شحادة شلالدة... الطريق نحو احتراف صناعة الآلة الموسيقيّة

شحادة شلالدة

 

لمع اسم شحادة شلالدة، صانع الآلات الموسيقيّة الشابّ، ذي السبعة والعشرين ربيعًا، بعد أن شارك مؤخّرًا - بصفته الفلسطينيّ والعربيّ الوحيد - في أكبر مسابقة لصناعة الآلة الموسيقيّة، وهي "مسابقة كريمونا" المرموقة في إيطاليا، ووصوله إلى درجات ممتازة في النهائيّات.

أحبّ شحادة العمل اليدوي ورافقته الأشكال منذ صغره؛ فقد كان يحضر القطع الخشبيّة الموجودة في مواقع البناء، ثمّ يبدأ الحفر عليها ويعيد تشكيلها، متأثّرًا بطبيعة عمل والده المهندس المعماريّ، وهذا ساعده لاحقًا في تصميم الآلات ورسمها.

 

مع "الكمنجاتي"

وكانت "جمعيّة الكمنجاتي" قد تأسّست عام 2005، في البلدة القديمة برام الله حيث يسكن، فانضمّ شحادة ذو إليها منذ البداية، وقد كان عمره 14 عامًا؛ بغية تعلّم العزف على العود. ومن خلال الجمعيّة، أُتيحت له فرصة تعرّف جميع الآلات الموسيقيّة عن قرب، وقد أحبّ على نحو خاصّ شكل الكمان وانحناءاته؛ لذلك ترك تعلُّم العود بعد السنة الأولى، وتحوّل إلى تعلّم العزف على الكمان.

 

 

في أثناء فترة العزف على الكمان في الجمعيّة، شهد شحادة زيارات العديد من مصلحي الآلات الموسيقيّة من خارج فلسطين، الّذين كانت الجمعيّة تدعوهم لتصليح الآلات غير الصالحة، الّتي يتبرّعون بها للجمعيّة؛ فبدأ اهتمامه بالتصنيع والعمل اليدويّ، وكان في المرحلة الأولى يراقبهم بداعي الفضول، ثمّ تزايد اهتمامه بصناعة الآلات نفسها.

رافق شحادة مصلحي الآلات الموسيقيّة في زياراتهم إلى فلسطين، وراقب الصيانة وطرقها عن كثب، وأبدى اهتمامًا كبيرًا وشغفًا بالتعلّم، فأعطاه مصلحو الآلات فرصًا للمشاركة في صيانة أجزاء بسيطة من الآلات؛ ليساعد في صيانتها في الجمعيّة. في تلك الفترة، شجّعه رمزي أبو رضوان، رئيس الجمعيّة، على تعلّم حرفة التصنيع والصيانة، ليكون دومًا في الجمعيّة؛ عوضًا عن استقدام صنّاع من الخارج.

 

إلى إيطاليا... نحو الكمان

في العام نفسه، سافر شحادة إلى إيطاليا، بدعوة من أحد الأساتذة الّذين علّموه الصيانة في البدايات، فأقام في مدينتَي فلورنسا ونابولي مدّة 3 أشهر، صنع فيها أوّل كمانين له دونما تعليم أكاديميّ، وقد كانت تلك بداية شحادة الحقيقيّة في صناعة الآلة الموسيقيّة، عوضًا عن صيانتها.

نصحه أستاذه بإكمال تعليمه في "جامعة نيورك "في بريطانيا، وحصل على منحة من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" و"جمعيّة الكمنجاتي"، ودخلها ليحصل منها عام 2012 على شهادة البكالوريوس، في "صناعة وترميم آلة الكمان "في "كلّيّة الكمان"، ثمّ عاد شحادة إلى فلسطين ليكمل مشوار صناعة الآلات وصيانتها، مختصًّا بعائلة الكمنجة: الكمان، والفيولا، والتشيلو، والكونترباص.

 

 

وبعد إنهائه دراسته وعودته، زارته المرحومة ليلى القطّان في ورشته، وكانت سعيدة جدًّا بتخصّصه، ويقول بهذا الصدد: "كانت المرحومة أمّ هاني مهتمّة بأن أطوّر نفسي؛ لأصبح صانعًا محترفًا ومعروفًا؛ لذا اقترحت عليّ أن أتعلّم اللغة الإيطاليّة على نفقتها، فساعدتني على السفر إلى إيطاليا؛ لزيادة خبرتي والتعلّم عن أشهر الصنّاع. ولا يخفى أنّ تعلّمي اللغة الإيطاليّة، ساعدني في فهم تاريخ الكمان، وتفاصيل مهمّة في صناعة الكمان التقليديّة المشتهرة في إيطاليا".

خلال عامين من عودته، سافر شحادة إلى ورشة الصانع الفرنسيّ باتريك روبان، وهو أحد أفضل الصنّاع في العالم، وتدرّب عنده، وسافر أيضًا في ورشة إلى إيطاليا، وتعلّم طريقة كلّ صانع، وأضاف وعدّل وخلط هذه الطرائق، بما يتناسب معها محلّيًّا، وما يناسب رؤيته، كمت شارك في "معرض فرانكفورت للآلات الموسيقيّة الاحترافيّة".

 

"مسابقة كريمونا"

أمّا في ما يخصّ المسابقة العالميّة الأخيرة الّتي شارك فيها، فيقول: "تقام ’مسابقة كريمونا لصناعة الآلة الموسيقيّة’ كلّ ثلاث سنوات، في ’متحف كريمونا دي ميوزيك’ في إيطاليا، وهي مسابقة مرموقة يشارك فيها الصنّاع من جميع أنحاء العالم، يقوم الصنّاع بإدخال آلاتهم إلى امتحان قبول أوّليّ، قبل أن تدخل إلى المسابقة، وقد رُفضت في هذه المرحلة 40 آلة".

 

 

ويضيف: "دخلت آلتي الّتي شاركت بها، وهي آلة الفيولا، الّتي أفضّلها من عائلة الكمنجة، إلى المسابقة النهائيّة، وقد أحرزت المرتبة العشرين من بين 400 صانع، كنت أنا الصانع الفلسطينيّ والعربيّ الوحيد بينهم، واستفدت كثيرًا من تعليقات الحكّام ونصائحهم".

 

من الصفر

يقوم شحادة بصنع آلاته من الصفر، ويصمّمها يدويًّا بشكل كامل في ورشته، فيرسم مخطّطات الآلة يدويًّا، ثمّ يصنع القالب الأساسيّ، ويبدأ العمل عليه، وينتهي بطلائه في ورشته، عن طريق خلط الموادّ العضويّة يدويًّا أيضًا، فيضفي لمسته الخاصّة على آلاته.

تكمن المتعة في حرفة شحادة، في فكرة خلق شيء من الصفر وابتداعه، هذا الشيء هو الآلة، يستخدمها عازف ليُسعد آخرين أو يؤثّر فيهم، ومن ثَمّ تُورَّث هذه الآلة جيلًا بعد جيل.

يقول شحادة في هذا الصدد: "شعور الانتهاء من صنع آلة، شعور يشبه ولادة طفل جديد، والمفارقة أنّ لكلّ آلة جديدة شهادة صنع، أذكر فيها مواصفاتها، تمامًا كشهادة الميلاد"، وعلى الرغم من المتعة الكامنة في الصناعة، فإنّ الحرفة تحتاج إلى صبر وتركيز طويلين، وتحتاج إلى المعرفة بالعلوم الموسيقيّة، وعلوم الصوتيّات، وفهم طبيعة الموادّ كنوع الخشب، "فنوع الخشب هو الّذي يدلّني على الطريقة المثلى لأتعامل مع كلّ قطعة خشبيّة، وليس العكس". ويتجلّى شغف الصانع بفهمه للصناعة، حين يسمع صوت الآلة؛ فيكوّن من صوتها فقط فكرة عن كيفيّة صناعتها وأجزائها الداخليّة.

 

تحدّيات: الحصول على الخشب والتسويق

أمّا بالنسبة إلى بعض المحدّدات والعقبات، فيقول شحادة إنّ الحصول على الأخشاب بحدّ ذاته ليس باليسير؛ فيستورد شحادة أخشاب القيقب والسبروس - نوع من أخشاب السرو - من أوروبّا، وبخاصّة أخشاب أشجار جبال الألب الباردة؛ إذ إنّ الأشجار الّتي تنمو في المناطق الباردة، تكون حلقاتها أقرب، وتنمو الأشجار ببطء؛ فتكون كثافة أخشابها أكبر لتحتمل البرد والريح، ويتعيّن على الصانع انتظار الأخشاب؛ لتجفّ مدّة من الزمن، تتعدّى أربع سنوات في بعض الأحيان، ولا يمكن استعمال الأخشاب المحلّيّة الصنع.

 

 

وعلى الرغم من أنّ شحادة باع آلات من صنعه، في دول أوروبّيّة عدّة وفي أمريكا، فإنّ التسويق في الخارج يشكّل عقبة، فعلى الرغم من الجودة العالية جدًّا لآلات شحادة، فإنّ اسم فلسطين غير معروف كالدول الشهيرة بتصنيع الكمان كفرنسا وإيطاليا.

ويذكر شحادة أنّ بعض التجّار العالميّين يحاولون أحيانًا شراء آلاته بسعر بخس، يصل إلى نصف سعر الآلة الأصليّ؛ كون الآلة فلسطينيّة، وهو ما يرفضه، فإضافة إلى اهتمام شحادة بالجودة العالية، بحيث يصنع الآلة خلال مدّة قد تصل إلى ثلاثة أشهر للآلة الواحدة، واعتماده على بيع الآلات الاحترافيّة والصيانة بشكل كامل؛ مصدرًا للدخل، فهو لا يصنع آلات تجاريّة بجودة منخفضة بغرض البيع، وبين صعوبة التسويق تكمن العقبات. يتركّز زبائن شحادة محلّيًّا، في الصناعة والصيانة، في عازفين من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، إضافة إلى عمله مع "الكمنجاتي"، وعلى الرغم من المحدّدات محلّيًّا، فإنّ شحادة لا يفكّر في السفر إلى الخارج.

 

تطوير الصناعة الآلاتيّة في فلسطين

يرى شحادة أنّ أهمّ آفاق التطوّر لدى صانع الكمان، استمراره في المشاركة في المسابقات، بحيث يعطي ذلك الفرصة لاسم فلسطين؛ ليصبح متداولًا ومعروفًا بالصناعة، ويمنح الصانع شهادات دلالةً على حسن صناعته، ويضيف: "كون الصناعة هنا تعتمد على جهد الصنّاع فقط واجتهادهم؛ فإنّ الحاجة إلى رأي نقّاد أو محكّمي آلات من الضرورة بمكان؛ ليحسّن كلّ صانع من صناعته، وإنّ إقامة معارض محلّيّة وإقليميّة للآلات المصنوعة، ستساعد الصنّاع في التعرّف على بعضهم بعضًا، وستساعد في تسويق الآلات".

 

 

ويصنع شحادة - أيضًا - آلات مخصّصة حسب الطلب، كما فعل لـ "فرقة الإخوة سعد"، وباع آلته لعازف داعم للقضيّة الفلسطينيّة يُدعى مايكل دوبروسكي، ولعازف آخر يُدعى سيمون هيويت جونز، ويطمح في تكرار التجربة مع موسيقيّين محلّيّين وعالميّين.

وتُعَدّ صناعة الآلة الموسيقيّة، إحدى الصناعات المهمّة والناشئة في فلسطين، الّتي ببذل الجهد الكافي؛ ستطوّر كفاءات من الصنّاع المحترفين، تجول آلاتهم العالم، بل تُطلب آلاتهم بالتحديد.

 

 

أديل جرّار

 

 

معماريّة من فلسطين، من مواليد 1992، حاصلة على شهادة البكالوريوس في العمارة من جامعة بيرزيت، تكتب في الثقافة والفنّ، ومهتمّة في البحث في الثقافة البصريّة.