قفّاء الماء في رواية ’تغريبة القافر‘

غلاف رواية «تغريبة القافر»

 

تغتسل رواية «تغريبة القافر» بالماء، وتجرف معها كلّ السرديّات الّتي تنبت على جوانب المتن الروائيّ ومنه، قبل أن تواصل طريقها نحو البحث عن معجزة اسمها الماء. رواية «تغريبة القافر» (2022)، للكاتب العمانيّ زهران القاسمي، رواية مطعّمة بالصداع، والعطش، والحبّ والوفاء، والشقاء والحاجة، والخرافة والإيمان، والتراب والكلس، والنخيل، والأجداث، والعُري، واليتم، والنقصان والكمال. رواية تجرّب شعور الغربة بدلًا من أن تنقله، وتغرق في تغريبتها السرديّة المتفرّدة.

يخيّم على محيّاها الموت. هكذا اختارت الرواية أن تنبثق لحظتها السرديّة البكر، مفجوعة في شخصيّتها ’مريم‘ الّتي يُذهب صداع رأسها بحياتها؛ لتُنْتَشَل من بئر عميقة جثّة سرديّة لم تنبس حرفًا روائيًّا واحدًا. غير أنّ كرم الحبكة الروائيّة جعل منها حاملًا للشخصيّة الّتي سيدور حولها كلّ السرد، والّتي ستجلس على صدر العنوان اسم فاعل يُذْهِب العطش عن أهل القرية والقرى المجاورة. يحمّله العنصر النحويّ صفة مشبّهة، أمّا نعته فاسم فاعل عجيب لكنّه عميق: القافر.

 

القافر بن مريم

هذا سالم القافر بن مريم آتانا الرواية، وجاء مبشّرًا مباركًا بالماء. يطرد العطش عن الشخصيّات المتساقطة في المتن الروائيّ، ويزيد من عطش القارئ فيغرق في بحر من السرد منثور، ومن الحكي مسجور.

ورثت هذه الشخصيّة عن أمّها الّتي لم ترها مطلقًا اليتم والفرادة؛ فمريم نشأت يتيمة الأمّ، فكان لها ’أمّهات‘ ظهرن فجأة في شكل أسماء عدّدتها الرواية؛ ليعتنين بها خلال مرضها الّذي نبت فجأة أيضًا بين نتوء السطور الأولى للرواية، وأشهر أمّهاتها ’كاذية‘، الّتي كانت أمًّا لابنها بعد أن أعطتها صفة البنوّة الأولى. وورث سالم عنها حسّ الإنصات الدقيق إلى كلّ دبيب فوق الأرض وتحتها، بل تفوّق حدسه عليها. أنصتت هي بعمق إلى خرير الماء؛ إذ وجدت في خلاياه المتدفّقة شفاء لخلايا رأسها المتصدّعة من الألم، إذ "تسمع الهمس فيهدأ الضجيج في رأسها"[1]. بيد أنّ سالمًا استطاع أن يسمع ما لا يُرى، وأن يفجّر أنفاس الماء المحبوسة بين الصخور وتحت الأرض. جاء سالم مثل أسطورة تشفي سغب العطشى من رؤية السراب اللانهائيّ، فـ "ولد عبدالله بن جميل يسمع شيئًا في باطن الأرض"[2].

يحفّ الماء الرواية من كلّ جوانبها، مثل مركب يشقّ عباب السرد، ولا يأبه لعواصف الأحداث الّتي ترمي بها شباك الحبكة الضروريّة...

هكذا يحفّ الماء الرواية من كلّ جوانبها، مثل مركب يشقّ عباب السرد، ولا يأبه لعواصف الأحداث الّتي ترمي بها شباك الحبكة الضروريّة من حين إلى آخر. وهكذا تقشّر هذه الرواية أسلوبًا جديدًا في طرح حساسيّة الإنسان العربيّ أمام الماء، وتعيد بصياغتها الخاصّة جدليّة البحث عنه وخصوصيّته.

يحفّ الماء المحيط بالرواية عناصر كثيرة تشبهه في القسوة - حين البحث عنه - وتبيّن صعوبة الوصول إليه، أو المشقّة المتجشَّمة في أحسن الأحوال: فرائحة الموت أوّل ما ينبعث من مسامّ الماء الطائف بالرواية وبقافرها؛ إذ تنفتح على تفجّع لا يشبه الرسوم القديمة في الوصف النموذجيّ العربيّ في الأدب، لكنّه، ظمِئ مثله إلى سائل نزل من الدموع حزنًا على مريم، قبل أن يسيل من صخور ’الأفلاج‘ الصامتة. ولن يغضّ الموت النظر في الرواية عن شخوص أخرى.

سترافق هذه الثيمة الرواية في كلّ مسارها، كما ترافق جدول الماء المنهمر إلى نهاية السرديّة العمانيّة الّتي وسمها صاحبها بـالتغريبة. ومن الثيمات الّتي ستبعث الدفء في الجسد المائيّ الروائيّ: الحبّ الّذي سيشمّه سالم بن عبدالله كما شمّ من قبل تلك الطريق إلى الماء. ومن عجائب الحبكة أنّ حبّ سالم لنصرا، الّتي اتّبعت طريقة أمّه مريم ليسيل وقت غيابه الطويل عنها، فتحبك الصوف كما كانت مريم تحبك الخيوط من قبل، وهي تنتظر أن يذهب الخواء عن بطنها، وأن يتحرّك فيه ماء طفل.

إنّ قدرة هذا المتن السرديّ على الترابط تشبه متانة حبال المركب الّذي يشدّ بطن السفينة إلى المرسى؛ حبال من الخيوط المطرّزة بيدَي مريم، وحبال من الصوف مغزولة بيدَي نصرا؛ حبال يبلّها الماء الّذي يبحث عنه سالم فلا تفتر ولا تتفتّت، بل تشدّ وثاق الجسد السرديّ الروائيّ في رحلة سالم الطويلة: إنّها حكاية قافر يسافر دائما في باطن الأرض. سفر تحت الأرض لا عليها. والحبّ في هذه الرواية كما الماء مخبوء ودفين؛ فلا نكاد نسمع صوت سالم يتحدّث عن حبّه لنصرا. بالكاد نستمع دبيب مصطلحات تنبع كقطرات الماء؛ ليفهم القارئ اصطفاء البطل الروائيّ لنصرا: "كما ينفجر الماء من قلب الحجر، ويسري الينبوع منحدرًا برقّته ناداه الحبّ"[3]، "يرتوي بابتسامتها (...) ظلّت ابتسامتها تزوره في منامه (...) مثل سكون الينابيع في قلب الحجر[4]. تحمل نصرا بهذا المعنى الماء الزلال لسالم، وتمسي نصرا بهذا المعنى أيضًا هي نصره الوحيد الّذي ظفر به، فسلِم من لسان الناس، ومن يدهم و... عيونهم.

 

اللغة، الأسطورة، الخرافة

يحفّ ماء الرواية الفقر الّذي سيرتوي به سالم وراثةً بادئ الأمر - عن أبيه - ثمّ خيارًا منه على الغنى الزائف. كأنّ الماء جعله متصوّفًا يؤثر القلّة المطمئنّة على الغنى المتحوّل. ولعلّه من آيات الارتواء في هذه الرواية أنّها تسقي بديع الجناس فتحبك رابطًا وثيقًا بين مادّتَي (ق، ف، ر) الّتي تميّز شخصيّتها الرئيسيّة و(ف، ق، ر) الّتي وسمت بها عفّة الأب ثمّ ابنه. قافر فقير وفقير قافر، وربطت من قبل جناسًا ينثال سلسًا بين مفردتَي ’قناة الماء‘ الّتي يبحث عنها سالم ليرتوي أهل القرية، وبين فتاة الأحلام الّتي بحث عنها ولد عبدالله سالم ليرتوي من ابتسامتها. قناة أو فتاة، نقطة واحدة تطعّم المعنى، لكنّها على الحالين تسقيه فيشتدّ عوده وينمو.

الخرافات الّتي تفحّ من الموروث الشعبيّ الثقافيّ العُمانيّ، تطفو على سطح الرواية لتطعّم المشهد السرديّ. كما فسائل النخيل والكلمات اللهجيّة العُمانيّة...

لم تحفل هذه السرديّة بحضور نَفَس الأسطورة فيها، ولا ببخور الخرافة الّذي يحرق رموش القرّاء كما رموش الشخوص المبثوثة في أوراد الرواية. ليس بالضرورة أن تحضر بينيلوب الإغريقيّة لتوحي بنبوءة ابن الغريقة كما سمّى الناس سالمًا قبل أن يذهب عنهم عطشهم. لقد غرقوا في مائه، ولم تغرق الرواية في الأسطورة. ليست الخيوط في هذه الرواية خيوط أسطورة بل خيوط سرد خالص.

أمّا الخرافات الّتي تفحّ من الموروث الشعبيّ الثقافيّ العمانيّ، فتطفو على سطح الرواية لتطعّم المشهد السرديّ. كما فسائل النخيل والكلمات اللهجيّة العمانيّة المبثوثة بين تموّجات الرواية، أو كما رائحة البخور المنبعثة من مبخرة كاذية تطرد عن سالم طالع السوء، خاصّة أنّه صاحب موهبة عجيبة في اكتشاف خلايا الماء العصيّة عن الجميع حوله.

 

الموروث العمانيّ

يشقّ القارئ بعيونه عباب «تغريبة القافر»، فيكتشف الموروث العمانيّ الثقافيّ والحضاريّ الّذي لا نعرف عنه الشيء الكثير مقارنة بثقافات عربيّة أخرى. لم نكتشف فقط حضور ديكور سرديّ مؤثّث من كلمات لازمة لا تفارق المتن الروائيّ، من قبيل: الحفر والفلج والفسيل والبخور والعين والجنّ. مولّدات سرديّة تغذّي السيرورة السرديّة، وتوجّه صيرورة الحدث السرديّ عبر المخيال الشعبيّ الّذي يحتضن المتن الروائيّ.

والحبكة في هذه الرواية - على قدر ما تبدو بسيطة - يفحّ منها المكر في أحيان كثيرة، فمن ثنايا القصّ المنهمر مثل السيل الجارف نعرف قصّة الوعري الدراميّة بالمعنى التراجيديّ، الّذي نفرته أمّه ونبذته بعد أن أصابه المسّ، فصدّقت جنونه حتّى قفر بعيدًا، وانتبذ مكانًا قصيًّا وحده كأنّه وحش سرديّ كاسر، قدره  العزلة السرديّة الكبيرة لا يُظهر إلّا عنقاء تُخرج الميّت من الماء، ويحفر في الصخر مع سالم عند اشتداد الأزمة على بني جلدته، الّذين ينكرونه دائمًا غريبًا هو الآخر، مثل سالم في ثمود.

ونعرف في ما نعرف أيضًا أنّ الحبّ خفق في قلب الوعري، وفي قلب كاذية. مرّ الخبر سريعًا في طيّ الرواية ليلًا، حين سرت إليه كاذية تطلب العون، ولم يطل الحديث عن قصّتهما كأنّ السرد يخاف على كاذية من انتشار الحكاية أكثر منها.

 

من اليائس إلى القافر

يبدو المشهد الأخير الّذي عاشته الرواية على امتداد صفحات، مشهدًا دراميًّا داميًا؛ فسالم يستعيد صفة القافر بعد أن كان اليائس، ويقرّر أن يشقّ غمار تجربة جديدة؛ علّه يفجّر ينابيع الماء في أرض قفر مجاورة، بعد أن وصله دليل منها يطب عونه. لقد حبس الفلج سالمًا بين صخوره، وفجّ رأسه، وجرح يديه حتّى أكل الدود جراحه. رحلة سرديّة قصيرة لهثت فيها صفحات الرواية الأخيرة، وحبست أنفاسها وهي تشاهد سالمًا يعيش تجربة الانتخاب الطبيعيّ. يتحايل ليبقى حيًّا وسط الغبار الخانق الّذي يقلّص نسبة الهواء النظيف، ويتحايل على الدود لئلّا يقرص جراحه فتندمل. يأكل ما تصل إليه يداه من حشرات. إنّه الإنسان السرديّ الأوّل الّذي يعود إلى أصل الخلق وإلى مشيمة الأرض - الأمّ. داخلها يحيا ويعبث بالماء كأنّه يستعيد صورته في بطن مريم داخل البئر.

هذا المشهد يمكن أن يُقْرَأ رحمًا يحمل جنينًا داخله، كما يمكن أن نراه حبسًا من الكلس يجعل سالمًا سجينًا سرديًّا داخله. كأنّ صخور الفلج تعاقبه على البحث عن الماء؛ عن تجشّمه مشقّة إنقاذ الأرواح السرديّة المشرئبّة أعناقها خارج عنق الرحم السرديّ، تنتظر الماء أو أيّ أثر منه، كالثرى المبلّل بعد حفر طويل: "ويا للغرابة بعد أن كان حرًّا يبحث عن ذلك الصوت ونفسه معلّقة به، أصبح مسجونًا بين جدران قناة حجريّة في مكان لا يُسْمَع فيه صوت ولا همس، سوى ذلك الخرير"[5].

تحبّ هذه الرواية أن تمشي على اثنين: ثنائيّات تمشي جسمًا سرديًّا واحدًا: ثنائيّة الموت والحياة، وثنائيّة العطش والارتواء...

تستطيع رواية «تغريبة القافر» أن تقلب صيرورتها بمعول سرديّ واحد، كما يقلب عبدالله تراب الأرض بمعوله البدائيّ. من السجن إلى الحرّيّة يعاود سالم الخروج، رغم أنّ الخاتمة السرديّة تبقى مغبرّة؛ فلا نعرف نجاته الحقيقيّة من عدمها. ومن تجربة الفرار من رحم أمّه الميّتة إلى تجربة الفرار من رحم الصخرة اليابسة. كان عليه أن يتحدّى مثل كاذية بنت غانم فتوى الموت، المنبعثة من شيخ القرية الّذي رأى وأده حيًّا، وأن ينبعث من ظلام الفلج المتحجّر حيًّا.

تحبّ هذه الرواية أن تمشي على اثنين: ثنائيّات تمشي جسمًا سرديًّا واحدًا: ثنائيّة الموت والحياة، وثنائيّة العطش والارتواء، وثنائيّة الحبيبة الأرض والحبيبة الأنثى، وسواها. ويشهق السرد عندما يحبس القارئ أنفاسه وهو ينتظر النهاية، الّتي لا تجيء واضحة عن الشخصيّة الّتي فجّرت الماء، في كلّ المتن، فسرى في عروق الحجر والبشر.

وحده الأمل الّذي اختار له الكاتب أن يخيّم، على نحو مفتوح، على ما تبقّى من بياض لم يرشّ عليه زهران القاسمي ماء السرد، وحده الأمل مَنْ يشمّ خيوط السرد الدفينة الّتي سيغزلها القارئ، كلّ قارئ، وأيّ قارئ لهذا المتن ليحتمل التأويل ماء العينين ما أمكنه، كأنّه قربة الماء الموعودة للسابلة. وتدلق النهاية الماء وراء سالم؛ لنراه سالمًا في كلّ قراءة قادمة. إنّها تغريبة بنكهة نون الجماعة. تسحب الكلّ من الكلّ، وتجرّدنا أمام انتخاب السرد الطبيعيّ: قافرين عطشى لمتون تروي أرضًا من تراب، وتروي أراضي من السرد.

 


إحالات

[1] زهران القاسمي، تغريبة القافر (السعوديّة: دار رشم للنشر والتوزيع، 2022)، ص 26.

[2] مرجع سابق، ص 73.

[3] مرجع سابق، ص 135.

[4] مرجع سابق، ص 142.

[5] مرجع سابق، 188 – 189.

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراة، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.