صورة هرتزل مع قيصر ألمانيا: قصّة أوّل تزييف إعلاميّ صهيونيّ

الصورة 1: ثيودور هرتزل فوق سطح فندقٍ في يافا، والّتي ستُسْتَخْدَم للتزييف

 

في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1898، زار القيصر الألمانيّ فيلهام الثاني الشرق؛ بهدف استكشاف آفاق جديدة لنفوذ بلده وتعزيز مكانة ألمانيا في المنطقة. كانت إستانبول المحطّة الأولى للزيارة، حيث قابل هناك السلطان عبد الحميد الثاني، في ما فلسطين كانت المحطّة الثانية. صهيونيًّا، شهدت تلك السنة نشاطًا مكثّفًا ومذهلًا من قِبَل ثيودور هرتزل، الّذي كان قد نجح في عقد «المؤتمر الصهيونيّ الأوّل» في بازل السويسريّة في السنة الماضية، وتشكيل «المنظّمة العالميّة الصهيونيّة». كانت فكرة هرتزل الجوهريّة الّتي أقنع بها غالبيّة المؤتمرين، تقوم على ضرورة التواصل مع القوى الكبرى، وضمان تأييد إحداها لفكرة الحصول على فلسطين وطنًا ليهود العالم، ومن ضمن تلك القوى السلطنة العثمانيّة وبريطانيا وألمانيا القيصريّة.

 

إغراء القيصر لإقناع السلطان

علم هرتزل ببرنامج زيارة القيصر ‘الشرق أوسطيّة‘ عن طريق ويليام هتشلر، وهو رجل دين بروتستانتيّ مقرّب من بلاط القيصر، ومهووس بفكرة المسيحيّة الصهيونيّة حول تجميع اليهود في فلسطين (Restoration)؛ بكونها شرطًا مسبقًا لظهور المسيح في آخر الزمان.

مع علمهم ببرنامج الزيارة، اشتغل هرتزل وأربعة من القادة الصهاينة آنذاك بجهد يسابق الزمن؛ للوصول إلى إستانبول قبل القيصر، وكان هذا الأخير قد علم برغبة هرتزل في لقائه، واستحسنها، ومعها فكرة تهجير اليهود الألمان إلى فلسطين. وفعلًا التقى الاثنان في 18 تشرين الأوّل (أكتوبر) في إستانبول، وطلب هرتزل من القيصر الضغط على السلطان عبد الحميد، وإقناعه بفكرة منح فلسطين ليهود العالم، مقابل مساعدة اليهود السلطنة العثمانيّة ماليًّا.

 

الصورة 2: القيصر الألمانيّ على حصانه الأبيض في الصورة الأصليّة قبل فبركتها

 

أمّا بالنسبة إلى ألمانيا، فقد قام الإغراء الأساسيّ، الّذي قدّمه هرتزل للقيصر على ركيزتين: الأولى أنّ إقامة مثل هذا الوطن لليهود في فلسطين، سوف يخلّص ألمانيا من اليهود غير المرغوب فيهم هناك، وخاصّة أولئك الّذين كان يُنْظَر إليهم بأنّهم مجموعات انقلابيّة تشتغل ضدّ القيصر وتقف في صفّ المعارضة. والثانية أنّ الكيان اليهوديّ المستقبليّ في فلسطين، سوف يكون تحت الرعاية الألمانيّة، وموطئ قدم لنفوذها في الشرق (وهو نفس العرض الّذي عرضه هرتزل على البريطانيّين في ذات الوقت). واستطرادًا، كان هرتزل يكرّر لتلك القوى الأوروبّيّة ما ذكره في كتابه ومذكّراته من أنّ اليهود "... سوف يقيمون فيها قطعة من أوروبّا الناشطة في مواجهة آسيا، قاعدة متقدّمة للحضارة في مقابل البربريّة".

راقت أفكار هرتزل للقيصر فيلهام في بداية الأمر، وتحمّس لها، لكنّه سرعان ما تراجع عنها عندما أدرك أنّ الفكرة تُغْضِب السلطان العثمانيّ، وقد تهدّد التحالف معه؛ الأمر الّذي كانت ألمانيا تعتبره حجر الأساس في سياستها في الشرق، وفي صراعاتها مع القوى الأوروبّيّة في الغرب (خاصّة بريطانيا وفرنسا).

 

صورة لتَمْثيل اليهود

لم ييأس هرتزل من فشله في إستانبول، وسافر على الفور مع مرافقيه إلى الإسكندريّة، ومنها إلى يافا ليسبق، مرّة أخرى، القيصر الألمانيّ إلى فلسطين، ويقابله ثانية في القدس، وليعيد عليه الفكرة ابتداءً، وليظهر أيضًا أمامه ممثّلًا ليهود العالم، ويهود فلسطين ثانيًا. وفي ذات الوقت، كي يُظْهِر هرتزل نفسه أمام يهود العالم أجمع بأنّه القائد الصهيونيّ الواسع العلاقات، والقادر على مقابلة الملوك والقياصرة، بما يمنحه شرعيّة قياديّة إضافيّة، وخاصّة أمام التجمّعات اليهوديّة المتشكّكة في الفكرة الصهيونيّة في أمريكا وغرب أوروبّا.

وصل هرتزل إلى ميناء يافا في يوم 26 تشرين الأوّل (أكتوبر)، وكان قد أُصيب بالحمّى خلال سفره بالبحر، ووصل القيصر في اليوم التالي؛ أي 27 تشرين الأوّل (أكتوبر) إلى يافا أيضًا، وكان مقرّرًا أن ينطلق نحو القدس مع زوجته وحاشيته في موكب إمبراطوريّ بالخيول والعربات، وبرعاية الحرس العثمانيّ.

مرّة أخرى تواصل هرتزل مع مناصريه في حاشية القيصر، وعرف خطّ السير الّذي كان سيمرّ قريبًا من «المدرسة الزراعيّة اليهوديّة «ميكفيه يِسْرائيل» (Mikveh Israel)، وكانت ألمانيّة التأسيس وغير صهيونيّة في الأساس. وعبر أولئك المقرّبين، أوصل رسالة سريعة إلى القيصر تفيد بأنّه؛ أي هرتزل، سوف يكون في طريق سيره صباح اليوم التالي.

 

الصورة 3 المفبركة، ويظهر فيها القيصر منحنيًا ليصافح هرتزل

 

وبالفعل، في الصباح الباكر ذهب هرتزل إلى المدرسة اليهوديّة مع مرافقيه، وطلب أن يعلّم فرقة الإنشاد المكوّنة من أولاد المدرسة نشيد الترحيب بالألمانيّة، حتّى ينشدوه عند مرور القيصر قريبًا من بوّابة المدرسة الزراعيّة، ويكون هرتزل واقفًا إلى جوارهم.

وذلك ما كان، أو على الأقلّ ما روته المصادر الصهيونيّة، وقد تعرّف القيصر على هرتزل، كما يقول الأخير في مذكّراته، وصافحه وهو على ظهر حصانه. وكانت المصافحة تلك هي اللحظة الّتي يُراد استثمارها وقطفها بعد كلّ تلك التحضيرات الدقيقة، وكان مرافق هرتزل على أتمّ الاستعداد بكاميرته من نوع «كوداك» لالتقاط صورة المصافحة تلك؛ فهي الهدف الأساسيّ؛ وكي تُوَظَّف مع يهود العالم الّذين كان أغلبهم آنذاك من المعارضين للصهيونيّة وفكرتها إزاء تهجير اليهود إلى فلسطين، وإقامة كيان لهم فيها.

 

الفَبْرَكَة

التقط المرافق بعض الصور بالفعل في تلك الثواني السريعة، ولكن عند تحميضها في أستوديو في يافا في نفس اليوم، أُصيب الجميع بخيبة أمل كبيرة؛ إذ لم يكن أيٌّ منها قد حقّق المطلوب، ولم تظهر لحظة المصافحة واضحة كما أُريد لها. واحدة من الصور ظهر فيها القيصر وخلفه أحد وزرائه، وكلٌّ منهما على حصانه، ولم يظهر فيها هرتزل (الصورة رقم 2). وفي صورة ثانية، ظهر القيصر وهو مُنْحَنٍ من فوق حصانه في هيئة مصافحة شخص واقف، لكن هرتزل نفسه كان خارج إطار الصورة، ولم يظهر منه إلّا إحدى قدميه.

في نفس الأستوديو اليهوديّ في يافا، تقرّر إعادة تركيب الصور وفبركة صورة جديدة (‘فوتوشوب‘ بالتعبير الشعبيّ الراهن)، يظهر فيها القيصر وهو يصافح هرتزل بوضوح. وفي شرح للخطوات الّتي تمّت لإنتاج الصورة المفبركة، حلّل ديزموند ستيورات في دراسة معمّقة لزيارة هرتزل، تلك الخطوات التفصيليّة الّتي سبقت الوصول إلى الصورة النهائيّة الّتي انتشرت بشكل مذهل في أوساط يهود العالم (نُشِرَت الدراسة في «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة»، النسخة الإنجليزيّة، واشنطن، ربيع 1974).

 

تمثال يخلّد لحظة لقاء هرتزل بالقيصر الألمانيّ  | صفحة «ميكفيه يِسْرائيل»

 

تضمّن تلك الخطوات أوّلًا، نقل القيصر من على الحصان الأبيض الّذي كان يمتطيه في الواقع، إلى الحصان الأسود الّذي يظهر في الصورة النهائيّة (صورة رقم 3) – أي جرى تغيير الحصان ولونه. ثانيًا، التُقِطت صورة لهرتزل وهو يقف منتصبًا، وفي وضعيّة تعكس ثقة بالنفس فوق سطح فندق، حيث الشقّة الّتي أقام فيها في يافا (صورة رقم 1، الرئيسيّة)، وأُدْخِلَت هذه الصورة إلى الصورة الأساسيّة حيث القيصر على حصانه، بحيث بدا القيصر وهو يصافح هرتزل منتصب القامة. ثالثًا، الصورة الّتي الْتُقِطَت لهرتزل ووُضِعَت في الصورة النهائيّة تختلف عن الهيئة الّتي ظهر بها أمام القيصر لحظة التسليم. وتمثّلت الخلاصة (الصورة رقم 3)، في هيئة تترك انطباعًا قويًّا، حيث قيصر ألمانيا العظمى ينحني من فوق ظهر حصانه، ويصافح هرتزل الواقف بكلّ ثقة ويتبادل الحديث مع القيصر، وذلك في فلسطين من أمام إحدى المستعمرات اليهوديّة.

يمكن القول، من ناحية إعلاميّة ودعائيّة، إنّ تلك الصورة كانت أوّل فبركة لصورة سياسيّة في العصر الحديث، وبعد اكتشاف الكاميرا؛ وبهدف تعزيز الدعاية لفكرة سياسيّة معيّنة. كما يمكن القول إنّ تلك الصورة دفعت بالحركة الصهيونيّة وفكرتها ومنظّمتها وقائدها إلى قلب التجمّعات اليهوديّة في العالم، ومنحت هالة قياديّة ومخيالًا حول قوّة المنظّمة الصهيونيّة ونفوذها، فاق كثيرًا واقعها المتواضع آنذاك.

 


خالد الحروب

 

 

كاتب وأكاديميّ فلسطينيّ أردنيّ الجنسيّة، يحاضر في «كلّيّة الفنون الحرّة» بشأن سياسات الشرق الأوسط المعاصر والدراسات الإعلاميّة العربيّة في «جامعة نورث وسترن» في قطر. كان محاضرًا في «جامعة كامبريدج» سابقًا، كما عمل مذيعًا لبرنامج «خير جليسٍ في الزمان كتاب» في «قناة الجزيرة» في الأعوام (2000-2007)، وله عدّة مؤلّفات.