خاص | صراعُ إسرائيل والسّلطة على العمال الفلسطينيين (3)

في ظلّ حالة الطوارئ التي فرضتها إسرائيل في البلاد لمواجهة أزمة كورونا، أغلقت جميع الحواجز بينها وبين الضفة الغربية المُحتلّة، بعد أن أتاحت في 18 آذار/ مارس، لعدد كبير من العمال، الدخول إلى البلاد، بشروط فرضتها سابقا، وبتنسيق مع السلطة

خاص | صراعُ إسرائيل والسّلطة على العمال الفلسطينيين (3)

العمال قرب حاجز "السبع" جنوب مدينة الظاهرية (وفا)

في ما يلي الجزءُ الثالث من سلسلةِ تقاريرٍ للمخرجة، سهى عرّاف، خاصّة بـ"عرب 48" الذي سيُسلّط من خلالها، الضوء، على العمّال الفلسطينيين في إسرائيل، والصعوبات التي يواجهونها، وفقَ تسلسلٍ زمنيّ لن يتركَ ما سبق، ولن يتوانى في تغطية ما سيأتي، ولا سيّما في ظلّ التحديات الجسيمة التي واجهها العمّال -ولا يزالون- إثر تفشّي وباء كورونا المستجد.


في ظلّ حالة الطوارئ التي فرضتها إسرائيل في البلاد لمواجهة أزمة كورونا، أغلقت جميع الحواجز بينها وبين الضفة الغربية المُحتلّة، بعد أن أتاحت في 18 آذار/ مارس، لعدد كبير من العمال، الدخول إلى البلاد، بشروط فرضتها سابقا، وبتنسيق مع السلطة الفلسطينية.

إتاحةُ سلطات الاحتلال، للعمّال الفلسطينيين، البقاء، حدث لم يحدث منذ اتفاقية أوسلو عام 1993، وهو حدثٌ ألغى "النظرية الأمنية" التي روّجت لها إسرائيل خلال أعوام طوال، إذ لم يعُد العمال الفلسطينيّون يهددون "أمن الدولة"، بشكلٍ فجائيّ.

وطالبت السلطة بتأمين مأوى ملائم للعمال، يقيهم من البرد والفيروس المتفشي في إسرائيل، بالإضافة إلى المُطالبة بتوفير الرعاية الصحيّة لمن يصاب بكورونا منهم، إلا أن إسرائيل، قامت بإغلاق جميع الحواجز التي تفصلها عن الضفة المُحتلّة، بعد أن أخذت حاجتها من الأيدي العاملة.

وبعد أقل من أسبوع تبين أن إسرائيل لم تلتزم باتّفاقها مع السلطة الفلسطينية، إذ لم يجد العمال مأوى، لذا أُجبروا على افتراش الأرض والحدائق والمنشآت والدفيئات الزراعية، وخلال أقل من أسبوع كذلك، أُلقي بعاملين فلسطينييْن، على حاجز بيت سيرا، فقط لأنه ظُنّ أنهم مُصابون بالفيروس.

قسم كبير من العمال، والذين خرجوا للعمل في إسرائيل على مضض، بعد أن قام أرباب عملهم، بإلغاء تصاريحهم، في حال عدم حضورهم إلى أماكن عملهم، قرروا العودة يوميا الى منازلهم في الضفة المُحتلة، وبما أن الحواجز مغلقة؛ لم يجدوا سبيلا سوى التسلُّل يوميا عبر فتحات في جدار الفصل العنصريّ.

العمال قرب حاجز "السبع" جنوب مدينة الظاهرية (وفا)

وتجندت السلطة الفلسطينية بإمكانيات شبه معدومة، بجميع مؤسساتها الأمنية والطبية والاجتماعية والمدنية لمواجهة أزمة كورنا، واستطاعت كذلك، تجنيد الشارع الفلسطيني معها، ليُلبّي آلافُ المتطوعين نداءَ لجان الطوارئ، كما أن بعض رجال الأعمال، بالإضافة إلى أشخاص لا يُعدّون من أصحاب الثروات؛ قد تبرعوا بسخاء للعائلات المحتاجة، ولا سيّما في ظلّ تفشي الوباء.

وفيما وصل عدد العاطلين عن العمل، خلال أقلّ من شهر، إلى مليون، باتَ التكافل الاجتماعي عنوان المرحلة، وطغى على الفقر والحصار والبطالة، وعاش المجتمع الفلسطيني خلال أزمة كورونا، حالةً استثنائيةً من التناغم بين سلطته، بمؤسساتها المختلفة، وبين الشارع، وسرعان ما عادت ثقةُ كثير من الفلسطينيين، بقياداتهم.

وفي هذا الصدد، قال محافظ جنين، اللواء أكرم الرجوب، في حديث مع "عرب 48": "أنا رجل سلطة. هذه المرة الأولى التي نشعر نحن أن الشعب يحترم قيادته وسلطته ورجال أمنه".

وانتشرت قوات الأمن الفلسطيني في الشوارع والحارات لضبط النظام، وحركة التنقل، ولمساعدة الناس في أزمتهم، كما أنّها أوصلت الطعام لبعض العائلات الموجودة في الحجر المنزلي، في بعض المناطق.

كيف حاولت إسرائيل تشويش عمل السلطة؟

يبدو أن التلاحم في الشارع الفلسطيني، والتفافهِ حول سلطته وأجهزتها الأمنية، لم ترُق للإسرائيليين.

البداية كانت في بيت لحم، وحينما تمّ اكتشاف حالات العدوى الأولى في المدينة نتيجة اختلاط موظفي أحد الفنادق بوفد سياحيّ يوناني، أغلقت السلطة الفلسطينية المدينة، ووضعت المصابين في فندق، وعلّقت التعليم في المدارس والجامعات، كما أعلنت عن حالة طوارئ، ونصبت حواجزَ داخلية أُطلِق عليها "حواجز المحبة والرحمة" نظرا لحساسية الفلسطينيّ من حواجز الاحتلال.

واستطاعت محافظة بيت لحم بجهد جبار، منعَ تفشي العدوى، وسهرت قوات الأمن الفلسطيني في الشوارع في الليل والمطر لحماية المواطن، فيما لم تمنع أزمة كورونا، جيش الاحتلال من اقتحام المدينة.

وقال أمين سر حركة "فتح" ورئيس لجنة الطوارئ في المحافظة، محمود المصري، في حديث مع "عرب 48": "جاء (جنود الاحتلال) في الليل مع جرافات، وهدموا الحواجز التي بنيناها أمام رجال الأمن الفلسطيني، ثم اقتحموا مخيم الدهيشة وأطلقوا النار والقنابل وقاموا باعتقال ابن شقيق الناطق بلسان الحكومة (الفلسطينية)، إبراهيم ملحم".

العمال هم الضحية الأولى (وفا)

وأضاف المصري: "أخرجوهم ليلًا بعد أن ألبسوهم البدلات الواقية أمام أعين رجال الأمن الذين وقفوا مكتوفي الأيدي، مكسورينَ، ونظرات الذل في أعينهم. مشهد صعب هدفه إذلال قوات الأمن أمام المواطنين، وكسر معنوياتهم وكبريائهم، فهم يعلمون أنهم (أن رجال الأمن الفلسطيني) لا يستطيعون أن يردوا على عنجهيتهم وبطشهم".

"معركة على ثغرات الجدار"

عندما بدأ العمال في التسلل ذهابا وإيابا من الضفة وإليها، حاولت السلطة ضبط تحركات العمال خوفا عليهم ومنهم في ما يتعلّق بانتشار العدوى، فقام المتطوعون في لجان الطوارئ في البلدات والقرى المحاذية للجدار، بحراسة الثغرات الموجودة فيه، بالتنسيق مع رجال الأمن، والذين لا يُسمح لهم بالاقتراب من الجدار وفقا لاتفاقيات أوسلو.

وقال رياض أبو حمدة (55 عامًا) من سكان قرية حبلة قضاء قلقيلية، والذي يعملُ مديرًا لمكتب تأمين نهارا، فيما يتطوع في لجان الطوارئ منذ شهر بشكل يومي منذ الساعة الخامسة مساء وحتى انتصاف الليل: "رأيت بأمّ عيني كيف جاءت سيارة جيش خرج منها الجنود وقاموا بقصّ الجدار".

وأضاف أبو حمدة: "أنا اتطوع كل يوم (...) قبل كورونا كانت سيارات الجيش تجوب في المكان وتلقي القبض على العمال، و على أي شخص يحاول الاقتراب من الجدار، (ولكن) بعد كورونا يتسلّل العمال كل يوم على مرأى من الجنود الذين يقفون ليحرسوا العمال".

وتابع: "يصرخون علينا (لكي) نبتعد عن الجدار علما بأننا نقف على بعد 100 متر عنه، وفي كثير من الأحيان يلقون علينا قنابل الصوت لكي نبتعد".

وأوضح أبو حمدة أنه "في قرية حبلة 4 فتحات في الجدار، نحاول حراستها لكن الجيش لا يعطينا فرصة. عندما يبتعد الجنود، نقوم أنا وزملائي بإغلاق الفتحات وربطها مجددا لكن الجنود يعودون ويفتحونها من جديد، وهذا حالنا كل يوم، معركة من جديد على ثغرات الجدار".

عبّارات يدخل عبرَها العمّال (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

لم يكتفِ جنود الاحتلال بالسماح للعمال بالتسلل يوميا وقصّ شريط الجدار، ففي 10 نيسان/ إبريل، فتح الجنود بوابات قنوات وعبّارات المياه في محافظة قلقيلية، إذ قاموا بفتح 4 بوابات في منطقة واقعة بين مدينة قلقيلة وقرية حبلة لكي يتسنى للعمال العبور منها بسهولة، وعندما وصل الخبر لمحافظ قلقيلية، اللواء رافع رواجبة، توجّه بدوره إلى الإدارة العسكرية مطالبا بإغلاق بوابات العبارات، بيد أنه لم يلقَ استجابة.

وتساءلَ رواجبة خلال حديثه مع "عرب 48": "لماذا يفتحون العبارات الآن؟ كانوا يفتحون هذه العبارات في حالات الفيضان والمطر الشديد فقط، وبعد نقاشات طويلة واجتماعات، وبعد حدوث أضرار جسيمة للأراضي الزراعية المحاذية للعبارات".

وقال رواجبة: "عندما كنا نطالبهم بفتحها كانوا يماطلون، ويقومون بعد يومين بفتحها لساعتين أو ثلاث ساعات، مع حراسات مشددة من الجنود الإسرائيليين، (أما في ظل أزمة كورونا) يقوم الجنود (أحيانا) بفتح البوابات حتى يوم السبت، دون تواجدٍ لجندي واحد هناك، ودون أن يكون الطقس ماطرًا".

وفي ما يُشير إلى سهولة تسلل العمّال من وإلى الضفة، أعدّ طاقم من التلفزيون الفلسطيني، تقريرًا حول الموضوع، ودخل المراسل في العبارة إلى الجهة الثانية، وقال في تقريره إنه في الجهة الإسرائيلية، فقد مر بكل سهولة إلى داخل الخط الأخضر، دون وجود أي فرد من الجيش الإسرائيلي في الجهة الثانية.

وذكر أبو حمدة أنه "خلال فترة كورنا، فتح الجنود البوابات الزراعية، وقصوا الجدار وفتحوا عبارات صرف المياه ونحن (المتطوعون) نقف ونرى ذلك، والعمال يمرون والجنود لا يسألونهم أي سؤال حتّى".

وقال: "حاولنا أكثر من مرة إغلاق البوابات لكننا لا نمتلك المفاتيح، لذلك قمنا بربط البوابات بما توفّر لدينا من حبال أو أسلاك حديدية، وعندما شاهدنا الجنود، صرخوا علينا وهددونا بأنهم سوف يطلقون علينا النار إذا لم نبتعد".

وأضاف أبو حمدة: "قبل كورونا على الأقل، كانت 3 سيارات للجنود تمر على امتداد الجدار، ذهابا وإيابًا لحراسته حتى لا يتسلل العمال منه، وعندما كان أحد العمال يقترب من الجدار كانوا يطلقون النار عليه، أما الآن فلا يتكلمون مع (أي عامل يتسلّل) بالمرة، وخلال شهر (منذ بِدء أزمة) كورونا، بالكاد نشاهد سيارة عسكرية واحدة".

إحدى النقاط التي يدخل منها العمال (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

وكان جيش الاحتلال، قد أنكر في بيان، أن عناصرَ منه، قد فتحوا العبّارات ليتسلّل العمال من خلالها، زاعمًا بأن فتحَها جاء تحسُّبًا من الانسداد المُحتمَل نتيجة الأمطار، وهو ما يتعارض مع الروايات الفلسطينية، التي أكّدت أن فتح العبارات لم تقتصر على الأيام الماطرة، كما أنه في 15 نيسان/ إبريل الماضي، فتح الجنود بوابةَ عبّارة في قرية عربونة قضاء جنين، المحاذية لقرية صندلة في الداخل الفلسطيني، رغم عدم سقوط الأمطار.

وذكر رواجبة أن "جدار مدينة قلقيلية يحتوي اليوم على أكثر من 50 ثغرة ممتدة على طول 54 كيلومترٍ، يتسلل منها العمال ذهابا وإيابا دون حسيب أو رقيب"، مُشيرا إلى أن "عدد الفتحات يزداد طوال الوقت، والجيش (الإسرائليي) يقف ولا يفعل أي شيء".

مُراقبة الثغرات؟ "لا أعدادَ كافيةً من الجنود لهذه المهمة!"

بدوره، قال الرجوب ساردًا ما حدث أمامه، كشاهد عيان: "قبل أسبوع قمت بزيارة ميدانية في قرية عانين المحاذية للجدار، وقفت مع متطوعي لجان الطوارئ ورئيس المجلس المحلي للاطلاع عن كثب على الوضع، كانت قبالتنا سيارة للجنود وفتحة كبيرة في الجدار تسلل منها 3 عمال أمامنا وأمام الجنود الذين لم يسألوهم أي سؤال".

وأضاف الرجوب: "تلقينا اتصالًا هاتفيا من الارتباط المدني الفلسطيني (أفاد) بأن الارتباط المدني الإسرائيلي، قد اتصل بهم وطالبونا بالابتعاد عن الجدار وهددوا بأنهم سوف يطلقون النار على من يقترب من الجدار، بينما دخل العمال الثلاثة أمامهم"، مستدكًا: "يريدون (جنود الاحتلال) من لجان الطوارئ أن تبتعد عن الجدار لكي يتسنى للعمال التسلل بسهولة".

وأوضح الرجوب أن جدار الفصل في محافظة جنين، مليئ بالفتحات، وقال: "أحيانا هناك عشرات الأمتار دون جدار بالمرة، فمنذ بناء الجدار عمل العمال على قصّه والتسلل من خلاله، ولم نأبه للأمر لأننا نريد لأبنائنا وعمالنا أن يعملوا".

وتابع: "لسنا ضد عمل العمال (الفلسطينيين) في إسرائيل. العكس هو الصحيح، وإسرائيل تحتاج عمالنا ونحن نحتاج أن يعمل أبناؤنا في إسرائيل لأن ثُلُث الأجور في الضفة مبنية على أجور عمالنا في إسرائيل".

عمّال فلسطينيون عائدون إلى الضفة قبل أيام (أ ف ب)

وأردف الرجوب: "الصورة اختلفت الآن. لا نريد لعمالنا أن يتوقفوا عن الذهاب للعمل في إسرائيل، لكننا نأبه لسلامتهم ووقايتهم، ونريد (فرض) رقابة على دخولهم وخروجهم لكي نتفادى الوباء".

وأضاف: "توجهنا إلى الإسرائيليين وطلبنا منهم إغلاق الجدار، وكان ردهم صاعقًا؛ إنهم يعانون من نقص في الميزانيات، ولا يمكنهم إصلاح الجدار، لذا طالبنا أن يكثفوا من (تواجُد) جنودهم (بالقرب من) منطقة الجدار، وكان مفادُ ردّهم أنه لا أعدادَ كافيةً من الجنود لهذه المهمة!".

"مؤامرة إسرائيلية" لكي تتفشى العدوى

واعتبر رواجبة أن تعامُل سلطات الاحتلال، في ما يخصّ هذا الشأن، ما هي إلا مؤامرة إسرائيلية لكي تتفشى العدوى في الضفة الغربية، إذ إنه تساءل: "لماذا نرى أن فتحات الجدار آخذة بالازدياد ولا سيّما في هذا الوقت؟ لماذا تفتح إسرائيل بواباتها وعبارات الصرف، وتبقيها مفتوحةً لأيام دون حراسة؟".

وأضاف رواجبة في ما يُعدّ جوابا على الأسئلة التي طرحها هو: "يحاولون أن يمسوا بنا، وأن يدمروا كل جهودنا وعملنا الدؤوب في مكافحة الوباء، و(يريدون) نشره من خلال العمال (الفلسطينيين) في إسرائيل".

بالطبع قامت إسرائيل بدحض فرضية المؤامرة، ووصفت السلطة الفلسطينية واتهمتها بالعنصرية، حتى أن الأمر وصل بها إلى التهديد بمنع انتشار قوات الأمن الفلسطيني في شوارع الضفة، والحدّ من حركتهم، وهو ما يعني بكلمات أخرى، أنها سوف تمنع السلطة وقوات الأمن التابعة لها، من محاربة الوباء.

"إستراتيجية مدروسة لليمين الإسرائيلي المتطرف"

واختلف محافظ جنين مع محافظ قلقيلية بشأن فرضية المؤامرة التي ترى أن إسرائيل تريد نشر الوباء في الضفة من خلال العمال، وتحدث عن مؤامرة من نوع آخر تبدو أكثر منطقية.

وقال الرجوب: "نحن مرتبطون بإسرائيل، وإسرائيل مرتبطة بنا. أبناؤنا يوميا في إسرائيل، والوباء لا يفرق بين إسرائيلي وفلسطيني. الحد الأدنى ليومية العامل في إسرائيل (يتراوح بين) 250 و300 شيكل، وهناك عمال يتلقون 700 شيكل يوميا. اليوم هناك 200 ألف عامل في إسرائيل، ما يعني أن المدخول اليومي للعمال هو 60 مليون شيكل يوميا".

وتابع: "لا نستطيع أن نقول للعمال توقفوا عن العمل في إسرائيل، فهم ركيزة مهمة في الاقتصاد الفلسطيني، ولا أحد يستطيع أن يتحمل عبءَ توقفهم عن العمل هناك، دون إيجاد بديل لهم".

وأضاف الرجوب: "إسرائيل تريد من السلطة أن تكون ضعيفة ومهزومة، لتستمر بالوصاية علينا، إذ أنهم لم يتحملوا فكرة أن السلطة قادرة بإمكانيتها المتواضعة أن تجابه جائحةً عالمية، لم تنجح بعض الدول العظمى (والتي تتوفّر لديها) إمكانيات؛ في احتواء الفيروس".

وأكملَ متسائلًا: "فكيف لنا نحن الذين لا نملك مستشفيات حديثة ومختبرات، وميزانيات، أن ننجح بالتصدي للأزمة بهذا الشكل؟ وإسرائيل التي تعدّ نفسها الدولة المتحضرة والديمقراطية في الشرق الأوسط، وصاحبة الإمكانيات، تصل أعداد الوفيات والإصابات فيها إلى مئات الأضعاف عنا (في الضفة والقدس وغزة)".

وقال: "يريدون أن ’تنهزم’ صورتنا أمام شعبنا، ويريدون أن يثبتوا أننا لسنا بأهل لنرعى شؤون شعبنا. كل الخطوات التي تتخذها إسرائيل هي قرارات سياسية، وإستراتيجية مدروسة لليمين المتطرف الذي يتربع على عرش الحكومة (الإسرائيلية)".

تبدو إسرائيل ضعيفة ومهزوزة أمام إرادة الشعب الفلسطيني وإصراره على هزيمة الوباء، وأمام سعي السلطة للحفاظ على سلامة الفلسطينيين، قيمة الإنسان الفلسطيني ارتفعت فلم نعد نسمع شعارات من قبيل؛ "نموت وتحيا فلسطين" بل نسمعُ شعارات نقيضة؛ "نعيش وتعيش فلسطين".

وأصبحت صحة الإنسان وسلامته، قيمةً عُليا، فيما رأينا دولا كبريطانيا وأميركا "تضحي" بشعوبها لكي لا ينهار اقتصادها، في وقت تسعى الضفة الغربية التي لا اقتصاد لديها تقريبا؛ لأن تحمي أبناءَها.

للاحتلال وجوهٌ كثير؛ أزمة كورونا تكشفُ أكثرها بشاعة

لم تكتفِ إسرائيل باتفاقية أوسلو الهزيلة التي رسّخت الاحتلال، إذ إنها أتاحت لإسرائيل السيطرة على الحواجز، وعلى المياه والكهرباء، وعلى دخول البضائع، ولا حقّ للفلسطيني أن يتنقّل إلا بتصريح، ولا حق في بناء مطار أو جيش، ولا حق في التنفس إلا بإذنٍ إسرائيلي.

أوسلو لم تكن سوى صفقة اقتصادية أخرى لإسرائيل، إذ إنها جاءت لتوفّر لخزينة الدولة مليارات الشواكل سنويا، فوافقت على وجود سلطة "شكلية" لا تسيطر على أي شيء ولا حق لها في أي شيء، بل العكس هو الصحيح، إذ إنه يتحتّم على السلطة، التنسيق الأمني مع إسرائيل، ونقل معلومات إليها، لتكون بذلك سلطةَ شؤون اجتماعية إذا صحّ التعبير. سلطة تُعنى بشؤون داخلية وتنظم الحياة اليومية، فيما يستطيع الإسرائيليون الدخول إلى الضفة المُحتلة في كل فرصة ليهدموا بيوتًا ويعتلقوا شبّانًا، وليَقتُلوا وليُصادروا الأراضي.

جنود يفتحون العبارات قرب الطيبة قضاء جنين (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

ولم تأتِ استهانةُ الفلسطينيين بالسلطة بمحض الصدفة، فمنذ أوسلو كانت العلاقة بين المواطن الفلسطيني وسلطته مهزوزة ويشوبها الشكّ، وعدم الاحترام. ولأول مرة منذ اتفاقية أوسلو يرفع الإنسان الفلسطيني رأسه وقبعته إجلالا بأداء السلطة ويشيد بجهودها؛ علاقة جديدة بُنيت وتوطّدت بين المواطن وبين سلطته، وهو ما لم يرُق لإسرائيل التي تحاول بكافة الطرق والوسائل، تدمير هذه العلاقة.

لا تريد إسرائيل للسلطة الفلسطينية أن ترفع رأسها، وأن تستردّ "ماء وجهها" أمام شعبها، وأن تعيد بعضًا من كرامتها.

والآن بعد أن تفشى الوباء في دور العَجَزَة وترك الكثير من الإسرائيليين عملهم فيها، عرضت إسرائيل مبالغ كبيرة على عمال الضفة بقيمة تصل إلى 1000 شيكل يوميا، ليسدّوا الوظاف الفارغة التي تركها الإسرائيليّون.

من جانبه، حذّر رئيس اتحاد نقابات العمال في الضفة، شاهر سعد، العمال الفلسطينيين في إسرائيل، من قبول العمل في مثل هذه الوظائف، رغم الإغراء الماديّ.

يُطرح السؤال؛ من هو الضحية سوى العامل الفلسطيني مرة أخرى؟ العامل المسكين الذي يُهان يوميا مئات المرات حين يمرّ على الحواجز، ومن ربّ عمله، ومن جنود الاحتلال، ومن الإسرائيليين. يشقى العامل ساعات طويلة ليوفر لقمة العيش بينما تقوم إسرائيل باستغلاله يوميا ظنا منها أن راتبه ممتاز مقارنة بمعدل الدخل في الضفة، إلا أن إيجاد عامل إسرائيلي يقبل بهذه الشروط، وبهذا الراتب، وبهذا العمل المضني والخطِر، يكاد يكون مُستحيلًا.

وبعد أن أخذت إسرائيل حاجتها من العمال لكي تضمن أن "الشعب الإسرائيلي" لن يتضور جوعا، وأن الدواجن والبيض والخضار تتوفر لديهم، وأن اقتصادهم لن يتأذى بشكل جديّ، بالإضافة إلى استمرار حركة البناء، والاستمرار في استغلال العمال الفلسطينيين في المهن الخطرة؛ بعد ذلك كلّه أغلقت إسرائيل الحواجز، وفتحت البوابات والجدار لكي تعم الفوضى ويسود التوتر بين الشعب وسلطته، وكان العمال هم الذين دفعوا الثمن، وباتوا يُعانون الأمرّيْن؛ الاحتلال الإسرائيلي، وبعض الأصوات الفلسطينية التي تتهمهم بنشر الوباء. وفعليًّا؛ إن إسرائيل هي التي من نشر البلاء والوباء.

التعليقات