أن تبقى حيًّا، لا يعني أنّك نجوت

محمّد بكر | عدسة حسام سالم

 

تطاردني هذه الصورة كثيرًا، حين أفتح الفيسبوك تظهر لي في خانة الذكريات، وعلى الإنستغرام إذا نزلتُ في صفحتي قليلًا أراها أمامي، وأراها في أكثر من ملفّ حين أفتّش في جهاز الحاسوب. تطاردني أو أطاردها لا أعرف.

حين يسألني شخص عن الحرب على غزّة، أقول له: انتظر، سأريك صورة لتفهم. وأرفع له صورة محمّد بكر، والد الشهيد إسماعيل بكر (9 سنوات).

حين يستشهد أحدهم، تركض الكاميرات اللعينة إلى أمّ الشهيد، عرفنا البكاء قرينًا للنساء، وكنتُ دائمًا أرى ذلك عيبًا في الرجال لا فيهنّ. الرجال لا يبكون، يتصنّعون القوّة والخشونة، يجلسون في بيوت العزاء لاستقبال الناس، في الصفوف الأولى تجدهم يدخّنون. الرجال لا يبكون، رغم ذلك سوف تجد أيضًا نساءً يزغردن لاستشهاد أبنائهنّ، وهذا غريب، لطالما كان غريبًا حين أفكّر فيه.

قبل عامين تعلّمت البكاء من هذه الصورة. هذا الرجل الذي شقّ ثوبه، وكفر بالكاميرات والأسطورة الرجاليّة، واحتكار النساء للبكاء والحزن. الرجل الذي كاد ينفجر رأسه غضبًا وحزنًا، يطاردني وأطارده. كما طارد ابنه الكرة على الشاطئ، وكما طاردته وأصدقاءه صواريخ الاحتلال.

لا يمكن أن تخرج من الحرب عاديًّا، الأمر ليس بهذه السهولة، أن تبقى حيًّا من بعد موت كان يُوَزَّعُ عشوائيًّا لا يعني أنّك نجوت تمامًا. يوجد الكثير من الأشياء التي علقت بك إلى الأبد؛ مثلًا رجفة يدك وأنت تدخّن وتشاهد الأخبار، ورجفة قلبك عند سماع صوت الطائرة، ورجفة عينك حين تثبت رأسك في اتّجاه عكس اتّجاه الصاروخ، ظانًّا أنّك حين لا تنظر إليه، لا يأتي إليك.

ستظلّ ترتجف إلى الأبد. هكذا توقّفت عن الاتّصال بكثير من الذين أعرفهم في غزّة. بعد أن انتهت الحرب، وتأكّدت أنّهم أحياء، لم يبق ما نتحدّث عنه في هذه الحياة، تهشّم أصدقائي، وتهشّمتُ معهم، وصارت كلّ الأحاديث مجرّد رتوش في حياة عابرة. هل يوجد أيّ معنى لأن أتّصل بواحد منهم وأقول: كيف حالك اليوم؟ سيجيبني: بخير. وكلانا يعرف أنّه يكذب.

ما زلنا في الأوّل من أغسطس، لم أعرف أنّ الحرب ستنتهي بعد أكثر من عشرين يومًا من الآن، قضيت ما يقارب الخمسين يومًا جالسًا على الكرسيّ أدور في الصفحة الرئيسيّة للفيسبوك، أتفقّد صفحات أصدقائي، بينما كانوا يشيرون لصفحات أشخاص لا أعرفهم معلنين استشهادهم، أدخل صفحة الشهيد، أقرأ على روحه الفاتحة، وأغلقها قبل أن أتورّط وأقنع نفسي أنّه أحد أصدقائي.

رماد السجائر يمتدّ من أوّل المكتب إلى لوحة مفاتيح جهاز اللاب توب، سطح المكتب مليء بصور الشهداء والأشلاء والانفجارات، والمتصفّح مفتوح على عشرات المواقع الإخباريّة، وخلفي للمرّة الأولى تلفاز مفتوح على الأخبار، وكانت تلك المرّة الأخيرة التي أشاهد فيها تلفازًا. أمارس العادّة السريّة عدّة مرّات في اليوم الواحد، إلى أن تيبّس جسدي، ومفاصلي صارت لا تقوى على حملي؛ تلك طريقتي الوحيدة لأهزم الأرق وأنام قليلًا.

أتردّد في الاتّصال على أصدقائي، ماذا سأقول لهم؟ لكنّني أتّصل، لأسمعهم وهم يهوّنون عليَ الأمر، بعضهم كان يتصنّع الضحك حين أبدأ بالبكاء، وأمّي تتّفق مع إخوتي أن يتظاهروا بأنّهم بخير، وتقول لي عن نساء الحارة التي ذهبت لزيارتهنّ، محاولة إقناعي أنّ الحياة عاديّة عندهم، ثمّ أصمت ويصمتون ونغلق الخطّ. بعد أن نتفق على أنّهم على قيد الحياة، وأنّنا سنلتقي قريبًا، ونحن نعرف أنّ ذلك لن يحدث.

لا يمكن أن تبقّى كما أنت بعد الحرب، أقصد أنّك لمجرّد البقاء حيًّا؛ لا يعني ذلك أنّك نجوت!