عن احتلال الحواسّ وتشويهها

بلعين | الضفّة الغربيّة

 

"المدن رائحة: عكّا رائحة اليود البحريّ والبهارات. حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة". قادني التأمّل في ذاكرة الرائحة عند محمود درويش في ديوانه «في حضرة الغياب» إلى تتبّع خارطة الرائحة الفلسطينيّة والذاكرة الشمّيّة، الّتي تأثّرت منذ النكبة بعمليّات التهجير والنفي القسريّ، فحملت في طيّاتها لغة شمّيّة جمعيّة خاصّة بها، أصبحت مشتركة بين الفلسطينيّين داخل حدود فلسطين التاريخيّة وخارجها، بدءًا من رائحة الشهادة وليس انتهاء برائحة برتقال يافا.

سأبيّن في هذا المقال كيف يمكن قراءة حاسّة الشمّ في سياق الاستعمار الاستيطانيّ؛ بالارتكاز على دراسة نادرة شلهوب «احتلال الحواسّ»[1] الّتي وثّقت فيها التقنيّات الحسّيّة الّتي تدير الصوت، واللغة، والشمّ، والبصر، والزمان والمكان، في المستعمرة؛ للكشف عن الطرق الّتي يستخدم بها المستعمِر المنبّهات الحسّيّة لغزو عالم المستعمَر. وذلك باستنادها على جماليّات علم الإجرام الّتي نظرت إليها بطريقة مغايرة؛ إذ تطرّقت مناهج علم الإجرام السائدة إلى دراسة الجريمة بين الأشخاص، مثل ضبط الجريمة والإرهاب والخوف منهما، وارتباطاتها الأخرى بمفاهيم المنع والعقاب. أمّا شلهوب فبحثت في مجال تُجُوهل في علم الإجرام، وهو الجماليّات العنفيّة أو الإجرام ضدّ الحواسّ، مثل الفنّ والجرافيتي، والاستعراضات والموسيقى والإعلانات.

علم الإجرام الجماليّ هو الجرائم الّتي لم تُعرَّف بموجب القانون الرسميّ على أنّها جرائم، وقد لا تنطوي بالضرورة على جرائم مباشرة يمكن أن يُقال إنّها عنف جسديّ، مع ذلك فهي تشكّل جزءًا من الجهاز الإجراميّ للدولة الاستعماريّة الاستيطانيّة...

التطلّع المغاير في هذا المقال يكمن في الشبك بين احتلال الحواسّ وفنّ التشويه، وعلم النفس، والأعصاب، والفلسفة. للبرهنة على ضرورة اجتياز النظرة التقليديّة لعلاقات الهيمنة والسيطرة الّتي لا تقتصر على احتلال الأراضي، وبناء الجدران ونقاط التفتيش، وإنّما تطال الوسائل الحسّيّة المتجسّدة وآليّة نقشها للألم على جسد المستعمَر وحياته. علم الإجرام الجماليّ[2] هو الجرائم الّتي لم تُعرَّف بموجب القانون الرسميّ على أنّها جرائم، وقد لا تنطوي بالضرورة على جرائم مباشرة يمكن أن يُقال إنّها عنف جسديّ، مع ذلك فهي تشكّل جزءًا من الجهاز الإجراميّ للدولة الاستعماريّة الاستيطانيّة.

أشير في هذا المقال إلى ثلاثة أنماط لتشويه النظام الشمّيّ الفلسطينيّ: الأوّل، استخدام الرائحة في سياق استبداليّ يستهدف الحياة اليوميّة، مثل القرى، والمدن، والبحر ... إلخ. الثاني، استخدامها في سياق قمعيّ للتظاهرات غير العنفيّة، أمّا الثالث فيوضّح استخدامها في سياق الإقصاء والفصل العنصريّ، بحيث تصبح أداة من الأدوات السياسيّة ورأس مال خفيّ لتعزيز هيمنة الدولة. ختامًا، سأحاول الوقوف على الآليّات الّتي يقاوم بها الفلسطينيّ إجرام الاحتلال ضدّ حاسّة الشمّ.

 

ذاكرة الرائحة ضابطة للشعور واللغة

التشريح العصبيّ لذاكرة حاسّة الشمّ يدلّ على أنّ القشرة الشمّيّة الأوّليّة على ارتباط مباشر مع مجمع اللوزة ’الحصين‘ في الجهاز الحوفيّ. في ما تفصل نقطتان فقط من نقاط الاشتباك العصبيّ بين حاسّة الشمّ وعصب من اللوزة، وهذا أمر غاية في الأهمّيّة للتعبير عن العاطفة وتجربتها. كما أنّ ثلاثة مشابك عصبيّة فقط تفصل العصب الشمّيّ عن الحُصين، وتشارك في نقل المعلومات في الذاكرة العاملة على المديين القصير والطويل. يُجري الجهاز الحسّيّ اتّصالًا مباشرًا ومكثّفًا مع الركائز العصبيّة للعاطفة والذاكرة، وهو ما يفسّر سبب قوّة الذكريات الّتي تثيرها الرائحة عاطفيًّا بشكل غير عاديّ[3]. المعلومات الحسّيّة تُوجَّه من البصلة الشمّيّة "منطقة في الجهاز العصبيّ المركزيّ، تعالج المعلومات الحسّيّة من الأنف"، إلى المناطق القشريّة من الدماغ؛ فالمعالجة الشمّيّة ذات المستوى الأساسيّ مثل اكتشاف الرائحة وتمييزها والاحتفاظ البسيط بها، تحدث في القشرة الشمّيّة الأوّليّة وليس على المستويات القشريّة الأعلى.

على نحو أكثر تبسيطًا: نظام الشمّ على اتّصال مباشر بالعاطفة والذكريات؛ لأنّ البصلة الشمّيّة هي جزء من الجهاز الحوفيّ المرتبط بالذاكرة والعواطف، ممّا يجعل حضور الذكريات واستعادتها قويًّا إذا ارتبطت وقت حدوثها برائحة معيّنة. صحيح أنّ الشمّ من أبطأ الأحاسيس لدينا[4]، إلّا أنّ الإحساس بالرائحة يستمرّ على نحو أطول من أيّ إحساس آخر.

بعد النظر في علاقة نظام الشمّ بالذاكرة، سأستعرض النمط الأوّل من أنماط انتهاكه، ما أسمّيه بالاستبداليّ القائم على احتلال ذاكرة الروائح الطبيعيّة والبديهيّة في الحياة اليوميّة[5]. ظهر منذ النكبة 1948 حتّى اليوم، ونلمسه في التقييد اللاخطّيّ للمشاعر المستعادة بالرائحة. يتمثّل في تبعيّة المناظر الطبيعيّة والمدن والقرى المحتلّة، بحيث تصبح رائحة جميلة مثل رائحة البحر، أو القرى المهجَّرة في الداخل المحتلّ تدليلًا على هيمنة الدولة الاستعماريّة، لا بحرمانها الفلسطينيّ القادم إليها زائرًا من رائحة أماكنه القديمة فحسب، بل استحواذها على شعوره حال استنشاقها، وهو من أبسط الأنماط وأكثرها تعقيدًا من وجهة نظري؛ لأنّه مخفيّ تمامًا، ويبدو بعيدًا عن تبعات المنظومة الاستعماريّة، لكنّ هذا النوع من إخفاء ملكيّة الرائحة، وجعل حضورها جزءًا من الدولة المستعمِرة يمثّل شقًّا أساسيًّا من عمليّات ضبط الشعور[6] والرقابة الاجتماعيّة؛ إذ يطال أحاسيسَ الفرد دون وجود عنف ظاهر تجاهها.

نظام الشمّ على اتّصال مباشر بالعاطفة والذكريات؛ لأنّ البصلة الشمّيّة هي جزء من الجهاز الحوفيّ المرتبط بالذاكرة والعواطف، ممّا يجعل حضور الذكريات واستعادتها قويًّا إذا ارتبطت وقت حدوثها برائحة معيّنة...

أثّر النمط الاستبداليّ أيضًا في علاقة المنظومة اللغويّة بالروائح، دافعًا الفلسطينيّ إلى تشكيل تاريخ ذاكرة شمّيّة خاصّة به بشقَّيها الجميل والقبيح؛ فرائحة البحر ورائحة الموت يمكن فهمهما رمزيًّا حتّى لحظة غيابهما الفعليّ؛ إذ يملك كلٌّ منهما فرادة سياقيّة وجمعيّة تتنافى مع التعريف الطبيعيّ لهما، في دولة غير مستعمَرة لم يُسلَب بحرها، ولم تُستهدَف بالرصاص والصواريخ. 

 

فنّ التشويه بالاشمئزاز

بدءًا من جماليّات الفنّ النيتشويّة، الّتي تُظهِر القوّة بوصفها جمالًا ونزوحًا عن كلّ ما هو قبيح؛ لاعتباره انحطاطًا وتدليلًا على الانحلال[7]، خاصّة الرائحة واللون حتّى في حالتهما الرمزيّة، وتضمينه للأنف كإدراك متجسّد: "عبقريّتي تكمن في أنفي"، وصولًا إلى الاشمئزاز الفرويديّ في دراساته عن الجنس، وربط الحضارة بترتيب النظام الجسديّ، وزيادة الوعي بالاشمئزاز[8] الّذي أصبح جزءًا لا يتجزّأ من النظام الأخلاقيّ، والاجتماعيّ، والسياسيّ، كأن تُشعرنا سوائل الجسد بالقرف لأنّها تذكّرنا بحدود الجسد وإمكانيّة فقدان السيطرة عليه. يستبيح المستعمِر جسد الفلسطينيّ في النمط الثاني القمعيّ، متمثّلًا في رشق الفلسطينيّين بالمياه العادمة، الّتي كانت تجاربها الأوّليّة في عام 2008 في منطقة نعلين، ضمن المظاهرات المندّدة بالجدار العازل، في ما ابتكر أهالي نعلين طرقًا لتجنّب المياه كالستر الواقية، وأكياس القمامة، وخلط الصابون بالملح والاستحمام به. كما تولّت الطائرة المُسيَّرة ’شوكو‘ قصف المتظاهرين في مظاهرات غزّة على السياج الفاصل بأكياس مشابهة، وظهرت مركبات المياه العادمة مرّة أخرى في القدس في عام 2014، ولاحظناها أيضًا في مظاهرات الشيخ جرّاح 2021.

يقوم هذا النمط على جماليّات إجراميّة بحتة، ويصل بين الجسد والحسّ النيتشويّ، تاركًا بصمة اشمئزازيّة فرويديًّة؛ فيبدو الفلسطينيّ بعيدًا كلّ البعد عن مفاهيم الحضارة، وكأنّه صاحب هويّة هلاميّة منزوعة من سياقها الثقافيّ الوطنيّ. هذا الاستهداف الشمّيّ لا يقتصر على انتهاك الحقّ في تنفّس هواء نقيّ، وخلق سرديّات رائحة نستنشقها بوضوح في كتابة من شهدوا الحدث: "كأنّ القاذورات تخترق أرجاء الجسد، تقتحم الأنفاس ... تطاردني الرائحة، تلتصق بملابسي"[9]. بل ينتهك أيضًا المادّة الثالثة من «اتّفاقيّة جنيف» الّتي "تحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنيّة والكرامة الشخصيّة"؛ فهي تخربش على الجسد داخليًّا وخارجيًّا؛ إذ تُسبّب المياه شعورًا بالغثيان، وألمًا للعينين، وتهيّجًا في الجلد، وابتلاعها يُسبّب آلامًا في المعدة. تختلف المياه العادمة المستخدَمة لقمع المتظاهرين عن غيرها من الأسلحة؛ فالظاهر أنّها لا تقتل أو تترك علّة مباشرة وواضحة على الجسد الفلسطينيّ، إلّا أنّ آثارها ملموسة داخليًّا وشعوريًّا، ولا تزال غير مدروسة بيولوجيًّا على المدى البعيد. فضلًا على قتلها الاقتصاد المقدسيّ لأسبوع على الأقلّ؛ لأنّها تطال المباني والبيوت والمحالّ التجاريّة. وتحتوي على مثبّتات رائحة؛ فتصبح بهذه الطريقة رأس مال عسكريًّا رخيصًا، تستخدمه الدولة لهدم رأس المال الفلسطينيّ وعرقلته.

 

السلطة الرمزيّة والذوات الشبحيّة

تفرض إسرائيل منظومة معيّنة من الروائح المستخدمة كآليّة من آليّات الاشتغال الخفيّ للسلطة الحيويّة، وتوظّفها في عمليّات الفصل العنصريّ. وهذا هو النمط الثالث القائم على ملاحظتي الشخصيّة عند زيارتي لبعض الأماكن السياحيّة في الداخل المحتلّ أو القدس. تبدو المناطق مفصولة ’شمّيًّا‘ مثل أماكن الانتظار أو المرافق العامّة الخاصّة بالفلسطينيّين وتلك الخاصّة بالإسرائيليين. أرادَ الاحتلال أن يُظهر للعالم سماحه للفلسطينيّ الدخول إلى المناطق المحتلّة، خاصّة تلك الّتي يوجد فيها الإسرائيليّون، دون وضع حدود تفصل على نحو مرئيّ بينهم. لكنّ الأمر لا يقتصر على الحقّ في احتكار الرائحة وتوزيعها وتصنيفها، إنّما يطال الطريقة الّتي ينظر بها الإسرائيليّ إلى الفلسطينيّ على أنّه آخر غير إنسانيّ؛ فيصبح وجود الرائحة سببًا لتغييبه[10] ونزع الصفات البشريّة عنه؛ بربطه بمفاهيم القذارة كما جادلت جوليا كريستيفا[11].

الفصل الشمّيّ لا يقتصر على المناطق السياحيّة، بل قد يكون مرئيًّا على مستوى القرى والمدن الفلسطينيّة، والطرقات الواصلة بينها مثل وادي النار، وهو ما ناقشته صوفيا روبينزر في كتابها «حصار النفايات»...

نلاحظ أيضًا أنّ الفصل الشمّيّ لا يقتصر على المناطق السياحيّة، بل قد يكون مرئيًّا على مستوى القرى والمدن الفلسطينيّة، والطرقات الواصلة بينها مثل وادي النار، وهو ما ناقشته صوفيا روبينزر في كتابها «حصار النفايات». تُطوِّق إسرائيل البنى التحتيّة الفلسطينيّة، وتُلقي بقضاياها على عاتق السلطة الفلسطينيّة[12] متنصِّلة من مسؤوليّتها عن إيجاد الحلول، أو حتّى وقف مياه الصرف الصحّيّ القادمة من المستوطنات. 

إنّ اختراق نظام الشمّ، والتحكّم في ذكريات الفلسطينيّ عن الروائح، وتوظيفها في القمع، والإقصاء والفصل العنصريّ، يقابلها محاولات مستميتة للمقاومة، سواء بالحفاظ على المرجعيّات الأصليّة للرائحة رمزيًّا بتوثيقها نثريًّا وشعريًّا، كما لدى درويش وكنفاني ومريد البرغوثي وحسين البرغوثي وغيرهم الكثير؛ أو بفرضها على المستعمِر جزءًا من الهويّة الفلسطينيّة كالكعك المقدسيّ. في ما يبقى إشعال الإطارات المطّاطيّة جزءًا لا يتجزّأ من تاريخ المقاومة الشعبيّة، الّتي تستخدم هندسة الانفعال والإدراك المتجسّد كسياسة لرفض الاستيطان، مثل ما حدث في تظاهرات جبل صبيح[13]. في هذه الحالة، تصبح مقاومة فرض البنى الشمّيّة والقدرة على تمييزها جزءًا من الكفاح اليوميّ الداخليّ.  

 


إحالات

[1] Shalhoub-Kevorkian, N. (2017). The occupation of the senses: The prosthetic and aesthetic of state terror. British Journal of Criminology, 57(6), 1279-1300.

[2]   Ibid, 1, 1282.

[3] Herz, R. S., & Engen, T. (1996). Odor memory: Review and analysis. Psychonomic Bulletin & Review, 3(3), 300-303.

[4] Ibid, 3, 301.  

[5] ناقش ميشيل دي سارتو سلطة التفاصيل الصغيرة في كتابه «ابتكار الحياة اليوميّة: فنون الأداء العمليّ»، ترجمة: محمّد شوقي الزين (بيروت: الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2011).

[6] Jones, R. D., Robinson, J., & Turner, J. (2012). Introduction. Between absence and presence: Geographies of hiding, invisibility and silence. Space and Polity, 16 (3), 257.‏

[7] فريدريك نيتشه، غسق الأوثان أو كيف نتعاطى الفلسفة قرعًا بالمطرقة. ترجمة: علي مصباح (بيروت: منشورات الجمل، 2010)، 120-121. 

[8] Arya, R. (2017). Abjection interrogated: Uncovering the relation between abjection and disgust. Journal of Extreme Anthropology, 1(1), 55.

[9] Ibid, 6, 258-260. 

[10] Ibid, 8, 48-52.

[11] Clarno, A. (2021). Waste Siege: The Life of Infrastructure in Palestine: by Sophia Stamatopoulou-Robbins. Stanford, CA: Stanford University Press, 2019.

 


 

دنيا الطيّب

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مواليد مدينة بيت لحم عام 1999، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت»، وصدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.