«مِلْك Milk» ... ملحمة الأمومة

من مسرحيّة «مِلْك» | تصوير: Christophe Raynaud de Lage, Eid Adawi, Khulood Basel

 

«مِلْك Milk» هي مسرحيّة صامتة، من كتابة بشار مرقص لـ «مسرح خشبة»، وعُرِضت للمرّة الأولى في «مهرجان أفنيون» في فرنسا. تروي المسرحيّة قصّة خمس نساء ثكالى، يعبّرن عن أحزانهنّ بطرق فريدة ومختلفة، مصحوبة بموسيقى ملحميّة؛ ممّا يزيد من تأثيرها العاطفيّ وتعبير صورها المرئيّة. تظهر طوال المسرحيّة إشارات إلى الرسومات الفنّيّة الدينيّة، الّتي تعرض صور العذراء الأمّ والمسيح، إلى جانب المجازيّات الميثولوجيّة اليونانيّة المتكرّرة، مضيفة بشموليّتها طبقات من المعنى والرمزيّة. تواصل المسرحيّة عرض اللحظات الملحميّة المؤثّرة والعاطفيّة؛ إذ تموت أُمّ في أثناء ولادتها، ويكافح المولود الجديد للانفصال عنها، إلى جانب محاولة قلب أدوار الأمومة والبنوّة. «مِلْك Milk» هي عمل مسرحيّ فنّيّ مؤثّر، وغنيّ، ومثير للتفكير في قضايا الأسى والحزن والأمومة، وبخاصّة في سيزيفيّة الفقدان.

 

من Milk إلى مِلْك

عنوان المسرحيّة «مِلْك Milk» يأتي في العربيّة والإنجليزيّة معًا، محاكيًا اللغتين وما يشمله المعنيان لذات الصوت الفونولوجيّ. Milk الإنجليزيّة تعرض الحليب عنصرًا مركزيًّا يرافق المسرحيّة من مشهدها الأوّل حتّى الأخير، ويعرض بأوضح صورة علاقة الأمّ بمولودها الرضيع؛ العلاقة الثديويّة التغذويّة، الّتي فيها يعيش المولود مستندًا بشكل حصريّ على جسد أمّه. ومِلْك العربيّة تعرض مفارقة المُلكيّة الطاغوتيّة المقدّسة في علاقة الأمّ بابنها. كلا المفهومين سوف يرافقاننا طيلة المسرحيّة.

تروي المسرحيّة قصّة خمس نساء يمارسن طقوسهنّ الخاصّة للتكيّف مع الفقدان الّذي أفقدهنّ ضناهنّ وصوابهنّ، من خلال مداعبة دمًى بديلة لأجساد الأبناء أو البنات الضائعة...

تروي المسرحيّة، بموسيقاها الملحميّة، قصّة خمس نساء يمارسن طقوسهنّ الخاصّة للتكيّف مع الفقدان الّذي أفقدهنّ ضناهنّ وصوابهنّ، من خلال مداعبة دمًى بديلة لأجساد الأبناء أو البنات الضائعة. تتمثّل إحدى نقاط القوّة في المسرحيّة بالطريقة الّتي تصوّر بها الطقوس الفرديّة، وآليّات تكيّف الأمّهات الخمس مع الفقدان. إذ تُعْطَى كلّ شخصيّة تصويرًا فريدًا ودقيقًا؛ فيُضيف العمق والتعقيد إلى التصوير العامّ للحزن، لكن بدقّة البناء لكلّ شخصيّة؛ فمنهنّ مَنْ كانت تداعب الدمية (ريم تلحمي)، وتدغدغها (سلوى نقّارة)، وأخرى تلاعبها (سماء وكيم)، وتتقمّصها (فريال الجعبة)، وغيرها تواصل تقبيلها (سميرة قادري)، وكلّهنّ يؤدّين هذه الطقوس بتكراريّة معيقة تثقل الكاهل، ولا تكفيه من جماليّة تصويرها على خشبة المسرح. هذه التكراريّة السيزيفيّة للطقوس الفرديّة تتعدّى حدود فردانيّة النساء، وتخلق جماعيّة مشتركة لهنّ ليتحوّلن إلى جسم واحد يشترك في بناء أرضيّة المسرح، المكوّنة من ألواح مطاطيّة وهدمها، كما يتشاركن الأسى.

في مرحلة معيّنة تبني النساء تلّة عشوائيّة الارتفاع من الألواح المطّاطيّة، وتعتليها لتصنع صورة فقدان تراجيديّة. في نهاية هذا المشهد، كما في نهاية كلّ مشهد في المسرحيّة، تتجمّع النساء لتأخذ صورة وتتجمّد للحظة لتتحوّل إلى لوحة فنّيّة، ترسم الذهول على وجه الجمهور الّذي يرتبك فجأة، عندما يفهم أنّه أمام لوحة في متحف، بدلًا عن مشهد في مسرح. هذا المشهد ينتهي بلوحة مصوّرة تحاكي لوحة كارافاجيو «The Entombment of Christ».

تتلاشى هذه اللوحة بظهور مفاجئ لامرأة سادسة (شادن قنبورة)، تحمل تحت ملابسها جسدًا آخر يتمثّل ببطن حامل. تنزل المرأة من التلّة على خلفيّة موسيقى ملحميّة وضباب يغطّي المسرح، تحمل في بطنها رضيعًا، وعلى ظهرها سلّة مليئة بالأشتال؛ لتقدّمها للأمّهات الخمس اللواتي يزرعنها في جثث أبنائهنّ الملقاة على الأرض. هذا المشهد كان أحد أبرز المشاهد في المسرحيّة؛ كونه حاكى عشرات الصور والمشاهد الأرخيتيبيّة لآلهات الخصوبة على مدار التاريخ. فجأة شاهدت على المسرح حضورًا مقدّسًا لعشتار والعُزّة وأفروديت وإيليثيا وديمتر في لحظة واحدة، وكلّها معًا تحمل الطبيعة والخصوبة والولادة والتجديد على بطنها وظهرها في آن واحد. إتيان آلهات الخصوبة هذه بالأشتال والرضيع معها، حوّل المسرحيّة بشكل لحظيّ، من تراجيديّة فقدان إلى ملهاة خصوبة زرعت الأرض بأشتال وفتحت الأفق من جديد.

 

تفّاحة هيرا ورمّانة بيرسيفون

لكنّ هذا التجديد لا يستمرّ طويلًا، بل ينتقل إلى عرض لوحة جديدة فيها تستلقي الأمّ بين النساء الثكالى، بعد أن وزّعت عليهنّ الرمّان ليأكلنه. تجمّع النساء على التلّة وصنع اللوحة الجديدة يولّد سياقات مجازيّة يونانيّة جديدة للملحمة المعروضة على المسرح، فيها تبدو النساء وكأنّهنّ حوريّات أو هيسبيريديس، بنات أطلس، المعروفات باسم حارسات التفّاح. حديقة الهيسبيريديس معروفة بالأساطير اليونانيّة مثل حديقة مِلك للآلهة اليونانيّة هيرا، حيث تنمو فيها شجرة التفّاح الذهبيّ الّذي يعطي مَنْ يأكله حياة أبديّة، والهيسبيريديس هنّ حارسات هذا التفّاح. تصوير النساء يأكلن الرمّان في المسرحيّة، يأخذنا مجدّدًا إلى هيرا، الّتي تتميّز في الرمّان ورمزيّته للخصوبة والحياة والموت في ذات الوقت. لكن، ثمّة مقولة أكبر وأبرز في اختيار الرمّان تكمن في قصّة بيرسيفون.

تحكي الأسطورة اليونانيّة أنّ هادس، ملك العالم السفليّ، عالم الموتى، كان قد اختطف بيرسيفون من والدتها ديميتر، وتزوّجها في عالم الموتى. حزنت ديميتر كثيرًا وازداد أساها وحنينها إلى ابنتها، حتّى أهملت الأرض، ومنعت عنها منّة الخصوبة، فتوقّفت الأخيرة عن الثمار. عندها تدخّل زيوس وأرسل رسوله هيرميس إلى هادس؛ مطالبًا إيّاه بردّ بيرسيفون إلى أمّها. يستجيب هادس لطلب زيوس، ويعيد بيرسيفون إلى أمّها، لكنّه يقدّم لها هديّة وداع قبل مغادرتها، وهي القليل من بذور الرمّان. يكفي هذا العدد القليل من ثمار العالم السفليّ لأسر بيرسيفون في اشتياق إليه إلى الأبد. وهكذا، تصبح مثل المدمنة على زيارة العالم السفليّ، وملكه، لبضعة أشهر كلّ عام.

أكْل النساء الثكالى من الرمّان، وضحكهنّ ومتعتهنّ في أكله، المتمثّلة بمرح سلوى نقّارة وضحكاتها الطفوليّة في المشهد، تعبّر بأفضل صورة عن حاجة الأمّ الثكلى لزيارة أساها وألمها على ما فقدت، دون أيّ منفذ للخلاص من الفقدان أو الشوق. بما معناه؛ حضور الأمّ الحامل (شادن قنبورة)، كآلهة الخصوبة، إلى المسرح، جالبة الرمّان الملغوم بإدمان الشوق، لم يحوّل المسرحيّة إلى ملهاة حقيقيّة، بل زاد عمق تراجيديّتها من تراجيديا آنيّة متكرّرة إلى تراجيديا أزليّة.

قصّة ديميتر وبيرسيفون في الميثولوجيا اليونانيّة، تأتينا كأسطورة لتفسير منطقيّة انقطاع خصوبة الطبيعة وتبريرها في فصل الشتاء والخريف، كون بيرسيفون تزور العالم السفليّ في هذه الفترة، وديميتر تحزن وتشتاق إلى ابنتها، فتُهمل وظيفتها وعلاقتها بالطبيعة. في ملحمة مرقص، تغلق الأمّ الحامل ستارة شفّافة بعد أكل الرمّان، وتستقبل فصل الشتاء من خلال إنجاب رضيعها، في خلفيّة اشتداد مطر من الحليب. إغلاق الستارة، رغم شفافيّتها، يمثّل نشاطًا عكسيًّا لكسر الجدار الرابع في عالم المسرح، ربّما يمكننا تسميته ’مضاعفة الجدار الرابع‘، أو حتّى بنائه؛ حيث تصنع الأمّ غشاء يفصلنا عن خشبة المسرح، وكأنّها تسعى إلى خلق حيّز خاصّ لها، تتمكّن فيه من الولادة، تحديدًا تحت مطر الحليب، وخاصّة في فصل الشتاء المتخيّل على خشبة المسرح.

 

«مِلْك Milk»، لبشّار مرقص (2023).

 

بعد الولادة المؤلمة، تفارقنا الأمّ الحامل، وتلد جسدًا عاريًا (إيدي ضو)، يصارع الحياة منذ ولادته، ويحاول نزع نفسه عن جسد الأمّ. جسد المولود العاري يواصل المحاكاة اليونانيّة بتمثيل هِرَقليّ، في عضلات مفتولة يزداد بروزها بسبب الحليب الّذي يملأ المسرح. يبدأ المولود بنزع الألواح المطّاطيّة عن الأرض، بينما يتزحلق مرّة تلو الأخرى في بركة الحليب الّتي صنعها المطر والأمّهات الثكالى. محاولات المولود البائسة لنقل الألواح من مكانها، وبناء تلّة جديدة ممّا تبقّى منها، تستمرّ وقتًا طويلًا على المسرح، ووقوعه وانزلاقه مرارًا وتكرارًا، يحاكي قصّة سيزيف وعمله المتكرّر الأبديّ في دفع الصخرة. موت الأمّ بعد الولادة، يحوّل المولود إلى يتيم يصارع عقاب الآلهة؛ فيُعيد الأمّهات الثكالى إلى خشبة المسرح، بمحاولة بائسة منهنّ لحمل اليتيم واستبدال ما فقدن بأنفسهنّ به.

وهكذا تبدأ المسرحيّة مجدّدًا بالعودة إلى بدايتها، من خلال عرض محاولة النساء الثكالى باستعادة أبنائهنّ من خلال ذات الطقوس الفرديّة والجماعيّة. لا يتمكّن جسد المولود اليتيم من سدّ حاجات كلّ الأمّهات فيبدأ بنفسه بالنزف. وهنا، تتصدّع الصورة للمرّة الأخيرة على المسرح، وبدلًا من الحليب الّذي شهدناه منذ المشهد الأوّل، من أثداء النساء الثكالى وحتّى المطر، ينزف اليتيم دمًا، ويتحوّل بنفسه إلى مسيح يحمل خطايا الجميع بدمه الأحمر البارز. ظهور الدم الأحمر كان صادمًا في هذا المشهد؛ لأنّه لم يُحاكِ لغة المسرحيّة، بل يصادمها ويخلق بذلك مفارقتها الملحميّة. رغم مركزيّة النساء فيها، لم تُظهر المسرحيّة الدم تمثيلًا للنساء، لا في دم حيض ولا في دم ولادة، بل في نزف المسيح المخلّص، المولود اليتيم.

 

مأساة الحليب، ملهاة المِلْك

لا تقتصر المحاكاة في المسرحيّة على الميثولوجيا اليونانيّة، بل تحمل عشرات الرمزيّات الأخرى الّتي يمكننا تقصّيها؛ فمثلًا خلال العرض تذكّرت قصيدة «أمّ لابنها» للشاعر الأمريكيّ لانغستون هيوز، الّتي يقول فيها على لسان الأمّ: "لم تكن الحياة بالنسبة إليّ سلّمًا من البلّور... كانت الأماكن جرداء، لا فراش على الأرض، لكنّي أتسلّق طوال الوقت، وأسبر أغوار الزوايا، وأحيانًا أتيه في الظلام... حيث لا مكان للضياء؛ لأنّي، يا عزيزي، دائمة التسلّق...". وبالفعل، كما في المسرحيّة، نجد الأمّهات الثكالى يواجهن الأماكن الجرداء؛ محاولةً سقيها بحليب مُثقِل للأثداء دون حضور رضيع للحصول عليه. نجدهنّ يحاولن التسلّق ومواجهة التيه، لأنّ المسرح خالٍ من سلالم البلّور.

الأمّ الثكلى في السياق الفلسطينيّ ترمز عادةً إلى أمّ الشهيد، الّتي تتحوّل في لحظة واحدة من أمّ إلى أمّ شهيد، تحمل عبء الفقد طيلة حياتها...

لكن يوجد سياق آخر في المسرحيّة متمثّل بممثّلاتها ومؤلّفها وعرضها، وهو السياق الفلسطينيّ الّذي لا بدّ من ذكره، ولا يمكن تجاهله. الأمّ الثكلى في السياق الفلسطينيّ السياسيّ، ترمز عادةً إلى أمّ الشهيد، الّتي تتحوّل في لحظة واحدة من أمّ إلى أمّ شهيد، تحمل عبء الفقد طيلة حياتها؛ إذ تخوض الشوق الديميتريّ الأزليّ. لكن كذلك كلّ أمّ ثكلى أخرى؛ ففقد الضنى لا يتغيّر بحقٍّ تبعًا لمصدر الفقد في نفسيّة الأمّ، بل فقط في نفس المجتمع المحيط. السياق الفلسطينيّ في «مِلْك Milk» يُضيف إلينا محاكاة أخرى، وهي قصيدة الشاعر محمود درويش «مأساة النرجس، ملهاة الفضّة» (1989)، الّتي لا تقلّ ملحميّة عن مسرحيّة مرقص. جاءت هذه القصيدة احتفاءً بـ «انتفاضة الحجارة» (1987-1992)، وعرضت الأرض متمكّنة من استمراريّة إنبات الزهور من الصخر، كما يحدث في المسرحيّة عند إنبات الشتائل في قلوب الجثث المتخيّلة للشهداء. لكنّ المحاكاة هذه لا تنتهي في فكرة الإنبات من الصخر، بل في الانتقال بين المأساة والملهاة، وتداخلهما في السياق الفلسطينيّ لسؤال الأمومة، وسؤال التضحية والشهادة، فيقول درويش:

"كانوا يعيدون الحكاية من نهايتها إلى زمن الفكاهةْ

 قد تدخل المأساة في الملهاة يومًا

 قد تدخل الملهاة في المأساة يومًا...

 في نَرْجس المأساة كانوا يسخرونْ

 من فضّة الملهاة، كانوا يسألون ويسألون:

 ماذا سنحلم حين نعلم أنّ مريم امرأَةْ؟".

 

سياق ذكر السيّدة مريم العذراء هنا، هو ذاته السياق الّذي تطرّق إليه مرقص في حضور الأمّ الحامل، وفي سياق لوحة كارافاجيو، وحتّى في تصوير المولود كالمسيح المخلّص. هو سياق الأمّ الثكلى الّتي تحمل عبئًا لا يقلّ ثقلًا عن الخطايا الّتي يحملها المسيح بنفسه. يواصل درويش هذه الفكرة في قصيدته قائلًا:

"ما كان كان، ومازح الأَزواج زوجات الجنازات:

 انتهينا من دموع النادبات، الراقصات، الباكياتْ

 نروي، إذن، ركضَ القلوب مع الخيول إلى هبوب الذكرياتْ

 نروي صمود هِرَقْل في دمه الأَخير، وفي جنون الأمّهاتْ".

 

وفي هذه الأبيات نجد روعة ورهبة ملحميّة «مِلْك Milk»، ومحاكاتها العميقة لثقل الأسى والفقدان الأسطوريّ اليونانيّ؛ من خلال تجسيد الفقد الفلسطينيّ والعالميّ في ذات الوقت.

ربّما كانت مسرحيّة «مِلْك Milk» صامتة بممثّلاتها، لكنّها كانت صارخة بمأساتها وتعبيرها عنها. خمس أمّهات ثكالى، وآلهة خصوبة، ومولود يتيم، تمكّنوا من عرض مسرحيّ مثير، يحثّ ويحفّز الاستكشاف العاطفيّ العميق للحزن والفقد والأمومة.

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».