سيزيف الهارب من ’الهوتة‘

الفنّان عامر حليحل، من مسرحيّة «الهوتة» (2023)

 

لم أعهد الجمهور صامتًا بعد عرض مسرحيّ كما عهدته في عرض مسرحيّة «الهوتة» من تأليف وتمثيل الفنّان الفلسطينيّ عامر حليحل. كانت وجوه الجمهور مليئة بخوف مبهم من الحرب الّتي لمست قلوبنا، وفتحت فينا جروحًا عشناها في سنوات مختلفة، وفي كلّ مرّة كان يُسَمّى فيها اسم حرب، كانت قلوبنا تهوي أعمق في ’الهوتة‘.

الهوتة هي الكهف العموديّ الّذي يقع في مكان ما من هذا العالم، ويمكن التفكير فيه كمجاز يحكي سقوطنا في الأفكار المظلمة، في صور القادة السفّاحين، في الكلام الّذي يسحرنا، في الشخصيّات الهادئة خلف الشخصيّات الدمويّة خلف تقلّب الآراء والأهواء، في الانجرار وراء ملذّات غريبة، في انغماسنا بأفعال لا تشبهنا والتحوّل إلى أشخاص وشخصيّات مختلفة حسب المكان والزمان وتغيّر الخلّان؛ فقوّة الحرب أقوى من الإرادة، حيث تصبح محكومًا بأيادٍ عليا تتحكّم في مصيرك، فلا نعرف مَنْ القاتل أم المقتول، الضحيّة أم المضحّي.

 

سيزيف الهارب

تحكي المسرحيّة، كما تأتي في الوصف الدعائيّ، "قصّة باسل، من لحظة قراره بجيل 15 سنة أن ينزل ’الهوتة‘ الّتي كان يُعْتقَد أنّ الغولة تسكنها. تتقدّم المسرحيّة نحو أيّام الثورة الّتي تحوّلت إلى انقسام جرّ المواجهات الّتي أتت بالحرب. إنّها رحلة سيزيفيّة لرجل هارب من الحرب". لكنّ المسرحيّة أكثر من مجرّد عمل يحكي قصّة رجل ’هارب‘ من الحرب، بل هي انغماسه وتحوّله إلى آلة فيها دون أن يعرف كيف أخذته إلى هناك أو لماذا أصبح جزءًا منها. تأخذنا المسرحيّة برفقة الرجل في رحلة إلى أماكن لم نفكّر مرّة بمدى عمقها إلّا عندما سقطنا في مساحاتها الّتي تزداد أفقيّة، ودون قاع واضح.

سقط الجمهور في الهوتة عندما سقط باسل (عامر حليحل) في المرّتين، مرّة ضَحِكَ، ومرّة بَكى. كان بطلًا في الأولى، وضحيّة في الثانية، وبين الاثنتين، ركض الجمهور معه، يلهث ويتعرّق، يشمّ رائحة الموت وبصاق الرجال والبراز المنتشر في غرف التعذيب، يسير بين الجثث ويرى الأحياء الأموات يشتبكون في المعارك، يتعاطف مع ليلى حبيبة باسل وزكي صاحب نظّارات كعب الكندرة، ويشعر بخوف من كفّ المحقّق، وقرف من الفرّوج المحمّر، وحبّ للأمّهات التعبات، وكره للأمير الجالس في خيمة، واشتياق إلى الإخوة الأصغر، وضعف أمام الرصاصات الثلاث الّتي قتلت صديقًا.

 

الفنّان عامر حليحل، من مسرحيّة «الهوتة» في «مسرح سرد» (2023).

 

أَبْدَعَ حليحل في استخدام أدواته التمثيليّة في المونولوج، وهو ليس أمرًا سهلًا؛ إذ يبدو لنا ممكنًا عندما يكون الممثّل متمكّنًا، وهذا المونولوج ليس الأوّل لحليحل، فكما جسّد طه محمّد عليّ في مسرحيّته «طه»، تمكّن ببراعة من التنقّل في شخصيّات مختلفة في «الهوتة»، من زميله في الدراسة إلى زهرة الفتاة الّتي عبّرت له عن حبّها، إلى أمّه الّتي توبّخه، وصاحب الدكّان المجاور، حتّى أخيه الأصغر. هكذا حتّى أبدع في تمثيل حوار بينه وبين الشيخ، في تنقّل عظيم وتعابير وجه تختلف كلّ ثانيتين، ولحظات قاتلة وشدّ أعصاب حتّى إطلاق الرصاصات، فلم يعرف الجمهور أكان هو مَنْ أطلقها أم هو الأمير مَنْ فعل، لكنّ الجمهور يُؤْخَذ بهذا الكمّ من التناقض بين الشخصيّتين، والثالثة الّتي تقف على بُعْد أمتار تتلقّى الحديث بعينين مبحلقتين، هما ذاتهما عيون الجمهور الّذي تابع المشهد، وتحسّس رأسه من خوف أنّ الرصاصات وصلت إليه أيضًا.

 

ركض مستمرّ

أجّجت الموسيقى الّتي اختارتها سمر كينغ حدّاد العرض بطبول الحرب الّتي تمشي بالمفترّجين في متاهات طويلة، وفي كلّ مرّة كانت تهبط فيها الإضاءة كانت تعلو فيه الطبول، وتعتّم فيه القلوب أكثر.

كان حليحل يسمّي عددًا من الحروب في كلّ مرّة، لا يُفْهَم معناها حتّى تقدّمت المسرحيّة في الوقت؛ فمنذ البداية حتّى الثلث الأوّل، كان الجمهور يضحك على قصص مراهق أحبّ فتاة في المدرسة، وكنت أقول لنفسي: "ما دخل حرب فيتنام؟". مع الثلثين الآخَرين يتبيّن أنّ الحرب القائمة على المسرح تشبه في تفاصيلها هذه الحروب.

منذ البداية حتّى الثلث الأوّل، كان الجمهور يضحك على قصص مراهق أحبّ فتاة في المدرسة، وكنت أقول لنفسي: "ما دخل حرب فيتنام؟"...

أمّا الأغاني الّتي رافقت باسلًا مع عدد من الشخصيّات، فبدت غريبة عن الجوّ العامّ، إذ فيها الكثير من الحنّيّة والحبّ والرقّة الّتي لا تناسب أجواء الحرب المشحونة، وهذا لا يعني أنّها لم تناسب العمل، بل كانت سببًا لإطراء الجوّ العبق برائحة الدم وأزيز الرصاص؛ فعندما غنّى والد زوجته أغنية «بتونّس بيك» وهما في السيّارة لجبي الضرائب، عُدْتُ في الذاكرة إلى سيّارة والدي ونحن نستمع إلى ذات الأغنية في الطريق إلى يافا من القدس في صيف عام 2000، بينما كان باسل وحماه يمرّان بسيّارتهما أمام مظاهرة، ويقول له حماه: "ما دخلنا، إحنا بدنا نعيش". أعادت تلك العبارة صورة والدي وهو يوبّخنا: "شو بودّينا على يافا هلّأ؟ شو بدنا نعمل إذا صار انفجار؟".

ورغم أنّ ’باسل‘ (عامر حليحل) أراد أن يعيش كما أراد لنا والدي أن نعيش، كُتِب له شيء آخر، فاستمرّ يركض في الجمهور من مكان إلى مكان، ومن هوّة إلى أخرى، ومن حرب إلى ثورة إلى انتفاضة، عبر شخصيّات متعدّدة تحوّل فيها من شارب خمر إلى نائم في خيمة أمير، من دشداشة بيضاء إلى بدلة عسكريّة ولون ملابس (كاكي)، كلّه فوق ديكور بسيط بشالٍ أبيض طويل غطّى به المسرح، وسيول تفجّرت عيون دم سالت مع أوّل طلقة في أوّل مظاهرة، وظلّت تسيل مع رصاصة فجّرت رأس ’انتحاريّ‘، وسيّارة طارت مع التفجير، وصالون تحوّل إلى فتات، ووجه أخ لم يُعْرَفْ إن مات. هناك حيث أدّى حليحل في متر مربّع دوره، دون أن يبدّل لو مرّة ثيابه، وغرق وأغرق الجمهور حيث بدا مبلّلًا بعرقه، وحقيقةً مبلّلًا بهول كلّ ما حصل، وحلمه بوطن آمن سقط من أجله كثيرون.

 

مجازات الحرب

لم أختبر الحرب مرّة بشكل مباشر، لكنّ أبي خبّرني كثيرًا عن حرب عام 1967، وقد عاشها شابًّا ابن ستّ عشرة سنة، دُعِي فيها ليكون مع الشباب المدافعين عن القدس، ولولا وقوف والده في وجهه لكان، ربّما، واحدًا من شهدائها. عندما أحضر جارهم في الشارع الفوقانيّ سلاحًا لجدّي صرخ في وجهه: "أنت ومَنْ معك مجانين، ألا ترى كيف أنّ السلاح صدِئ وقديم؟ طلقة واحدة، ثمّ تحتاج إلى أن تسحب (الفشك)، وبين سحبة وأخرى تكون قد أُصِبْتَ بكلّ سهولة". رفض جدّي الانضمام، ومنع أبناءه، وفي اللحظة الّتي كُشِف فيها مكان إطلاق النار من بيت الجيران في حيّ وادي الجوز، كانت قذيفة مدفعيّة واحدة كافية لتدمّر غرفتين من البيت، ويستشهد مَنْ فيه من مقاومين.  

الحرب، أهليّة أو نوويّة، أو بين دولتين، أو بين مُسْتَعْمِر وشعب مُسْتَعْمَر، أو ما نخوضه كلّ يوم (...) ستأخذ منّا كلّ شيء نحبّه، كالسيل الّذي يأتي بعد شتوة طويلة...

الحرب، أهليّة أو نوويّة، أو بين دولتين، أو بين مُسْتَعْمِر وشعب مُسْتَعْمَر، أو ما نخوضه كلّ يوم أو أيًّا كان اسمها أو شكلها، ستأخذ منّا كلّ شيء نحبّه، كالسيل الّذي يأتي بعد شتوة طويلة، ننتظر وقوفه من طرف، وينتظر الطرف الآخر منّا أن نوقفه بسدّ، لكنّه جرفنا وجرف في طريقه أنفسنا الّتي تدمّرت ودمّرت الآخرين، فأخذت حبّنا لحفظ الشعر، ومناكفة أولاد الصفّ، وصفعة أمّنا الخائفة علينا، وابنٍ لم نره ولا نعرف أرَأى هو النور أم سقط مع مَنْ سقط في الجورة، وليست أيّ جورة، بل الجورة بـ أل التعريف، أي الهوتة.

 

عمل عالميّ 

انتهت المسرحيّة وحليحل يرفع يديه عاليًا، وينظر إلى الأعلى، وكذلك فعل الجمهور الّذي استغرق في النظر من دواخله بعد أن سقط الجميع كلٌّ في ’هوتته‘، وقد أرهقته الحروب الخارجيّة والداخليّة، بينما نخسر كلّ يوم من أنفسنا، ونضيع في ملاحقة شريط الأخبار العاجل، وشهداء نحاول جاهدين ألّا ننسى أسماءهم. تمكّن المخرج أمير الزعبي من معرفة كيف يحوّل إبداع الممثّل عامر حليحل إلى عمل لن يُنْسى، فبعد نهاية الجولة الأولى للمسرحيّة، الّتي عُرِضت في عدد من المدن الفلسطينيّة، نحن الآن أمام عمل عالميّ يصلح للعرض في كلّ مكان وكل لغة اخْتَبَرَتْ الحرب، حربًا سابقة وحاليّة، وحتّى القادمة منها.

 


 

الهوتة

تأليف وتمثيل: عامر حليحل | إخراج وتصميم: أمير نزار زعبي | موسيقى: سمر كينغ حدّاد | تصميم إضاء: معاذ الجعبة.

 


 

ميّ كالوتي

 

 

 

حاصلة على الماجستير في «الإعلام الحديث» من «معهد الإعلام الأردنيّ». عَمِلَتْ مُراسلة لـ «صحيفة القدس» ومنسّقة إعلاميّة في العديد من المؤسّسات الثقافيّة. صَدَرَ لها كتاب «هاملت لا تشرب السمّ» (2011).