"فوضى"... الصراع دينيّ والفلسطينيّ خائن ومهزوم

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

بُنيت أحداث مسلسل "فوضى" وفق النظريّة السلوكيّة الكلاسيكيّة بمتغيّراتها الثلاثة: المثير والمستثار والاستجابة للإثارة. نظرة سطحيّة لا مكان فيها للوعي، وتشكّل المعرفة الّتي أفضت إلى الإثارة محتوًى فُرِّغ من جذور الصراع؛ فبات اليهود الّذين يعيشون في سلام مهدّدين من سلوكيّات غير منطقيّة، يقوم بها "الفهد" و"حماس"، تليها سلسلة من المطاردات المدفوعة بالانتقام الشخصيّ، "المقدسيّ" يخلفه "الجعبري"، يحرّكهم الثأر، مجرمون لا يمكن ردعهم إلّا بالقدرات القتاليّة الخاصّة الّتي يتمتّع بها دورون كابيليو – رامبو، بملامح شرق أوسطيّة، معزّزًا بفرقة مقاتلين تُعرف بـ "المستعربين"، هم مقاتلون ذوو سحنة شرقيّة ولغة عربيّة طليقة. أمّا "فوضى" فهو "كود" لإعلان الهجوم.

 

تعقيم بصريّ

مسلسل "فوضى" إسرائيليّ الإنتاج، تبثّه شبكة "نتفلكس"، لا ينطوي تحت ثيمة الحرب أو السياسة، بل دراما تشويق وإثارة، تبدو لمَنْ يجهل حقيقة الصراع حروبَ عصابات، مغلّفة بدافع مثير يبدو دينيًّا أكثر من أيّ شيء آخر؛ فها هم اليهود الملاحقون على اختلاف الأزمنة، ضحايا تاريخيّون يدافعون عن أنفسهم من بطش أعدائهم، ومشكلتهم تتلخّص في كونهم يهودًا لا في كونهم إسرائيليّين محتلّين يفرضون سيطرة عسكريّة على أرض فلسطين وشعبها.

 

حرص السيناريو حرصًا شديدًا - كما يبدو - على تصوير الصراع حربَ مسلمين ضدّ اليهود، وليس صراعًا من أجل مشروع تحرّريّ للشعب الفلسطينيّ. كلّ ما في تفاصيله يحتال على الحقيقة، يهمّشها ويلغيها، ويضع تحت دائرة الضوء ما يريد للعالم أجمع أن يراه ويتعاطف معه.

ومن بواطن قوّة البروباغندا في هذا العمل، عدم استخدام كلمة "إسرائيليّين" بتاتًا من قِبَل الجانب الفلسطينيّ؛ فالمقاومة تنعتهم باليهود، والتنسيق الأمنيّ يتحدّث معهم بلغة المخاطب دون ذكر لإسرائيل، ولا يظهر العلم الإسرائيليّ في ثلاثة مواسم إلّا في مكتب وزير الدفاع، محصورًا بدقائق قليلة على الشاشة، وجنازات المجنّدين تخلو تمامًا من المظاهر العسكريّة، وتقتصر على عزاء عائليّ وقبر. هذا التعقيم البصريّ من الرموز البارزة في السياق العسكريّ والرسميّ الإسرائيليّ، له دلالاته في بثّ رسائل تحيّد الصراع عن مجراه الحقيقيّ.

 

فلسطينيّ مهزوم وخائن

تستحيل مشاهدة "فوضى" بمعزل عن أنّني فلسطينيّة تتفاعل مع الأحداث، تشعر بخيبة الأمل والغضب من الفلسطينيّ المُصَوَّر هنا، وتتذوّق معنى الهزيمة المتواصلة. هذه المشاهدة أشبه بالساديّة؛ فالمسلسل يسعى إلى تقزيم صراعنا القوميّ واختزاله بالفقدان والألم الشخصيّ.

يظهر الفلسطينيّ على مدى الأجزاء الثلاثة إنسانًا ساذجًا، مهزومًا، خائنًا، خائفًا، مرتبكًا، خاضعًا أمام جبروت المخابرات الإسرائيليّة، كثير الاعتذار، متهادنًا، مستفزًّا؛ فالطبيبة تعتذر إلى الجنديّ المخطوف عن إيذائه، والأسير السياسيّ يعانق السجّان! 

تظهر المرأة الفلسطينيّة كخاصرة المجتمع الرخوة، حُرمت من الحبّ فتجده في حضن عدوّ، وهي على غرار نظرائها من الرجال ساذجة وسهلة الخداع، وطريقها لخيانة شعبها سريعة وسهلة.

يصوّر المسلسل المقاوم والأسير والمناضل رجالًا يبكون في التحقيقات – الّتي تتّسم باللطافة والعقلانيّة - ويرجون المحقّق خلاصًا. لا يحتاج محقّق المخابرات إلى استخدام العنف الجسديّ أو النفسيّ، أو الابتزاز بإيذاء الزوجة والأولاد؛ فحتّى أكثر الفلسطينيّين ذكاءً سهل الخداع، يسقط سريعًا مع أوّل أكذوبة تحترفها التحقيقات.

تظهر المقاومة الفلسطينيّة مشرذمة، فصائل لا تتّفق، عداوات تلهث وراء فرض السيطرة والسلطة، نزاعات وتصفيات داخليّة تزيد حدّتها على الرغبة في النيل من العدوّ. قيادات الفصائل محصّنة في بيوت فخمة مدجّجة بالحراسة، يميل شكلها إلى عصابات خارجة عن القانون؛ لذلك يسهل شراء المقاومين بالمال، وسيناريوهاتهم للتخلّص من إسرائيل تبدو واهية، كأنّها مستمدّة من عقليّة طفل!

أمّا السلطة الفلسطينيّة فيقتصر حضورها على شخوص قيادات هشّة وعميلة وخائنة، تربطها علاقات تتّسم بالقلاقل والتوتّر مع المقاومة؛ فتُؤْثِر التضحية بها من أجل تنسيق أمنيّ يعتمد أساسًا على مصالح ونفوذ شخصيّ.

الجيل الفلسطينيّ الجديد يبدو مدجّنًا؛ يرى الجانب الإنسانيّ المشرق من العدوّ، يرى في الطبيب مخلّصًا، وفي ضابط المخابرات رجلًا لطيفًا يقدّم الهدايا، وفي المستعرب مدرّبًا رياضيًّا يجتهد لصناعة فلسطينيّين أبطال سلميّين، لكن كلّ تفاصيل قناعات الجيل الجديد وتصرّفاته محصورة في منظور منفعيّ.

حرص السيناريو حرصًا شديدًا - كما يبدو - على تصوير الصراع حربَ مسلمين ضدّ اليهود، وليس صراعًا من أجل مشروع تحرّريّ للشعب الفلسطينيّ. كلّ ما في تفاصيله يحتال على الحقيقة، يهمّشها ويلغيها، ويضع تحت دائرة الضوء ما يريد للعالم أجمع أن يراه ويتعاطف معه.

تظهر المرأة الفلسطينيّة كخاصرة المجتمع الرخوة، حُرمت من الحبّ فتجده في حضن عدوّ، وهي على غرار نظرائها من الرجال ساذجة وسهلة الخداع، وطريقها لخيانة شعبها سريعة وسهلة.

لا مكان لأمّهات الأسرى القويّات، ولا لزوجات الشهداء الصابرات؛ تحلّ مكانهنّ نساء لا يحفلن بالمقاومة ومشروع التحرّر، أنانيّات يرغبن في أزواج عاديّين حاضرين في البيوت، يلمن أزواجهنّ على تركهنّ لصالح المقاومة، يخترن الهرب من الألم إلى حضن أوروبّا، والشهيدة منهنّ حربها شخصيّة ضدّ قاتل زوجها لا ضدّ منظومة احتلاليّة كاملة.

 

قنّاص إسرائيليّ في قمّة الإنسانيّة

يظهر رجل المخابرات - وكذا المجنّد الإسرائيليّ - إنسانًا في المقدّمة، أبًا صالحًا يفعل ما يفعل لضمان حياة أفضل لعائلته، يحبّ، وله زوجة تنتظر عودته، وله أصدقاء. نرى إسرائيليًّا حريصًا على حياة الأطفال الفلسطينيّين، حتّى القنّاص يتجلّى في قمّة الإنسانيّة وهو يُستذكر بمحاولاته إنقاذ عنزة عالقة بجدار شائك؛ لهذا فمن الطبيعيّ أن يحتفي الإعلام بالدور الإنسانيّ للطبّ الإسرائيليّ الّذي ينقذ عين ابنة مخرّب، رغم أنّ الإعلام في واقع الأمر سلاح لتبييض الصورة أمام العالم.

ترد في المسلسل جمل مهمّة موزّعة بعناية، مثل "إسرائيل دولة قانون لا منظّمة إرهابيّة"، و"لا تكن باروخ جولدشطاين جديدًا"، و"أنت مدين لي؛ فقد قتلت 5 أسرى فلسطينيّين بدم بارد، وأنا تستّرت عليك"... تهدف هذه ببساطة إلى إيهام المشاهد بأمرين أساسيّين؛ أوّلهما أنّ إسرائيل، أو دولة اليهود، تخوض حربًا ضدّ أفراد وتنظيمات إرهابيّة، وليست دولة تتكافأ معها بالقوّة والسيادة؛ لذا فلا تستطيع إدارة حرب "طبيعيّة"، تبدو كأنّها تكتفي بالدفاع عن نفسها، من خلال غارات آنيّة محدودة الهدف تشبه ألعاب القتل الإلكترونيّة. أمّا فرقة المستعربين فهي مجرّد كلاب مدرّبة تتلقّى الأوامر وتنفّذها؛ وهذا كفيل بإعفائها من أيّ مسؤوليّة أخلاقيّة!

ليس من الغريب أن يحصد مسلسل "فوضى" نسبة مشاهدات عالية؛ فهو محبوك بشكل مثير، وصُوِّر بشكل جميل، وأُخرج للجمهور بحلّة هوليووديّة عسكريّة، تتّسم بالكثير من الشوفينيّة ومظاهر الرجولة العنيفة، على المستويين الاجتماعيّ والقتاليّ، تزيد الترقّب لدى المشاهد

أمّا الأمر الثاني، فهو إيهام المشاهد بإعطاء المسلسل منصّة لرواية الطرف الفلسطينيّ وحقّه في المقاومة، من خلال تبريرات يطرحها المقاومون بالكثير من السطحيّة، لكن على المشاهد أن يحذر من عزل هذه الرواية عن سياق الاحتلال والمجازر، والقمع والتهجير والاغتيالات، وتهويد الحيّز وحصار غزّة؛ فعندما يعتذر بشّار (في الجزء الثالث) إلى الفتاة الإسرائيليّة المخطوفة، ينقطع اعتذاره عن السبب الحقيقيّ لخطفها، وعن ضرورة دفع الإسرائيليّ ثمن إرهاب دولته ومنظومتها العسكريّة ضدّ شعب كامل.

رغم ما ذكرت، لم يخشَ كاتبو المسلسل من ذكر جرائم مرتكبة ضدّ أعدائهم، لكنّ ورودها في الحوارات يبقى جزءًا من الفوقيّة الإسرائيليّة، وفكرة الجيش الّذي لا يُقهر.

 

هوليووديّة عسكريّة

ليس من الغريب أن يحصد مسلسل "فوضى" نسبة مشاهدات عالية؛ فهو محبوك بشكل مثير، وصُوِّر بشكل جميل، وأُخرج للجمهور بحلّة هوليووديّة عسكريّة، تتّسم بالكثير من الشوفينيّة ومظاهر الرجولة العنيفة، على المستويين الاجتماعيّ والقتاليّ، تزيد الترقّب لدى المشاهد؛ ولهذا المجهود الفنّيّ دور كبير في جعل المسلسل يدخل البيوت العربيّة، في البلاد والعالم.

"سيلتقون في ’شارع الأمين‘ في مخيّم العروب"، قلت لصديقي منتصر الّذي يقاطع المسلسل طبعًا، فضحك وقال: "لا يوجد لدينا أسماء شوارع في المخيّم". كانت هذه عثرة واحدة إلى جانب مئات الحوارات الركيكة باللغة العربيّة، وانعدام الدقّة في التفاصيل، لكنّها تعبّر ضمنًا عن طريقة تفكير كاتب سيناريو إسرائيليّ، خرّيج وحدة قتاليّة إجراميّة، عندما يكتب عن العرب والمسلمين!

ليس من الصدفة أن يُفتتح المسلسل بمشهد للمسجد، من خلال زاوية كاميرا علويّة أشبه بكاميرا مراقبة؛ لأنّ الهدف إيصال فكرة إلى المشاهد حول الطرف المسيطر فعلًا، وفرض الخطاب، والهيمنة، وعدم الاكتراث لأيّ ردّ فعل دوليّ.

 


 

سماح بصول

 

 

تسكن في الرينة، شمال فلسطين. صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، والماجستير في ثقافة السينما، وتدرس حاليًّا الماجستير في الأدب العربيّ.