07/09/2024 - 21:52

منى حداد: احتجاز جثامين الفلسطينيين بين إخفاء آثار الجريمة وورقة المساومة

تتناول مرشحة الدكتوراه، منى حداد، في حوارها مع "عرب 48" السياسة الإسرائيلية المتعلقة باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين. تركز حداد في بحثها على استخدام هذه الجثامين كورقة مساومة وقمع، وذلك في سياق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ومحاولات طمس الهوية الفلسطينية وإخفاء الجريمة.

منى حداد: احتجاز جثامين الفلسطينيين بين إخفاء آثار الجريمة وورقة المساومة

استخراج الجثث من مقبرة جماعية اكتُشفت بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من مستشفى ناصر في خانيونس (Getty Images)

"احتجاز الجثامين: بين القمع الاستعماريّ ومناهضته" هو موضوع رسالة الدكتوراه التي تعمل على إعدادها المحامية في مجال حقوق الإنسان ومرشّحة الدكتوراه في القانون بجامعة "كوين ماري" في لندن، منى حداد؛ وتتناول حداد في بحثها استخدام الدول لاحتجاز جثامين "الأعداء" كأداة للقمع السياسيّ، وهي ظاهرة تفتقر إلى موقف واضح في القانون الدوليّ، ما يترك الجثامين "رهائن" بلا حماية قانونية واضحة.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

يركز البحث بشكل أساسي على إسرائيل كنموذج في معاملة جثامين الشهداء الفلسطينيين، في محاولة لفهم أهداف هذه السياسة وتأطيرها قانونيًا، اعتمادًا على تحليل الوثائق الرسمية والشهادات الشفوية، لفهم تطور هذه الممارسة على مدار الزمن، ودورها ضمن المشروع الاستعماري الإسرائيلي والنضال الفلسطيني للتحرر.

وفي مقال نشرته "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" حول "المقابر الجماعية في غزة"، تشير حداد إلى أن حرب الإبادة الجماعية الجارية في غزة، لا تنفصل عن الاستخدام التاريخي للصهيونية في استهداف الفلسطينيين حتى بعد موتهم، سواء بتدمير المقابر، كما حدث في قرية الطنطورة عام 1948، أو المحاولات الحديثة لتدمير مقبرة القسام في حيفا ومقبرة اليوسفية في القدس في عام 2021.

وتشير حداد إلى أن استهداف الجثامين الفلسطينية ظهر بوضوح من خلال إنشاء إسرائيل لما يسمى "مقابر قتلى العدو" في أواخر الستينيات داخل مناطق عسكرية مغلقة وسرية، حيث احتجزت جثامين فلسطينيين وعرب آخرين قتلتهم ورفضت إعادة جثامينهم إلى عائلاتهم. وتسمى هذه المقابر من قبل الفلسطينيين بـ"مقابر الأرقام"، حيث لا تحمل شواهد قبور، بل مجرد قضبان حديدية مرقمة، ما يترك الجثامين مجهولة الهوية.

كما تستمر إسرائيل في احتجاز جثامين الفلسطينيين في المركز الوطني الإسرائيلي للطب الشرعي (أبو كبير)، حيث تحتفظ بجثامين الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية في ثلاجات ولا تعيدها إلى أسرهم إلا بشروط صارمة تتعلق بترتيبات الجنازة. وغالبًا ما تتم إعادة الجثامين في حالة مجمدة ومشوهة، ما يجعل من الصعب التعرف عليها، وتحرم هذه الأسر من فرصة إقامة جنازة لائقة أو القيام بمراسم دفن تقليدية. وتؤدي هذه الممارسات إلى تفاقم المعاملة اللاإنسانية التي تواجهها الأسر الفلسطينية.

وتشير حداد إلى أن إسرائيل قد استخدمت جثامين الفلسطينيين كورقة مساومة بشكل علني منذ الأول من كانون الثاني/ يناير 2017، حين تبنت الحكومة الإسرائيلية ما يسمى بـ"السياسة الموحدة" للتعامل مع جثامين الفلسطينيين واستخدامها صراحةً بمثابة "أوراق مساومة". وقد حصلت هذه السياسة على موافقة المحكمة العليا الإسرائيلية، مما سمح للجيش الإسرائيلي باحتجاز جثامين الفلسطينيين واستخدامها كـ"رهائن" للمساومة، كما سمح باستخدام أساليب مهينة مثل جمع الجثامين بالجرافات وسحبها وانتهاك حرمتها بشكل واسع النطاق.

لإلقاء المزيد من الضوء على هذه السياسة، أجرينا هذا الحوار مع المحامية وطالبة الدكتوراه، *منى حداد.

"عرب 48": احتجاز جثامين الفلسطينيين سياسة قديمة تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين على اختلاف تصنيفاتهم القانونية. يحتجز حاليًا أكثر من 500 شهيد فلسطيني، بينهم أكثر من 60 شهيدًا منذ بداية هذا العام. مؤخرًا، قرر الكابينيت الإسرائيلي استمرار احتجاز جثامين سبعة فلسطينيين من مناطق الـ48، رغم أنهم يحملون الهوية الإسرائيلية، بما في ذلك جثمان الشهيد وليد دقة الذي توفي في السجن نتيجة الإهمال الطبي. كيف تتناولين هذا الموضوع في بحثك؟ وما هي أبرز أوجه هذه السياسة التي ترينها في سياق الاستعمار الاستيطاني الصهيوني؟

منى حداد

حداد: أنا أعد الدكتوراه في مجال القانون، لذا فإن تركيزي الأساسي ليس على الجوانب التاريخية؛ دراستي ركزت على سياسة خطف الجثامين واستخدامها كورقة مساومة؛ ومع تعمقي في البحث ومراجعتي للأرشيفات وجدت أنها تمتد عبر تاريخ الحركة الصهيونية الطويل، وأن جثمان الفلسطيني كان له استخدامات مختلفة.

عند النظر إلى أحداث نكبة 1948، نجد أن دفن الجثامين في مقابر جماعية أو حتى حرقها كان جزءًا من محاولات إخفاء آثار جرائم التطهير العرقي التي ارتكبتها المليشيات الصهيونية، بهدف ليس فقط إخفاء الجريمة ولكن أيضًا طمس وجود الفلسطينيين في المنطقة. كان هذا واضحًا في مذابح مثل دير ياسين والطنطورة، حيث تم دفن الجثامين في مقابر جماعية.

في المقابل رأينا في دير ياسين مثلا سياسات متناقضة، فمن ناحية كانوا يحاولون إخفاء آثار الجريمة ويتنكرون لوقوعها ومن ناحية أخرى كانت المليشيات الصهيونية تنشر بشكل احتفالي عن المذبحة، بهدف نشر الخوف ودب الرعب في صفوف الفلسطينيين ودفعهم إلى النزوح عن قراهم ومدنهم.

وقد لاحظت أن هذين الهدفين المتناقضين كانا موجودين لدى الحركة الاستعمارية في أميركا اللاتينية أيضا وحركات استعمار استيطاني أخرى قامت الصهيونية باستنساخ تجاربهما.

"عرب 48": هل ترين أن استخدام المقابر الجماعية يظهر بشكل مشابه في غزة اليوم، حيث جرى الكشف عن مقابل جماعية في مستشفى المعمداني وغيره، وكان هدفها إخفاء آثار الجرائم؟

حداد: نعم، ما يحدث اليوم في غزة لا يتعلق فقط بإخفاء الجريمة أو هوية الشهداء، بل هناك أيضًا محاولات لتشويه الأدلة بشكل كامل لمنع أي تحقيق مستقبلي. المقابر الجماعية هي أداة ترهيب بحد ذاتها، مثلما كانت في نكبة عام 1948.

"عرب 48": الهدف إذن كان التخويف وكسر إرادة الفلسطينيين؟

حداد: هذا صحيح. في المرحلة الأولى، كان الهدف الأساسي هو كسر إرادة الناس وإجبارهم على الرحيل من خلال الترهيب. لاحقًا، ومع تصاعد الحركات الفدائية والمقاومة الفلسطينية في الستينيات، تغيرت طريقة استهداف الجثامين. في أواخر عام 1968، أنشأت إسرائيل ما أسمته "مقابر قتلى العدو" أو ما نسميه "مقابر الأرقام"، حيث بدأت بدفن جثامين الفدائيين الذين قتلوا، والذين كانت تسميهم "متسللين" وكانوا في بعض الأحيان من الذين حاولوا العودة إلى بيوتهم التي هجّروا منها.

طريقة الدفن، كما ظهر حين تم الكشف عنها بعد سنوات، هي طريقة مهينة جدا، وهي تشبه إلى حد بعيد طريقة الدفن في المقابر الجماعية، حيث كشفت اللجنة التي كلفت بالتفتيش عن الجثامين لغرض إرجاعها في إطار صفقات تبادل وغيرها في التسعينيات، أن طريقة الدفن سيئة جدا وأن الحاخامية والجيش الإسرائيلي لم يقوما بالتوثيق المطلوب ولم يحافظا على المستندات، كما أن القبور كانت سطحية وكانوا على سبيل المثال يفتحون قبرا ما فيجدونه فارغا ثم يفتحون قبرا آخر فيعثروا فيه على أكثر من جثمان مكدسة بعضها فوق بعض.

"عرب 48": كثيرا ما جرى الحديث عن أن السيول كانت تجرف جثامين الشهداء في مقابر الأرقام بالجولان، لأنها لم تكن مدفونة عميقا في التربة...

حداد: إسرائيل استخدمت الجثمان الفلسطيني ليس فقط كورقة مساومة، بل أيضًا كأداة للردع والتخويف والتنكيل. هذه الممارسات تؤكد أن استخدام الجثامين كان وسيلة للانتقام والعقاب وليس فقط للمساومة؛ وذلك لمعاقبة الفلسطيني والانتقام من الأموات والأحياء، وقد وجدت أن طرق الاستهداف تتغير حسب الحاجات السياسية الإسرائيلية.

لقد رأينا محاولات لإقامة مقابر جماعية في كفر قاسم جرى إحباطها وعند اقتحام مخيم جنين في عام 2002 أحبطت محاولات مشابهة أيضا، وفي صبرا وشاتيلا جرى حفر المقابر الجماعية التي دفن فيها شهداء المجزرة بجرافات إسرائيلية، واليوم نرى المقابر الجماعية في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة.

"عرب 48": جميعنا رأى أن غزة بما تحويه من تدمير وتهجير وإبادة ومجازر ومقابر جماعية هي نموج مصغر أو مكبر عن النكبة واستمرار لها؟

حداد: كل هذه الأساليب بما فيها المقابر الجماعية ليست جديدة على الفلسطيني، كما أن ممثلة الأمم المتحدة قالت إن المقابر الجماعية ترتبط بعمليات الإبادة ومشاريع التطهير العرقي وارتكاب مجازر ضد الإنسانية وهو ما حدث في فلسطين في نكبة 48 وما بعدها ويجري إخفاؤه.

فأهالي الطنطورة الناجين من المجزرة كانوا يعرفون أنه جرى دفن الضحايا في مقابر جماعية ويعرفون مواقعها، قبل أن تأتي جهات وأدلة في الأرشيفات الإسرائيلية لتثبت ذلك، وأهالي يافا وجدوا عام 2013 خلال أعمال ترميم في مقبرة يافا، قبورا جماعية داخل المقبرة، ونحن نعرف أيضا عن العثور على مقابر جماعية دفن فيها جنود مصريين خلال حرب 67.

لقد تطورت أساليب لاستخدام الجثمان لدى إسرائيل من إخفائه عبر دفنه في مقابر جماعية إلى استخدامه كوسيلة انتقام وتهديد، ثم تحول إلى استخدامه كسلعة واحتجازه كورقة مساومة في المفاوضات.

بدأ هذا النوع من الاستخدام بعد اختطاف الجندي سعدون من قبل حركة حماس في عام 1989، والذي قُتل أثناء محاولة تحريره، ولم تتمكن إسرائيل من العثور على جثته. في عام 1994، احتجزت إسرائيل جثمانين لمقاتلين من حماس كرهائن حتى إعادة جثمان سعدون، وبعد عام، تمكنوا من الحصول على مكان دفن جثمان سعدون عبر السلطة الفلسطينية، ومن ثم تم تحرير جثماني مقاتلي حماس. وقد تزايد استخدام هذه الأساليب بشكل ملحوظ منذ عام 2015.

وخلال الانتفاضة الأولى، والتي كانت انتفاضة شعبية، انتشر استخدام جثمان الشهيد بعد اختطافه لفرض شروط تحول دون إقامة جنازات جماهيرية، حيث كانت إسرائيل تشترط إقامة الجنازة في ساعات الليل، بحيث تقتصر المشاركة على 15 إلى 20 شخصًا.

"عرب 48": كيف تعامل القضاء الإسرائيلي مع هذه الممارسات؟ وهل هناك غطاء قانوني لها؟

حداد: خلال الانتفاضة التمست إلى العليا عائلة أحد الشهداء الذين استشهدوا في السجون الإسرائيلية ضد القيود التي فرضها الاحتلال على الجنازة بما في ذلك على عدد المشاركين وإقامتها ليلا، والأخيرة صادقت على هذه السياسة بادعاء الحفاظ على الأمن العام وسلامة الجمهور.

المحكمة العليا الإسرائيلية قدمت غطاءً قانونيًا لهذه السياسات، خاصة بعد أن أقرت في عام 2019 صلاحية الجيش باحتجاز الجثامين لاستخدامها كورقة مساومة. هذا القرار جاء بعد تحديات قانونية قدمتها "عدالة" بخصوص احتجاز جثمان الشهيد عليان عام 2017. في البداية، رفضت المحكمة هذه السياسة، ولكنها عادت في 2019 لتقرها بشكل رسمي، مما سمح باستمرار احتجاز الجثامين.

واليوم ما نراه في قضية الشهيد وليد دقة هو تحدي لهذه السياسة وتحدي لصلاحية الدولة والجيش باحتجاز جثمان فلسطيني يحمل الهوية الإسرائيلية، وقد شاهدنا أجواء الإرهاب التي فرضها متطرفو اليمين في المحكمة خلال الجلسة التي عقدت في 21 آب/ أغسطس الماضي، والتي حالت دون حضور أهل الشهيد وليد دقة جلسة المحكمة بسبب وجود خطر على حياتهم، وهو ما لا يبشر خيرا في ما يتعلق بمضمون القرار الذي سيصدر قريبا.


*منى حداد: محامية في مجال حقوق الانسان وطالبة دكتوراة في القانون بجامعة "كوين ماري "في لندن.

التعليقات