعر بأنّ ثمّة خلطًا بين اللهجة الشاميّة السوريّة واللهجة الفلسطينيّة.

بعض الأفلام مثل "صعيدي في الجامعة الأمريكيّة" (سعيد حامد، 1998)، و"همّام في أمستردام" (سعيد حامد، 1999)، و"رحلة حبّ" (محمّد النجّار، 2001)، و"السفارة في العمارة" (عمرو عرفة، 2005)، و"عندليب الدقّي" (وائل إحسان، 2005)، أقحم فلسطين في قلب الأحداث دون سياق، وهو نفس ردّ الفعل لما تشهده فلسطين من تطوّرات، على الصعيدين السياسيّ والعسكريّ، منذ بداية التسعينات، وكأنّها محاولة من صنّاع السينما في مصر، ليقولوا: "فلسطين، لن ننساكِ".

 

 

أحمد زكريّا

 

صحافيّ ثقافيّ، مهتمّ بالكتابة في السينما والأنثربولوجيا. عمل سنوات عديدة في مجال صناعة الأخبار والأفلام الوثائقيّة، وساهم بمقالات متنوّعة في مواقع مصريّة وعربيّة وعالميّة. حصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة القاهرة، والماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة من جامعة لانكستر بإنجلترا.