«رام الله آرت فير»... تنمية ثقافيّة وشبابيّة

للفنّان الإسبانيّ غارسيا، من معرض «رام الله آرت فير»

 

في مقدّمة مقال «مشكلة المكان الفنّيّ»، يتحدّث الناقد يوري لوتمان عن أنّ المكان يشكّل أفكارًا وتصوّرات، بناء على المعاني الدلاليّة والفنّيّة الّتي يُنتجها؛ أي أنّ المكان مكوّن ذاكراتيّ، ينتج هويّات مختلفة، تدلّل على ’قيمته‘، وأهمّيّة وجوده في ذلك الحيّز؛ فلا مكان من دون هويّة، تحدّد معالمه، وتفسّر علاقته بساكنيه، أو المقيمين فيه.

عندما زرت معرض «رام الله آرت فير»، لامست ذلك المعنى من المدخل الرئيسيّ، حيث عبارة مكتوبة على حجر رخاميّ "منزل الفنّان نبيل عناني"؛ أي أنّني كنت أمام مكان مُفْعَم بسرديّات تاريخيّة حديثة، تشكّلت في اللوحات الّتي رسمها عناني في مرسمه، الّذي يطلّ على جزء مهمّ من أطراف مدينة رام الله.

إنّ اختيار نجل الفنّان عناني مرسم والده ليكون معرضًا فنّيًّا تَلاحم دلاليّ، يحافظ على الإرث الفنّيّ الّذي بدأه نبيل عناني في هذا المكان؛ أي أنّه تعبير ’غير مباشر‘ عن أنّ الفنّ البصريّ، بأنواعه، عنصر من عناصر إعادة الحياة أو استمراريّتها في المكان. ولعلّ فكرة ’التعاقبيّة‘، واستضافة الفنّانين الآخرين لمجاورة أعمال الفنّان الفلسطينيّ، من الأفكار المحوريّة لهذا المعرض. وهذا ما نلاحظه في رسالة القائمين عليه، الّذين يقولون، وباستمرار، إنّ المعرض "يهدف إلى عرض أعمال فنّانين شباب لم تُعْرَض أعمالهم من قبل"، ومجاورة تلك الأعمال بأعمال فنّانين كبار، مثل سليمان منصور وتيسير بركات وعبد عابدي وغيرهم، لتحقيق تقارب فنّيّ بين القيم الفنّيّة المختلفة.

 

محاولة لتنمية معرفيّة اقتصاديّة

يحتوي المعرض على ما يقارب مئتَي عمل فنّيّ لأربعين فنّانًا، معظمهم من الفنّانين الشباب، الّذين يعرضون أعمالهم لأوّل مرّة، وتتّسم الأعمال المعروضة باختلاف أفكارها، وتنوّع مدارسها الفنّيّة، بالإضافة إلى أنّ معظمها يمثّل أجزاء من الوقائع الّتي يعيشها العالم اليوم. واللافت أنّ المعرض بنسخته الحاليّة، النسخة الثالثة، يتميّز بتعدّد جنسيّات الفنّانين؛ إذ لم يقتصر على فنّانين فلسطينيّين أو عرب فقط، بل ضمّ أعمالًا لفنّانين من ألمانيا وإسبانيا وغيرهما من الدول الغربيّة الأخرى، وهذا ما جعل موضوعات الأعمال الفنّيّة مختلفة، ومتنوّعة، ومنسجمة والرؤى الفنّيّة الشائعة في أيّامنا هذه.

من المقاربات الرئيسيّة الّتي يهدف إليها المعرض، أيضًا، تعريف المتلقّين على أسماء جديدة، وأفكار مطروحة بطرق مختلفة، بالإضافة إلى التشجيع على ’اقتناء‘ العمل الفنّيّ، بشرائه، وبالتالي المساعدة في تحفيز الرأسمال الثقافيّ؛ ففكرة المعرض الفنّيّ، أيّ معرض، مثل باقي الفنون الأخرى، العمل على زيادة التنمية المعرفيّة والاقتصاديّة أيضًا.

 

المعرض الافتراضيّ من «رام الله آرت فير» 

 

أشار إلى هذا المعنى – وبالتفصيل - الموسيقيّ الأوغنديّ باتريك كاباندا في كتابه «الثروة الإبداعيّة للأمم (هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية إلى الأمام؟)»؛ حيث يتحدّث عن طرق التنمية الثقافيّة في دولة ما، الّتي تتحقّق "من خلال توليد نشاط اقتصاديّ مباشر، عن طريق العروض وتبادل السلع والخدمات الثقافيّة، ومن خلال قدرة الفنون على تحرير الخيال الإنسانيّ أو تشجيعه، وعن طريق غرس التضامن والشمول والتعاون داخل المجتمع"[1].

تُصَنَّف المعارض الفنّيّة، بأنواعها، جزءًا من ذلك النشاط الاقتصاديّ الثقافيّ، الّذي يؤدّي دورًا مهمًّا ومباشرًا وغير مباشر في ’التنمية الثقافيّة‘ في المجتمع، ولا يتحقّق ذلك إلّا، كما قال كاباندا، بالتعاون بين القيّمين والمتلقّين؛ فالمعارض فضاءات تواصليّة، تجمع ’المتذوّقين‘ وتشجّعهم على اقتناء الأعمال المعروضة. وحال تحقّق فعل الاقتناء، فإنّ تبادليّة العلاقة بين الاقتصاد والثقافة تتحقّق مباشرة، وكما قيل في القول المأثور: "حيث تقود الثقافة؛ فإنّ التجارة تتبعها"[2].

عزّز معرض «رام الله آرت فير» هذه التنمية أيضًا بتوظيف تقنيّة ’المعرض الافتراضيّ‘، الّذي يؤدّي دورًا محوريًّا في جذب أكبر عدد ممكن من الزوّار المهتمّين من داخل فلسطين أو خارجها، وبالتالي، المساهمة في نشر الأعمال المعروضة، والتعريف بها لأكبر عدد ممكن منهم.

 

بين الانتقائيّة والتنوّع

لا يتحقّق فعل التنمية إلّا بتوفير أعمال ’مقنعة‘، تتّسم بقيم فنّيّة لافتة، تميّزها من غيرها من الأعمال الأخرى. وقد حاول القائمون على المعرض توفير أعمال تتضمّن معاني تتناسب والسياق الزمنيّ الحاليّ، وذلك باستحضار أسماء وطرائق فنّيّة مختلفة عن النسخ السابقة، في سبيل التخلّص من قاعدة أنّ الفنّ من الكماليّات، وأنّه ترف، بل هو "إضافة لطيفة وممتعة"، كما يقول كاباندا، يعزّز ثقافة المجتمع، ويحافظ على إرثها، ويتوافق وحالة التطوّر الّتي يعيشها. بالتالي، فإنّ فكرة ’العرض الفنّيّ‘ لفنّانين شباب، تمثّل الخطوة الأولى للتنمية الشبابيّة، وتطوير مهاراتهم، ودعمهم، وإظهار أنّ نتاجهم الفنّيّ ذو قيمة استثنائيّة، يميّزهم من غيرهم من الفنّانين الآخرين.

 

للفنّان تيسير بركات من المعرض الافتراضيّ في «رام الله آرت فير»

 

في الطابق العلويّ من المعرض، وهو المكان المركزيّ الّذي تُعْرَض فيه الأعمال، ثمّة الانتقائيّة العالية الّتي لجأ إليها القائمون عليه؛ حيث اللوحات التجريديّة، والواقعيّة، والصور الفوتوغرافيّة، والرسم المعاصر، والمنحوتات المتنوّعة... إلخ. يتميّز كلّ عمل من غيره بتقنيّة رسمه أو تقنيّة إعداده، والجمع بين هذه الفنون جميعها، ولأسماءٍ معظمها ربّما غير معروف بالنسبة إلى الكثيرين، عمل يستحقّ المتابعة، والقراءة بتأنٍّ أيضًا.

 

الصورة الذاكرة

من الأعمال اللافتة في المعرض الصور الفوتوغرافيّة، الّتي تتّسم بدلالاتها البصريّة العميقة، الّتي تعكس كلّ حركة في داخلها فكرة رمزيّة لن تتكرّر إلّا في ’اللقطة‘ الّتي سيقوم بها المصوّر؛ فما تعيد إنتاجه الصورة، كما يقول رولان بارت، "لم يحدث سوى مرّة واحدة، فهي تُكَرَّر آليًّا ما لم يَعُد بإمكانه قطّ أن يكرّر نفسه وجوديًّا"[3].

من هذه الصور، على سبيل المثال، مجموعة الفنّانة الفلسطينيّة الفوتوغرافيّة غادة حسنين، الّتي عُرِض لها أربع صور موحّدة في "وجهة الكاميرا"، حيث تمركزت لقطاتها الفنّيّة على سيقان الأشجار وأغصانها، مقتصرة تلك اللقطات على الأشجار الّتي تشكّل، بطبيعتها، شكلًا لافتًا، ويستحقّ ’الحفظ الرقميّ‘؛ فإذا تغيّر الشكل مع الطبيعة، فقد حُفِظ ولمرّة واحدة داخل الكاميرا ليشكّل فعل الحفظ ذاك ’قيمة فنّيّة‘ تعكس قدرة المصوّر على اقتباس الجمال من الطبيعة، ومن المحيط الّذي يعيش فيه. ويرتبط فعل التصوير بتكوين الذاكرة، أي بتحويل الشيء المصوَّر إلى ’ذاكرة‘. وقد أشارت إلى هذا المعنى الناقدة سوزان سونتاغ، في قولها: "إنّ الصور المتواصلة بدون توقّف (التلفزيون والفيديو والأفلام) تحيط بنا، لكن عندما يتعلّق الأمر بالتذكّر، فإنّ الصورة لها الأثر الأعمق؛ فالذاكرة تجمّد الصور، ووحدتها الأساسيّة هي الصورة المنفردة".

 

المعرض الافتراضيّ من «رام الله آرت فير» 

 

ينطبق فعل التصوير هذا على عمل الفوتوغرافيّ اللبنانيّ ضياء مراد، الّذي جمع في لقطة واحدة صورتين اثنتين، مثّل من خلالهما دمارين مختلفين: دمار الحرب على غزّة، ودمار بيروت بعد انفجار عام 2020، والمكوّن المشترك بين الصورتين تحطّم الإطار. تحمل هذه الصورة أثرها الدلاليّ العميق بالنسبة إلى المتلقّي، في طريقة التقاطها، وتكوينها بهذا الشكل، إذ يُعْتبَران مكوّنًا إبداعيًّا للمصوّر نفسه.

 

تقتنيّات الفنّ التشكيليّ 

أمّا اللوحات التشكيليّة المعروضة فتميّزت هي الأخرى بتقنيّاتها التصويريّة، وتطبيقاتها اللونيّة، إضافة إلى موضوعاتها المتعدّدة. من هذه اللوحات رسومات الفنّانة الفلسطينيّة رغدة زيتون، الّتي مثّلت معظم أعمالها القرية الفلسطينيّة، وذلك عبر تخيّل المرأة الفلسطينيّة، وتجسيد لباسها، وعلاقتها بغيرها من النسوة داخل ذلك الفضاء المحدود، الّذي يكوّن علاقات اجتماعيّة استثنائيّة بين النساء تحديدًا، ويظهر ذلك في ’تلاصق‘ أجساد النساء في أعمالها، والنظرات التقابليّة في ما بينهنّ. ومن التقنيّات اللافتة في المعرض تلك الّتي ظهرت في لوحة «يأس» للفنّان الفلسطينيّ منذر جوابرة، الّذي وظّف التقنيّة ’التجميعيّة‘ لعمل لوحة تشكيليّة يصوّر من خلالها الإنسان المنكسر، المتألّم، اليائس، وتجلّى ذلك في ’حركة الشخصيّتين‘ الممثّلتين؛ حيث إمالة الرأس، وتذبيل العيون.

هذه نماذج من عدد كبير من الأعمال الفنّيّة الموجودة في صالة «غاليري زاوية»، ويمكن اعتبارها نموذجًا حكائيًّا للحديث عن القيمة التنمويّة الثقافيّة والفنّيّة لمعرض «رام الله آرت فير». المعرض الّذي، بنسخه المتتالية، يعرّف الجمهور على أهمّيّة التذوّق الفنّيّ، وقيمة السرديّات المرئيّة الّتي تعبّر عن واقعنا، وتؤسّس لرؤية محمّلة بالدلالات المتعدّدة لتفسير هذا الواقع وتصوير جماليّاته، وآلامه، والكشف عن البياض والسواد فيه، سعيًا في تنمية الذاكرة الجمعيّة، وتعزيز أهمّيّة الفنون في المجتمع الّذي نعيش فيه.

 


إحالات

[1] باتريك كاباندا، الثروة الإبداعيّة للأمم ’هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية إلى الأمام؟‘، ترجمة: شاكر عبد الحميد (الكويت، سلسلة عالم المعرفة، 2022)، ص 26.

[2] مرجع سابق، ص 27.

[3] رولان بارت، غرفة التطهير ’حاشية على التصوير‘، ترجمة: منذر عياشي، (سوريا: دار نينوى للنشر والتوزيع، 2017)، ص 10.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

أكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.