حين يمتلك المغنّي الفضاء الشعبيّ... مثل شفيق كبها

الفنّان الراحل شفيق كبها (1960 - 2013)

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

بعيدًا عن مناخ الأحزاب السياسيّة الّتي تصدّرت المشهد الوطنيّ والثقافيّ في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وبعيدًا عن الإنتاج الموسيقيّ النخبويّ الّذي أُنتج في نفس السنوات، واستوعبته تلك الأحزاب، وروّجت له وجهًا لـ "الفنّ الملتزم"؛ بعيدًا عن كلّ ذلك، انتشر صوت في القرى والمدن، في الأحياء والأزقّة، ولاقى قبولًا شعبيًّا مذهلًا، مع بحّة صوتيّة تتّسع للكثير من المقامات والأذواق، هو صوت الفنّان الفلسطينيّ شفيق كبها.

شكّل صوت كبها، وأسلوبه الأدائيّ، نافذة لتسلّل الغناء العربيّ، الطربيّ والفلكلوريّ، لفلسطين، وتحديدًا الأراضي المحتلّة عام 1948. من خلال حفلاته، انتشرت ألوان من الغناء المصريّ واللبنانيّ والعراقيّ

رغم مرور ستّة أعوام على رحيل كبها عام 2013، ورغم بقاء صوته فاعلًا ومنتشرًا، لم تلتفت الكتابة الثقافيّة الفلسطينيّة إليه على نحو جدّيّ، ولم تشخّص "ظاهرته" الفنّيّة والشعبيّة. هذه الكتابة، في المجال الثقافيّ، أخفقت في الوقوف عند "أسطورة" الغناء الشعبيّ كبها، وإن لم يرق للنخب الثقافيّة، في السابق والحاضر، التطرّق للزخم الّذي كان يحيط به، فإنّه من المنصف محاولة الخوض في حقيقة وجود هذه الظاهرة وانتشارها الواسع، حتّى بعد وفاته التراجيديّة، بل الوقوف أيضًا عند مسيرة طويلة لمغنٍّ يمكن اعتباره ماكنة بشريّة أسهمت في انتشار الموسيقى والأغنية من كلّ الأقطار العربيّة في أوساط الناس.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

مشروع تواصل غير محكيّ

في حقبتنا الزمنيّة المعاصرة، أصبحت الفضاءات الإلكترونيّة رافدًا رئيسيًّا لانتشار الموسيقى والأغاني، رافدًا سهلًا ومتاحًا للجميع، وتبدو هذه الفضاءات للكثيرين من أبناء هذه الحقبة وبناتها، أمرًا مفهومًا ضمنًا في عمليّة انتشار الإنتاج الموسيقيّ، وفي عمليّة تكثيف الاستماع له، وفي البلورة وبناء الذوق الموسيقيّ. في هذا السياق، حيث تسيطر شركات الهيمنة الرأسماليّة الكبرى على الكمّ والكيف في التواصل الموسيقيّ، من المهمّ تسليط الضوء على دور الفعل التراكميّ للإنسان، في عمليّة البناء الموسيقيّ والبناء الهويّاتيّ عمومًا. على الكتابة النقديّة والبحثيّة أن تكون حريصة على ألّا تغيب مساهمات الإنسان الفرد في عمليّة تعميم الموسيقى والأغاني، وعن مساهماته في خلق فضاءات بشريّة حيّة ومتفاعلة، وتصبح هذه المساهمات أكثر حيويّة وتركيبًا ونحن نتحدّث عن فضاءاتنا المشتّتة، وليدة النكبة.

شكّل صوت كبها، وأسلوبه الأدائيّ، نافذة لتسلّل الغناء العربيّ، الطربيّ والفلكلوريّ، لفلسطين، وتحديدًا الأراضي المحتلّة عام 1948. من خلال حفلاته، انتشرت ألوان من الغناء المصريّ واللبنانيّ والعراقيّ، في أوساط شرائح اجتماعيّة متعدّدة. ولا أعني هنا أن أنسب إليه دورًا رياديًّا أو حصريًّا في ذلك، إنّما أقصد الإشارة إلى دور أسلوبه الغنائيّ والأدائيّ في تحويل الأغاني القادمة من العالم العربيّ، إلى مادّة غنائيّة جماهيريّة؛ فقد امتلك طاقة صوتيّة مميّزة أَحبَّها الناس، وطاقة تعبير موسيقيّ على المنصّات، نجحت في استقطاب الآلاف للتفاعل الجماعيّ، وهي من الحالات الاستثنائيّة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. هذا التفاعل الواسع، كان من تعابيره تواصل الناس القادمين إلى حفلاته من مناطق عدّة مع بعضهم بعضًا، وخلق مساحة تلقائيّة عفويّة للتواصل الاجتماعيّ بينهم من خلال الغناء، وقد انتشر هذا التواصل في قرى وبلدات المثلّث والجليل، إلّا أنّه لم يتوقّف عندهما.

أدّت الاحتجاجات والحراكات السياسيّة والطلّابيّة، دورًا في التواصل بين أهالي الأراضي المحتلّة عام 1948، وأهالي الأراضي المحتلّة عام 1967؛ فقد كان أيضًا للموسيقى دور في هذا التواصل، وهو ليس تواصلًا بشريًّا فحسب، بل كان تواصلًا هويّاتيًّا. لربّما كان صوت كبها من الأصوات الموسيقيّة القليلة في أراضي 48، الّتي نجحت في إحداث استقطاب جماهيريّ واسع جدًّا في القدس والضفّة الغربيّة وغزّة، وهذا الاستقطاب لا يمكن الالتفات إليه حدثًا عابرًا، بل أميل إلى منح صوت كبها دورًا مساهمًا في الالتئام الهويّاتيّ الفلسطينيّ؛ ولأنّ لدينا حقيقةً شعراء أسهموا في تعزيز الوعي الفلسطينيّ والعربيّ، نحو الوجود الفلسطينيّ في أراضي 48، فيُفترض بنا أن نبحث عن مساهمات أخرى في هذا السياق.

كان حلول كبها على أعراس وحفلات أُقيمت في القدس والضفّة الغربيّة وغزّة، وتجمّع الآلاف من الناس للرقص وللتعبير الغنائيّ، مقولة واضحة المعالم حول النسيج الهويّاتيّ للمغنّي، ولفرقته، ولبلده، ولهويّة جمهوره

كان حلول كبها على أعراس وحفلات أُقيمت في القدس والضفّة الغربيّة وغزّة، وتجمّع الآلاف من الناس للرقص وللتعبير الغنائيّ، مقولة واضحة المعالم حول النسيج الهويّاتيّ للمغنّي، ولفرقته، ولبلده، ولهويّة جمهوره الفلسطينيّ، ولهويّة الأغاني القادمة من العالم العربيّ. وفي تقديري، فإنّ هذا النوع من المساهمات ما زال مغيَّبًا؛ وهو ما يستدعي النبش والبحث عن مركّبات وتفاصيل إضافيّة في تاريخ الحراك الثقافيّ الموسيقيّ، ليكون جزءًا من حركة بناء علم الاجتماع الثقافيّ والسياسيّ الفلسطينيّ وتطوُّره.

 

مهرجانات الحواكير

تطرح "ظاهرة" شفيق كبها نموذجًا للمكانة المجتمعيّة للموسيقى، تقدّم دليلًا على شعبيّة الموسيقى في مجتمعنا، بصفتها مادّة أساسيّة للاستهلاك الروحيّ الترفيهيّ، وتقدّم نموذجًا للمشاركة الشعبيّة الواسعة في الحفلات الموسيقيّة.

لماذا تكتسب هذه الظاهرة أهمّيّة خطابيّة وبحثيّة الآن بالذات؟

في زمن تنتشر فيه خطابات تحريم العديد من العروض الثقافيّة، يصير مُلحًّا تقديم هذه النماذج، ولا سيّما أنّها مستمدّة من تاريخنا الاجتماعيّ غير البعيد؛ فهي تعكس مدى رواج الفنّ وحجمه، وتحديدًا الموسيقى والغناء، وشرعيّته الطبيعيّة في نقطة الزمن الحاليّة؛ إذ تزداد خطابات تحقير الفنّ، ونداءات تحريم الغناء والرقص تحديدًا، ويصبح النموذج حيويًّا في واقع يجري فيه تحقير "التمايل" في الحفلات الموسيقيّة، وتصنيفه مظهرًا معيبًا.

في زمن تنتشر فيه خطابات تحريم العديد من العروض الثقافيّة، يصير مُلحًّا تقديم هذه النماذج، ولا سيّما أنّها مستمدّة من تاريخنا الاجتماعيّ غير البعيد؛ فهي تعكس مدى رواج الفنّ وحجمه، وتحديدًا الموسيقى والغناء

لقد كانت القرى والبلدات والمدن الفلسطينيّة تفتح حواكيرها لكبها وفرقته الموسيقيّة؛ والحواكير، المساحات الطبيعيّة والخضراء بين البيوت، حيث كانت تتحوّل إلى ساحات للأعراس، تقدّم فيها الموسيقى من شعر الحداء (الحِدايَة)، وحفلات العزف والطرب من قِبَل الفرق الموسيقيّة. ولا يمكن أن تكون الحاكورة تعبيرًا أو تسمية خاوية وعابرة فقط في الوعي الفلسطينيّ، بل تحمل دلالات هويّاتيّة وسياسيّة؛ إذ إنّ فقدانها التدريجيّ المادّيّ بصفتها متنفّسًا طبيعيًّا، وتحوّلها القسريّ إلى مساحات معدّة للبناء الاضطراريّ وشقّ الشوارع، أمور من نتاج سياسات إسرائيل في مجالَي الأرض والبناء، والحدّ من توسّع مسطّحات التجمّعات السكّانيّة الفلسطينيّة. هذه السياسات أدّت إلى "موت" الحفلات الشعبيّة الخاصّة، والثقافيّة العامّة، والمهرجانات الحزبيّة والوطنيّة، الّتي كانت تُعقد في هذه الحواكير. ومن هنا، ترفض هذه المقالة التوجّهات الّتي تميل إلى إطلاق تسميات "مغنّي الحواكير"، لإلصاق صفة الدونيّة على هذا المغنّي أو تلك الفرقة، مبديةً جهلًا في قيمة الحواكير في معركة الانتماء والبقاء.

لقد كانت أعراس كبها وحفلاته تستقطب الآلاف من عشّاقه، في كلّ قرية أو بلدة أو مدينة كان يدخلها، في الوقت الّذي شكّلت قصائد الشعراء مادّة موسيقيّة لشرائح وقطاعات محدودة من الناس. كانت مادّة كبها الموسيقيّة، الّتي تعتمد على مواويل وأغانٍ وأهازيج من العالم العربيّ، ومن الفلكلور المحلّيّ، تؤسّس للمشاركة الشعبيّة الواسعة حتّى في الأعراس، وقد كانت المشاركة تتجاوز الأقارب والمعارف وأهل البلد، لتصل إلى مئات وآلاف من أماكن مجاورة. يمكن متابعةً قصيرة لحفلات كبها على "يوتيوب"، أن تُظهر صورة جليّة لحجم التفاعل الجماهيريّ، ومشهدًا اجتماعيًّا مدهشًا.

 

ألوان غنائيّة وخطاب وطنيّ

رغم مسيرته الفنّيّة الطويلة، لم يُنتج كبها أغاني خاصّة به، لم يستثمر في التأليف والتلحين، وهذه - في رأيي - الإخفاقة الكبيرة في مشواره الفنّيّ؛ إذ كان من الممكن أن يوظّف طاقته الغنائيّة والأدائيّة وقاعدته الجماهيريّة الواسعة، لتعزيز الأغنية الشعبيّة والوطنيّة المحلّيّة. فضّل كبها الاكتفاء بأداء الأغنية العربيّة بألوانها وألحانها المختلفة، مُضيفًا إليها لمسات وزخرفات خدمت أسلوبه وصوته، منسجمة مع الذوق المحلّيّ؛ الأمر الّذي أسهم في تصاعد انتشاره وشعبيّته.

لم يلتفت كبها إلى "تهميشه" من قِبَل النخب السياسيّة والثقافيّة، وحرص على تقديم الأغنية الوطنيّة في الأعراس والمناسبات، وأمام حشود كبيرة من الناس، وكان ينتهز وجود الحشود ليوجّه خطابًا وطنيًّا وسياسيًّا

في مسيرته الغنائيّة الطويلة، أدّى طيفًا واسعًا من الأغاني العربيّة ولكبار المغنّين العرب، وعمل على تطويع هذه الأغاني لتُلائم سهرات ومجتمعات بيئته المحلّيّة، من حيث وتيرة الأغاني وتسارعها، وإدخال أسلوب المخاطبات للأشخاص والأمكنة. وبدا واضحًا تأثّره بالغناء الشعبيّ المصريّ، وعلى رأسه الفنّان أحمد عدويّة، وبالغناء العراقيّ، موظّفًا قدراته الصوتيّة في التقارب من اللهجات العربيّة لهذين اللونين الغنائيّين.

لم تغب الأغنية الوطنيّة عن عروض كبها وحفلاته، بل كانت حاضرة في معظمها، وفي المقابل كانت شبه غائبة عن المسارح السياسيّة الحزبيّة، وعن المهرجانات الوطنيّة في أراضي 48؛ إذ كان للتيّارات السياسيّة والأطر الثقافيّة دور ما،في رعاية فرق موسيقيّة وفنّانين أدّوا الأغنية الوطنيّة، إلّا أنّها لم تعمل على استضافة كبها ضمن أنشطتها، بصفته أحد أبرز الوجوه الغنائيّة للفلسطينيّين، وفي رأيي فإنّ هذا التغييب ليس صدفة، وإنّما تهميش مقصود يعود إلى الذوق الموسيقيّ المؤدلج، والتصنيفات المناطقيّة والطبقيّة الّتي هيمنت على العمل الحزبيّ والوطنيّ.

لم يلتفت كبها إلى "تهميشه" من قِبَل النخب السياسيّة والثقافيّة، وحرص على تقديم الأغنية الوطنيّة في الأعراس والمناسبات، وأمام حشود كبيرة من الناس، وكان ينتهز وجود الحشود ليوجّه خطابًا وطنيًّا وسياسيًّا، حول وحدة الهمّ والحلم والمعاناة والتوق إلى الحرّيّة، محوّلًا الميدان الغنائيّ إلى تظاهرات للأهازيج الوطنيّة، وسط التصفيق والرقص والدبكة وترديد الأغاني.

أخيرًا، وإن كانت هذه المقالة يمكن أن تصنَّف تحيّةً لمسيرة فنّان شعبيّ، حظي بحبّ مئات الآلاف من الناس، إلّا أنّها حاولت أيضًا أن تطرح مقولة حول ضرورة دراسة الحيّز الّذي تَنشأ فيه الظواهر الغنائيّة، وعن الديناميكيّة الّتي تُسهم في تطوّرها أو إعاقتها، وأن تُثير تساؤلات حول الهامشيّ والمركزيّ في الفضاءات الثقافيّة على أشكالها المتعدّدة، وعن ماهيّة أدوارنا في خلق التصنيفات والأحكام على هذه الفضاءات

وإن كانت هذه المقالة يمكن أن تصنَّف تحيّةً لمسيرة فنّان شعبيّ، حظي بحبّ مئات الآلاف من الناس، إلّا أنّها حاولت أيضًا أن تطرح مقولة حول ضرورة دراسة الحيّز الّذي تَنشأ فيه الظواهر الغنائيّة

قد تختلف الأذواق في حبّ مادّة ما، وقد تختلف الآراء والقراءات لمشهد ما، لكن علينا أن نحذر من أن يؤدّي بنا هذا الاختلاف، إلى تجاهل ظواهر فنّيّة سائدة ومشاهد إبداعيّة رائجة وإخفائها، وأن نحذر من أن يؤدّي بنا الاختلاف إلى الاستخفاف بواقع وحقيقة جاثمة أمام أعيننا؛ علينا أن ننتبه إلى ألّا نغفل توثيق الأدوار والمساهمات في مشهدنا الثقافيّ. من المهمّ دراسة الحيّز بكلّ مكوّناته وتفاعلاته وتناقضاته، ومحاولة فهم الديناميكيّات المعيقة للنهضة، والديناميكيّات المستفزّة لها.

 

 

فايد بدارنة

 

باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.