صبري مدلّل: حنجرة الإنشاد الدّينيّ والطّرب

الشّيخ صبري مدلّل

من لم يعرف صبري مدلّل آن الآوان ليعرفه، ومن عرفه وسمع صوته، قد تكون هذه المقالة فرصة لمعرفته أكثر؛ الأمكنة والزّوايا الّتي رافقت هذه الهامّة العربيّة الحلبيّة.

في مقالتي هذه، أتعرّض لأحد أعمدة الإنشاد والطّرب في مدينة حلب؛ ففي الوقت الّذي تشهد المدينة كلّ أشكال الدّمار، أبحث هنا وهناك عن الكنوز الكبيرة، كنوز حضاريّة وتراثيّة يُغَيِّبُها القتل اليوميّ. أحاول لملمة قصص لتكوِّن سيرة مشهد موسيقيّ من الطّرب والإنشاد الدّينيّ في حلب بخاصّة، وعالمنا العربّي بعامّة.

أسطوانة في خان الزّيت

إنّ أجمل اللّحظات في الكتابة، هي تلك الّتي تستعيد فيها مشهدًا مُلْهِمًا؛ ومشهدي يعود  لعام 1993، في سوق خان الزّيت بالقدس العتيقة. هناك، بين مئات الأسطوانات، تجد أسطوانة من إصدار 'مركز دراسات العالم العربيّ' في باريس، للمنشد صبري مدلّل. ومن هناك كانت بداية التّحليق الطّربيّ مع هذا الشّيخ السّاحر.

كان الشّيخ صاحب الصّوت المتغلغل في حجارة بيوت حلب، مرجعًا للفنّانين والسّمّيعة الّذين عايشوه، وظلّ أسطورة لأجيال موسيقيّة صاعدة، إلّا أنّه بقي بعيدًا عن 'النّجوميّة' الإعلاميّة والتّجاريّة الاستهلاكيّة الّتي تغمر عالمنا العربيّ. حين تتعرف إلى صوته وتدرك شخصيّته، تبدأ بمتابعة عروضه ولقاءاته وجولاته. على مدار واحد وخمسين عامًا كان مدلّل يتنقّل بين البيوت، والمراكز، ومساجد المدينة الّتي عمل فيها مؤذّنًا، ليضيف صبغة ثقافيّة موسيقيّة متميّزة، تبدأ جولاته من بيته في حيّ الجلوم، أو دكّانه الّذي كان يبيعه فيه صابون الغار الحلبيّ، ثمّ يعود إليهما.

'ابعتلي جواب'

وُلِدَ صبري مدلّل في حلب عام 1918، وكان له دور في إدخال الإيقاعات والآلات الموسيقيّة للأستوديو حديث العهد. كانت ثقافته الأولى مع الشّيخ أحمد المصري الّذي اكتشف إمكانيّاته الصّوتيّة خلال تردّد مدلّل على حلقات المساجد. كما كان تأثّره كبيرًا من علاّمة الموسيقى الكبير، عمر البطش، وذلك في ثلاثينات القرن الماضي، وقد استدعاه البطش للعمل معه مردّدًا في إذاعة حلب. وقد استفاد أيضًا من الفنّان بكري الكرديّ، الّذي أعطاه ألحانًا عدّة، منها لحن 'ابعتلي جواب'،  الّذي أشهره، وقد غنّياه بعده كلّ من محمّد خيري وصباح فخري.

غلاف إحدى أسطواناته الصّادرة في فرنسا

التّجربة المركزيّة الأخرى في حياة مدلّل، لقاؤه بمطرب ومنشد المدائح النّبويّة، الأستاذ فؤاد خانطوماني عام 1954؛ وفي هذا اللّقاء وُلِدَتْ فكرة تأسيس فرقة إنشاد دينيّ، تخصّصت في تقديم الأناشيد والتّواشيح الدّينيّة. وكان لحن 'صلاة الله ذي الكرم على المختار في القدم' أوّل لحن يُؤسّس لعمل منهجيّ مهنيّ لهذه الفرقة، ليبدأ انتشارها بعد ذلك في العالم العربيّ، وقد عرفت الفرقة أصواتًا عملاقة أخرى، أمثال حسن الحفّار ومحمّد الصّابوني. كما شهدت الفرقة أيضًا انطلاقة أوروبيّة كانت بتقديم العرض الأوّل في باريس، وقد سجّل الباحث الموسيقيّ الفرنسيّ، كريستيان بوخة، أسطوانة في حينه تحت عنوان 'مؤذّنو حلب'.

إدخال المسرّة

يتناول فيلم 'حلب... مقامات المسرّة'، للمخرّج السّوريّ محمّد ملص، سيرة الشّيخ صبري مدلّل، ويُعَدُّ الفيلم أحد المصادر المهمّة للتّعرّف إلى هذا العلم الثّقافيّ، كما يمثّل إطلالة مهمّة على دهاليز وأحجار حلب الّتي تنتج المطربين الكبار، ويبيّن العلاقة الوثيقة بين البيئة والولادة الموسيقيّة.

يكشف ملص الذّكريات الدّافئة الّتي طوّرت إنسانيّة مدلّل وثقافته الموسيقيّة، كما نجح في أن يمسك بتفاصيل إنسانيّة مهمّة في شخصيّة مدلّل، أهمّها حبّه ومسعاه إلى إدخال المسرّة لقلوب النّاس، فيعرف عن نفسه بالفيلم: 'أنا صبري مدلّل، المنشد الحلبيّ ومُدْخِلُ السّرور إلى قلوب النّاس.'

صبري مدلّل وعمر سرميني يرقصان على مسرح مهرجان بعلبك (2000)

لم تنكسر شخصيّة مدلّل وطاقته بسبب 'عدم الشّهرة'، إذ انحصرت في سوريا، وفي حلب بخاصّة، وقد اكتشف كثيرون عظمة صوته وألحانه في مرحلة متأخّرة فقط. لم ينكسر وظلّ يبدع وينتج دون توقّف.

الإنشاد الدّينيّ

في لمحة موجزة عن الإنشاد الدّينيّ في حلب، يمكن القول إنّ المدينة تُعَدُّ من أهمّ المعاقل الموسيقيّة العربيّة بعامّة، وفي هذا المجال الموسيقي بخاصّة؛ ومعروف أنّ أهلها أصحاب ذوق رفيع وخاصّ في أنماطهم الاجتماعيّة، وهندسة بيوتهم وأسواقهم وحاراتهم القديمة والحديثة.

كان الأذان في حلب شكلًا من أشكال التّعبير عن تميّز المدينة الحضاريّ، إذ جُعِلَتْ له أشكال تعبيريّة موسيقيّة مختلفة، وظهرت فيها الفرق الصّوفيّة وتوزّعت زواياها بكلّ الأحياء. وفي حالات الاستقرار كما في حالات الاضطّراب، كانت الموسيقى تعبيرًا عن حال المدينة وأهلها، إن كان من خلال الزّوايا أو الفرق الفنيّة المختلفة.

لقد تخرّج في حلقات الذّكر الإسلاميّة في حلب معظم المنشدين، وفي فرق الكورال المسيحيّة تخرّج معظم الفنّانين المسيحيّين. كانت حلقة الذّكر تُعَدُّ المدرسة الأولى لتهذيب الرّوح وصقلها، فيها يتعلّم المنشد آداب السّمع والإيقاع، وآداب الحديث والاجتماع، وأصول الأوزان والطّبقات والمقامات، وألوان الغناء من موشّحات وقدود ومدائح. في حلقات الذّكر تكون الأناشيد مقسّمة إلى فصول، يُلتزم فيها بالمقامات والأوزان، ووراء المنشد يكون 'الذّكّيرة' الّذين يردّدون عبارة 'لا إله إلّا الله'، أو 'الله عزّ وجل'، وما إلى ذلك، وهم أيضًا يلتزمون بالمقامات والأوزان.

المدرسة الحلبيّة

يرى الباحث الموسيقيّ، رفائيل أونجي، أنّ الأذان والتّجويد القرآنيّ كان لهما دور مهمّ في صقل صوت صبري مدلّل منذ طفولته؛ وقد استمرّ في أداء الأذان ما يقارب السّبعين عامًا، علمًا أنّ لصوت مدلّل إمكانيّات تجعله قادرًا على منافسة أعظم المطربين.

غنّى صبري مدلّل وفرقته، بالإضافة إلى التّواشيح والأذكار، العديد من أعمال القصبجي، وسيّد درويش، وزكريّا أحمد، وغيرهم من كبار الملحّنين؛ وقد كان يؤدّي ذلك بأسلوبه الحلبيّ المميّز أداءً ولفظًا. ولعلّ من أبرز ما أدّاه 'هوّ صحيح الهوى غلّاب' لزكريّا أحمد وبيرم التّونسيّ. في هذا السّياق، يقارن رفائيل أونجي بين صوت مدلّل وأمّ كلثوم، مشيرًا إلى تميّز المدرسة الحلبيّة في الصّوت والأسلوب والألفاظ، وهو ما برز جليًّا كذلك في الأذكار والأناشيد الدّينيّة، وقد تميّز مدلّل في تلحين وغناء الكثير من قصائد ابن الفارض وغيره.

وتعطّلت لغة الكلام

امتاز صبري مدلّل بطول النّفس، فحنجرته المتشرّبة للأبجديّة العربيّة والتّراث الصّوفيّ، أتقنت بشكل مدهش الانتقال بين الطّبقات والمقامات بليونة، دون أن يحدث تقطّع في غير مكانه؛ وقد أورد الباحث محمّد قدري، طرفة عن مقطع في أغنية 'يا جارة الوادي' بصوت محمّد عبد الوهّاب، مثالًا لمنافسة مدلّل للمطربين الكبار. ففي مقطع 'وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت عيني في لغة الهوى عيناك'، وقع كلّ من أدّى هذا البيت، ومن ضمنهم عبد الوهّاب وفيروز، في خطأ التّقطيع، وفق قدري، بينما ترى مدرسة مدلّل أنّ القطع والتّنفّس في هذا البيت غير محبّذ.

صبري مدلّل يتوسّط فرقة الكندي إنسمبل في حلب (1998)

لم تكن ميزة مدلّل جمال الصّوت فحسب، بل شحنة الطّرب الكبيرة الّتي يبثّها في مستمعه لشدّة أصالته وتعمّقه والتزامه قواعد الموسيقى وكوامنها الخفيّة، مع إجادته الارتجال والغناء العفويّ.

عدميّة

لدى اكتشافك الكثير من الأسماء الكبيرة والمؤسّسة في الموسيقى، والاطّلاع على شجرة الآباء الّذين صقلوا مدلّل وأمثاله، وحين تتعمّق في تراث صبري مدلّل ومدرسته الخاصّة الّتي خرّجت الكثير من المنشدين، نطرح تساؤلًا حول مكانة البحث الموسيقيّ العربيّ، حيث محدوديّة الدّراسات المتناولة للكنوز التّراثيّة الثّقافيّة المهمّة، قديمًا وحديثًا. تشعر بالعدميّة أمام مشاهد وتفاصيل مهمّة في أنثروبولوجيا الموسيقى: دهاليز حلب، جامع الكلتاويّة، الجامع الأمويّ، إذاعة حلب، عمر البطش، فرقة صبري مدلّل للتّراث، سهرات السّبت في بيت زين العابدين، الشّيخ بكري كردي، أميّة الزّعيم، صاحبة صالة ثقافيّة وأوّل امرأة تقتحم سهرات السّبت الّتي كانت وقفًا على الرّجال، بالإضافة إلى أسماء عديدة من الّذين يغيبون عن التّوثيق العلميّ والمهنيّ.

أكتب عن حلب وكأنّها حاضرة كما هي، كما كانت، أكتب عن أحد أعمدتها، الرّاحل صبري مدلّل، وكأنّ أعمدتها لم يمسسها سوء. هي باقية، والكتابة، على مرّ التّاريخ، أدّت دورًا مهمًّا في معركة البقاء.

مراجع:

بسّام لولو. المنشد الحلبيّ صبري مدلّل، سيّد الارتجالات وصانع الوجد والسّرور (مقالة إلكترونيّة).

رافائيل أونجي. صبري مدلّل: عراقة حلب في صوت ماسيّ.

محمّد جميل. صبري مدلّل، خذ من فم العشق وردة. (مقالة إلكترونيّة).

محمّد حماديّة. مقامات المسرّة في حلب. (فصل في كتاب الموسيقا العربيّة: أسئلة الأصالة والتّجديد).