مستلزمات تحويل ملاك إلى إنسان

إسماعيل فتّاح الترك (بورتريه لرجل عارٍ)

 

ينظر في ساعته ويقول:

تأخّر المطر

ثمّ ينظر بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّر المخلّص

ثمّ ينظر بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّر قارئ عدّادات الكهرباء

ثم ينظرُ بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّرت الريح

ثمّ ينظر بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّرت الطيور في العودة إلى أعشاشها

ثمّ ينظر بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّر الربيع

ثمّ ينظر بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّر بائع جِرار الغاز

ثمّ ينظر بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّر الموت

ثمّ ينظر بعد ربعِ ساعةٍ ويقول:

تأخّرت الحياة

كفَّ عن النظر في ساعته، ثمّ بدأ يعبث بأنفه

يُخرج كتل قذارة بحجم الأرض مع أنّ جسده نحيلٌ جدًّا

يدحرجها نَحْوَنا

كلّما سَحَقَتْنا كتلةٌ، ضحك وقال:

لقد تأخّرتم يا أولاد العاهرة.

*

 

في ثلّاجتي ترسانةٌ من الأدوية

لا أعرف إن كان ما في رأسي فراشةٌ أم مصّاص دماء.

لا أعرف الّذي ينحدر على تلال الليل، ربّما قمرٌ وربّما قنديل عزرائيل

لا أعرف إن كان اليوم السبت أو الأحد

لا أعرف إن كنتُ أكره ذاتي أم أحبّها

لا أعرف إن كنتُ قمّة العالم أو قاعه

لا أعرف إن كنتُ شرّيرًا أم طيّبًا

لا أعرف إن كنتُ وردةً أم شوكةً

لا أعرف إن كنتُ جحيمًا أم جنّة

لا أعرف إن كنتُ رأسًا أم ذيلًا

لا أعرف إن كنتُ أتسلّق ذاتي أم أسقط في هاويتي

لا أعرف إن كنتُ ميّتًا أم حيًّا

لا أعرف إن كنتُ أحبّكِ أم أكرهكِ

لا أعرف إن كنتُ وجهًا أم قناعًا

لا أعرف إن كنتُ ملاكًا أم شيطانًا

لا أعرف إن كنتُ جسدًا أم ظلًّا

إلهي هل تعرف أنت؟

*

 

بواخر محمّلة بطيور الشاهنامة

بواخر محمّلة ببرقيّات الموتى، لم تصلْ وجهتها

بواخر محمّلة بسيوف الإلياذة

بواخر محمّلة بجنود الفلفل الأسود

بواخر محمّلة بصواريخ كيوبيد 

بواخر محمّلة بصعاليك الفنّ التشكيليّ

بواخر قادمةٌ من البرزخ محمّلة بجثثٍ محترقة 

بواخر محمّلة بكواكب مستعملة

بواخر محمّلة بريفيّين أغنياء

بواخر محمّلة بالقمل والبعوض

بواخر محمّلة ببظور مقطوعة 

بواخر محمّلة بشعراء النثر

جميعها عالقة في قناة فالوب

بينما بحور الفراهيديّ فارغة.

*

 

أجراس الطين، أصباغ الطين، خطابات الهواء

جدائل البوهيميّين، الحالم بأنداده، سماء الأذى، قشرة الحياة، لبّ الموت، قميص الذاكرة، فستان الألتسهايمر، ليونة المطّاط، قسوة العظام، أنبوب العفاريت، جنادب الجسد، رقبة الوردة، طين الأذى.

- من الركبتين إلى منحر الصدر، كانت تصدح مزامير اللّامعقول.

*

 

الحبّ أن أثبّت قوسَ قزح من طرفه الأيمن وأنتِ من الأيسر.

*

 

عرفت بشرًا

يحضنون أنفسهم آخرَ الليل

يتسكّعون بلا هدفٍ مثل الريح الضجرة بين الجبال

يحاولون إيجاد معنى لهذا الكون

أصوات الطيور عند الفجر تثير فيهم كلّ الأشياء الّتي أضاعوها.

عرفت بشرًا مثل الخميرة في العجين

لا أحد يعترف ببطولتهم.

*

 

سهم إسبارطيّ ضائع منذ حرب طروادة

صباح اليوم استقرّ في كعب قدمي

 نزعتُهُ وواصلتُ الركض إلى دكّان الأقمشة.

*

 

لوحات سلالم الهروب في العمارات

هذه الوحيدة الّتي أتبعها سعيدًا ومغمض العينين.

*

 

فيَّ سعادة غامرة

 قبلتُ وظيفة تفقّد الملاجئ العامّة في المدن.

في طفولتي في الثمانينات، كان لكلمة ملجأ وقعٌ مقدّس في منطقة مشتعلة،

مرّة واحدة رأيت ملجأً عامًّا في مدينة الزرقاء، بابه الأسود المنخفض القديم وأكوام القمامة يشيان بأنّ الكبار يكذبون وبأنّ الحرب نائمة، وفلسطين بعيدة.

*

 

متى رأيتَ فارسًا يحمل جثّة جواده على ظهره فاعلم أنّه يمكنك مغادرة حصنك والخروج إلى العالم.

*

 

أحبّ البلدان ذات البروق العظيمة، نيكاراغوا مثلًا.

ذهبتُ إلى سوق الأنتيكا لأشتري برقًا؛ فليلي طويل شديد الظلمة، وجدت تخفيضات:

(البرق والرعد، اثنان بسعر الواحد)

رفضتُ العرض، لا أحبّ الرعد؛ مفضوح، طعمه شديد الملوحة وله وجه مخبرٍ رخيص.  

*

 

حياتي الداخليّة عبارة عن:

مطر الليل في حقل مهجور

كآبة دبّابةٍ مهجورة

وردةٌ حطّمها المطر

تمثالٌ برونزيُّ فقد بريقه

تمثالٌ حجريٌّ يئنّ تحت أثقال الرخام.

*

 

لآلاف السنين كانت زهور اللوتس تغطّي جثّة توت عنخ آمون.

هذا يكفي لوصف حياتي الداخليّة.

*

 

حتّى المطر نفسه لا يعرف لماذا يسقط

حتّى الغيم نفسه لا يعرف لماذا يسافر

حتّى الريح نفسها لا تعرف لماذا تهبّ.

*

 

بعض الرجال مصنوعون من مطارق،

يحدث أن يحبّوا امرأةً من مطارق أيضًا

فيتحطّم العالم.

*

 

أفتح النافذة كلّ صباح خمس دقائق، ليفرّ القدّيسون والملائكة والأنبياء ورجال الربّ، دائمًا ألاحظ كائنًا غريبًا غامضًا يفرّ معهم، والجميع ينادونه: أسرع يا سيّدي.

*

 

نصفك سماويّ ونصفك دنيويّ

كن حذرًا وإلا انشلعتَ من المنتصف.

*

 

يُخَيّل لي بأنّني مزلاج باب لم يُخلقْ قَطّ.

*

 

وضع ألغامًا حول سريره كي يستطيع

النوم

ليس هذا زمن الأبطال الفرديّين

هذا زمن المعارك الجماعيّة.

*

 

لي طمأنينة مفصل باب من أبواب الجنّة.

*

 

خذني إلى مغسلة الأرواح

روحي معطوبةٌ تحتاج تشحيمًا وتزييتًا

وتغيير فلاتر

خذني إلى ميكانيكيّ الأرواح.

*

 

طوابير من الحزانى على بابي

يدخلون ويتّجهون مباشرةً للشرفة

يلقون بأنفسهم، ينهضون ويأخذون مكانهم في الطابور من جديد

وأنا أعدّ.

*

 

جاري على الشرفة يتأكّد من جفاف ملابسه ويروي نباتاته.

أنا أزيِّتُ مدفعي القديم، منذ أيّام المماليك لم يطلق قذيفة.

في الشوارع الناس ينزّهون كلابهم ويتبضّعون.

*

 

في لحظةٍ خاطفةٍ تسقط الجدران وتشفّ العوالم، فأرى مملكة الموت، تطاردني أشباح القياصرة المغتالين، فأغلق المشهد.

*

 

اشتريتُ معطفًا من البالة

كان لجنديٍّ من المغول

فيه ثقب رمح

في أوقات الملل أمدّ أصابعي في الثقب

وأُخْرِجُ إمبراطوريّةً مهزومة.

*

 

في داخل كلٍّ منّا بطلٌ واحدٌ مقيَّد

مسموحٌ لنا أن نطلقه مرّةً واحدة

للأسف نطلقه في المكان والزمان الخطأ

المرّة الوحيدة الّتي أطلقتُ فيها بطلي

دَلَفَ إلى بيت دعارةٍ مرخَّص.

*

 

نحن بلداتٌ صغيرةٌ في طريق جيوش

لا تنتهي.

*

 

لا يقلقني من سيحبّكِ بعدي

أنا حقل تَبْغٍ، وحقول التبغ لا ينمو فيها شيءٌ غير التبغ ولسنواتٍ طويلة.

*

 

في بركة المساء تتقافز ضفادع ضخمة

على ظهورها فرسان من نحاسٍ بلا رؤوس

تركض خلف الشمس

داسوني في طريقهم.

*

 

تذاكر مقاعد بجانب الحلبة

 

الفراغ يجري في شراييني

نظّمت مباراةً في الملاكمة بين

نيكانور بارا الشاعر المضادّ عن وزن الذبابة

ونيرودا الشاعر اللحّام عن الوزن ما فوق المتوسّط

الحلبة مملوكةٌ لدادا

مدير اللعبة هنري ميلر

الجمهور إدغار ألن بو وغربانه

الحكّام فرناندو بيسوا

الفائز هنري ميشو. 

*

 

لا نزال محظوظين

لدينا قوائم المشتريات من السوبر ماركت

لدينا قططٌ تحبّنا

لدينا خميرةٌ للعجين

لدينا أدويةٌ لمنع الحمل وأدويةٌ لوجع الرأس

لدينا فياجرا

لدينا عقلٌ وقلبٌ وشمعٌ وبطّاريات

لدينا لوحاتٌ على الجدران

لدينا صانعو قوارب مَهَرَة

لدينا آلاتٌ لتنظيف الجِراح وخياطتها

لدينا أحلامٌ لسدّ الشقوق في الذات المتآكلة

لدينا نساءٌ لترميم المشاعر

لدينا سوائل الميتافيزيقيا لإزالة الغبار عن الجسد

لدينا قسطرةٌ لتنظيف مضخّة القلب

لدينا أحذيةٌ لمؤازرة القدمين

لدينا قلمٌ لمعاقبة اليدين

لدينا ملائكةٌ لمعاقبة الشياطين

لدينا مناديل لمسح الدموع

لدينا هدنةٌ لتوبيخ الضمير.

لدينا إله...

 

 

ريحٌ باردةٌ في حظائر أغنام

 

حروبٌ بين الرياح الشماليّة ضدّ الجنوبيّة

الريح الغربيّة القادمة من جهة المتوسّط تخسر مقابل الريح الصحراويّة

الريح الشماليّة الغربيّة خائنة

الريح الشرقيّة الباردة تكنسُ رياح الخَماسين

الريح القادمة من سيبيريا تفتك بالجميع.

*

 

الكلمات نوافذ سجنٍ مفتوحةٌ على ساحة إعدام.

الشعر يتراجع، القبح يتقدّم.

من على مقدّمة مركبه رأى الموانئَ سكرانةً.

بين الكفّين لا يصمد شيء، حتّى الجبال تتفتّت.

لوحاتٌ فنيّةٌ ثمينةٌ وولّاعاتٌ فاخرة، جنبًا إلى جنب.

*

 

للتذكير: طيور الصحافة تترك رائحةً كريهةً خلفَها.

*

 

كم هاوية تحتك؟

أحتفظ بها  في 25 صندوقًا خشبيًّا.

*

 

هل تسمع صوت تقشّر الطلاء عن الجدران القديمة؟

نعم، وأرى رايات غُزاةٍ تخرج من الشقوق.

*

 

بعد مقتل الانتماءات الدينيّة، ماذا حلَّ بالملحد؟ ينصب الفِخاخ لفئران المدينة.

*

 

النهد الّذي تركه نزار قبّاني طفلًا، اليوم وجدته في مركز إيواء العجزة.

*

 

لو دمجنا زرافةً مع شاعرٍ، أيّ كائنٍ نحصل عليه؟

تفّاحة.

*

 

لو دمجنا فيلًا مع زرافة، أيّ كائن نحصل عليه؟

- روائيّ.

*

 

هل التشاؤم فنّ؟

- من العار امتصاص الأمل بواسطة قشّة بلاستيكيّة

*

 

في المدينة المهجورة المدمّرة، بدقّةٍ، يشحذ الجنرال الخنزير أزهار الكرز على المِبْرَد.

*

 

الجدران تبحث عن راتقٍ ماهرٍ كي يسدّ الثقوب فيها، لا أحد يستطيع تحمّل سماع عواء إفريقيا في ليلة الزفاف.

*

 

وكشف الحالمون عن سلسلةٍ من الحملات العسكريّة موجّهةٍ إلى رجلٍ منسيٍّ يحاول إلصاق جزيرةٍ وسط المحيط، الغريب أنّ بلدان أوروبّا الشرقيّة نمتْ على تلك الجزيرة.

*

 

الماء لا يعرفُ شكله الحقيقيّ، ولا حقيقته

لا يعرف إن كان صلبًا أم غازيًّا أم سائلًا

ذلك لا يهمّ، السي آي إيه سوف تحدّد ماهيّته.

 

 

مستلزمات تحويل ملاك إلى إنسان

 

اجعل ملاكًا يشعر بمتعة إخراج كيس زبالة منتصف الليل

خذ ملاكًا عنوةً لزيارة مقبرة

علّم ملائكتك ارتداء الجينز والتنزّه تحت الجسور

علّمها الصفير ومغازلة النساء.

*

 

أقاموا مصانع لتصنيع السعادة

لكنّ رائحة فرن إحراق الموتى في آخر المدينة هي الطاغية.

*

 

أوّل واصل إلى القمر رأى الكثير من خيوط العنكبوت وعلب كوكا كولا فارغة.

*

 

في الفصّ الأيسر من دماغك، وُضِعَتْ عدّة كاميراتٍ لمراقبته.

*

 

عند سدرة المنتهى ضاعت جِمالنا.

 

 

فخري رطروط

 

 

شاعر وفنّان ومترجم فلسطينيّ مقيم في نيكاراغوا، أصدر عددًا من الدوواين الشعريّة، منها «صُنع في الجحيم»، «400 فيل أزرق»، «جنّة المرتزقة»، «البطريق في صيف حارّ»، «نصف كيلو من السعادة»، «تحت جناحي الممزّق».