02/11/2024 - 21:34

الاستعمار الاستيطاني وإبستمولوجيا الإبادة في فلسطين

تخلص الدراسة إلى أن الإبادة في فلسطين لم تنطوي على فعل الاستئصال المكاني أو المحي التام فحسب، فقد استخدمت إسرائيل أنماط دمج وتدجين وتطبيع وأساليب بهدف فرض السيطرة على الفلسطينيين منذ عام 1948..

الاستعمار الاستيطاني وإبستمولوجيا الإبادة في فلسطين

(Gettyimages)

في دراسة حول نموذج الاستعمار الاستيطاني الاقتلاعي الصهيوني كامتداد للاستعمار الاستيطاني الأنغلوساكسوني ترى د. هديل كركر أن الترويج لفكرة إبادة الفلسطينيين من أجل إفراغ الأرض وتأهيلها بمشاريع الاستعمار الاستيطاني اليهودي بدأ منذ القرن السابع عشر، أثناء اعتلاء اللورد أوليفر كرومويل سدة الحكم في بريطانيا وإنشاء "كومنولث".

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

وتلفت الدراسة التي نشرت في مجلة "إضافات" الصادرة عن جمعية العلوم الاجتماعية العربية ومركز دراسات الوحدة العربية، إلى ارتباط المشروع الاستعماري العالمي بفلسطين كـ"أرض موعودة" للمستعمر الغريب الذي استثمر في حروب الإبادة ضد أصحاب الأرض من أجل بناء "العالم الجديد"، وتسلط الضوء على النظرة الدونية للفلسطيني َالمستعمر والذي يمثل وجوده عقبة أمام مشاريع المستعمر التوسعية والمصالح الاستعمارية الاقتصادية، وعلى الهيكلية البنيوية لخطاب الإبادة الاستعماري.

كما تشير إلى أن نجاح أوليفر كرومويل بالمهمة التي أوكلت إليه في ايرلندا، وجه أنظاره نحو أميركا الشمالية وفلسطين من أجل توسيع حدود الكومنولث مستندا إلى العقيدة "البروتستانتية التطهريية "الداعية إلى استعادة" أرض الميعاد" من جانب نخبة "شعب الله المختار"، انطلاقًا من مقولة إن شعب الله المختار هم أتباع الفكر البروتستانتي اليهودي الذي بدأ يغزو أوروبا.

وتفيد الدراسة بأن "البروتستانتية التطهريية" قد وهبت المعتقد المسيحي صبغة يهودية، حتى أصبح يطلق على هذا الحراك إعادة إحياء "العبرنة" أو "التهويد" والتي سعت لإعادة النظر بالعلاقة بين المسيحية واليهودية من منظار مختلف يجمع بين الاثنتين بالرغم من التناقضات المذهبية التاريخية بينهما، بما يتضمن إعادة النظر في استشراف المستقبل بالاستناد إلى الخرافة التوراتية، والتي شملت المجيء الثاني للمخلص المنتظر، والتغير العالمي الذي سيطرأ بعد القدوم المنتظر حسب العقيدة اليهودية.

ودعا الخطاب السياسي البريطاني في منتصف القرن السابع عشر إلى التمسك بتلك المعتقدات، كما تبوأ المشهد العام، وفق الدراسة، معتقد "تجميع وإعادة اليهود من الشتات إلى فلسطين" لإتمام نبوءة المخلص المنتظر وقد طّفت الميثولوجيا اليهودية لتبرير حروب الإبادة التي قام بها البروتستانت التطهيريين من جهة، ولنشر الفكر الإقصائي التوسعي المحرك للاستعمار الاستيطاني من جهة أخرى. وتزامن نشر هذه الدعوة مع بداية حروب الإبادة الاستعمارية التي استهلها أوليفر كرومويل في أيرلندا.

وتنوه الدراسة إلى أن الشيطنة والمحو واستباحة الأرض قد مثلت ركائز الخطاب الاستعماري عن فلسطين، والذي يكاد مثيلا لنموذج الذي يطبق مرارا وتكرارا في سياقات الاستعمار الاستيطاني، حيث ينص هذا المبدأ على تصنيف أهل البلاد في خانة "ما دون البشر"، ولطالما وردت في النصوص الاستعمارية إشارات تدلل على وصف الشعوب الأصلانية في أميركا وفلسطين وإفريقيا بوجه عام "كائنات حيوانية ووحوش وشياطين".

ووصولا إلى الانتداب البريطاني على فلسطين تفيد الدراسة بأن بريطانيا اعتبرت الأقلية اليهودية في فلسطين يدها اليمنى في تحقيق مشاريعها الإمبريالية، إضافة إلى أنه كان للدبلوماسيين اليهود البريطانيين الذين شغلوا مناصب مهمة في الحكومة الأثر الكبير في تأسيس الفكر والمشروع الصهيونيني، ومن ثم في سير مجريات الأحداث في ما يخص فلسطين ومحيطها، تحديدا بما يتعلق بالهجرات اليهودية وعمل ونفوذ الوكالة اليهودية في الاستحواذ على الأراضي الفلسطينية لمصلحة المستعمرين اليهود.

كما تخلص الدراسة إلى أن الإبادة في فلسطين لم تنطوي على فعل الاستئصال المكاني أو المحي التام فحسب، فقد استخدمت دولة المحتل أنماط دمج وتدجين وتطبيع وأساليب بهدف فرض السيطرة على الفلسطينيين منذ عام 1948، وتتوقف عند حرب الإبادة على غزة، لتقول إن ما شاهدناه في حرب الإبادة على غزة فاق قدرة مخيلتنا على استيعاب وتصديق ما يحدث لشعب عريق وأصيل له جذور عميقة في هذا المكان، حافظ على تاريخه وإرثه برغم كل ظروف الاستعمار التي مرت عليه، وإن ما اقترفته آلة القتل الصهيونية يشابه حروب الإبادة في إيرلندا، وفي ما أصبح يسمى أميركا الشمالية، والتي بلغت أوجها في القرن السابع عشر، بعيدا عن أنظار العالم ووعيه، وأن ذلك يحدث اليوم تحت سمع ونظر العالم.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. هديل كركر لإلقاء مزيد من الضوء على الموضوع.

"عرب 48": الدراسة تشير إلى أن الترويج لفلسطين كهدف من أهداف الاستعمار الاستيطاني بدأ في وقت مبكر، مع استعمار إيرلندا وأميركا الشمالية في القرن السابع عشر وهو ما يؤكد أن الحركة الصهيونية، التي تأسست لاحقا، كانت ذراعا للمشروع الاستعماري البريطاني أو منسجمة معه في أحسن الأحوال؟

د. هديل كركر

د. كركر: أنا أعود لمفهوم الاستعمار الاستيطاني في ظل الجدل حول تعريف الحالة القائمة في فلسطين إن كانت احتلال أو استعمار استيطاني أو أبرتهايد، والبحث الذي أجريته للدكتوراه كان قد تناول شكل الاستعمار وخاض في هذا الجدل وفي الدراسة الحالية حاولت أن أحسم هذا الجدل لصالح مفهوم الاستعمار الاستيطاني، بما لا ينفي الأشكال الأخرى التي تفتقت عنه.

الدراسة لا تقول إن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين بدأ منذ القرن السابع عشر، ولكنه يوضح أن شروطه الإبستمولوجية ولدت في هذا الوقت المبكر، بما يجعلنا نقرر أن الصهيونية هي تجسيد لمنظومة القوة الاستعمارية التي نشأت منذ القرن السابع عشر، علما أن الدراسة أو المقال هو واحد من سلسلة مقالات تناولت في بعضها الصهيونية بشكلها المؤسساتي.

"عرب 48": اللافت أن الشروط الإبستمولوجية التي تتحدثين عنها تدل بأن استعمار فلسطين هو بالأساس فكرة بريطانية قبل أن يكون فكرة صهيونية التي جاءت بعد ذلك بقرنين من الزمن؟

د. كركر: هناك محوران للدراسة الأول الذي يتناول التعريف، ولماذا نسميه "استعمارا استيطانيا"، لأنه يخضع لقوانين الاستعمار الاستيطاني ويتجاوب مع شكل الاستعمار الاستيطاني في إيرلندا وأميركا الشمالية، والمثير للاهتمام أن أوليفر كرومويل الذي أوجد أول وآخر جمهورية في بريطانيا وكان تابعا للفكر "البروتستانتي التطهيري"، وهي حركة ظهرت في القرن السابع عشر في بريطانيا وكانت من أوائل الحركات التي جمعت بين اليهودية والمسيحية.

"عرب 48": على غرار الإنجيليين؟

د. كركر: هم يسمون اليوم "الإنجيليين"، ولكن الإنجيليين ينقسمون عدة طوائف، و"التطهيريين" هي الطائفة التي سيطرت على الاستعمار في أميركا والتي خرج منها جورج واشنطن وغيره من "الإباء المؤسسين"، والذين مثلوا مخططات الاستعمار والذين تبنوا الفكر التطهيري التوسعي، وهو النمط الذي أخذه الاستعمار الصهيوني لاحقا، نمط يعتمد على محو وتدمير كلي لكل أنماط الحياة وخلق مستعمرات جديدة.

"عرب 48": نستطيع القول إن التفكير بدأ في القرن السابع عشر وترجم باستعمار أميركا أولا ثم فلسطين في وقت متأخر، منطلقا من نفس المنطق والفكر "الاستعماري الديني"؟

د. كركر: صحيح، ولكن هو ليس فكرا استعماريا فحسب بل أداة تنفيذ أيضا، في إيرلندا استعملت نفس سياسة التجويع لمعاقبة كل من يساند المقاومة فيما الهدف الأساسي هو سلب الأرض وإحلال مستوطنين محل السكان الأصليين.

كرومويل عمل أيضا باتجاه سن قوانين برلمانية تدعم غزو إيرلندا واستعمارها، هو سيناريو يتكرر اليوم في غزة بغياب أي توازن في القوى، عتاد عسكري مهول وجيش جرار من الجنود، والحرب هي الحرب على الديمغرافيا ومن أجل سلب الأرض وبعد أربع سنوات من الحرب هبط عدد السكان في إيرلندا إلى 41%، والحديث عن مليون ونصف المليون قتيل والسيطرة على 86% من الأراضي، وهو ما خلق ظروفا "مناسبة" للمستوطنين البريطانيين في استعمار إيرلندا. كرومويل عاد وطبق هذا النموذج على نطاق أوسع في أميركا الشمالية.

"عرب 48": ذكرت أن كرومويل أيضا تحدث عن "أرض الميعاد" و"شعب الله المختار"؟

د. كركر: كرومويل اعتبر نفسه "لورد" أي خادم الإله ومن المقربين من الرب وهو بهذا المعنى من المختارين، وقد دعا في هذا السياق اليهود للعودة إلى بريطانيا بعد 400 سنة من استبعادهم، كما أن مصطلح الأرض الموعودة استعمل عند الحديث عن أميركا، ولكن هو يتقرب من اليهود بحكم تقربه من التوراة كونه بروتستانتي يعتمد العهد القديم.

وقد عمل كرومويل على تهويد الطقوس حتى تتماشى مع الديانة اليهودية وعلى تهويد الدين المسيحي عموما وكانت لديه قناعة بأنه ابن "شعب الله المختار" وأن "أرض الميعاد" الموعود فيها ستكون المستعمرات، ولكن في النهاية ستكون فلسطين نفسها، وفي هذا السياق فقد دعا اليهود إلى توسيع الإمبراطورية وإلى استعمار فلسطين و"العودة" إلى الأرض المقدسة على حد تعبيره.

وقد جرى الترويج لهذا الفكر في الأدب خاصة من خلال قصيدة "الفردوس المفقود"، وحتى الأدباء الرومانسيين الذين اختلفوا في القرن الثامن عشر مع نظام الإمبراطورية التوسعي، قد تبنوا أيضا الفكر اليهودي وتعاطفوا مع اليهود واعتبروهم بمكان ارقى من بقية الشعوب، وتبنوا كذلك فكرة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين والتي تعتمد على خرافة عودة "الشعب المختار" إلى "أرض الميعاد".

"عرب 48": أشرت إلى أن علماء الآثار الذين جرى إرسالهم خصيصا لهذا الغرض نفوا أن يكون أي أثر لهيكل سليمان في محيط الحرم القدسي الشريف؟

د. كركر: اكتشاف فلسطين تزامن مع حركة الجغرافية الإنجيلية التي اعتمدت تفسير الرحالة الأميركيين ومن ثم البريطانيين، للطوبوغرافيا في فلسطين حسب تفسيرهم للإنجيل، والمصيبة أنه قدم كدليل علمي، والثلاثي المعروف لهؤلاء في هذا السياق روبنسون وكيتو وأوليفانت، والأخير قدم مخططا لما أسماه الاستعمار اليهودي في فلسطين عرضه على الحكومة البريطانية، تبع ذلك حملة ما يسمى بـ"صندوق استكشاف فلسطين" الذي قام بأول حملة عام 1864، والذي كان من بين المتنفذين فيه مونتفيوري وإدموند روتشيلد.

"صندوق استكشاف فلسطين" الذي كان تحت رعاية الملكة فكتوريا تحمل مسؤوليته "المهندسون الملكيون"، حيث كان دورهم استخباراتي يتمثل بالتجسس على العثمانيين إلى جانب قياس مستويات مياه البحر الميت والبحر المتوسط من أجل عمل مشروع بديل لقناة السويس، أما الممولين أمثال مونتفيوري فأرادوا فرض أجندتهم المتمثلة بالتفتيش عن آثار يهودية، ولكن الفريق فاجأهم بعد القيام بحفريات تحت الأقصى بالخروج بنتيجة مفادها بأنه لا يمكن أن يكون موجود أي بناء في الناحية الجنوبية الغربية (المكان الذي يعتقد أن الهيكل موجود فيه) من الحرم لأن هناك سد مياه، وبوجود بناء فينيقي في الجهة الشمالية.

"عرب 48": أشرت إلى مطالبة الحركة الصهيونية في وقت لاحق بايكال الانتداب على فلسطين إلى بريطانيا، وهو ما يفصح عن عمق العلاقة الاستعمارية بين الطرفين؟

د. كركر: هذا يبطل الادعاء الصهيوني حول التحرر من بريطانيا والدعوة لدولة مستقلة، ويؤكد وجود علاقة مركبة بين الحركة الصهيونية وبريطانيا، إذ أن الأخيرة سعت لاستعمال الحركة الصهيونية كذراع استعماري بينما عمل وكلائها أمثال دزرائيلي ومونتفيوري لتوظيف بريطانيا في خدمة أهداف الحركة الصهيونية.

بالمحصلة بريطانيا كانت قد وصلت لنتيجة بأنها لا تستطيع أن تراهن على المسلمين أو على المسيحيين في فلسطين، ومن اللافت وصفهم للمسيحيين العرب الفلسطينيين بـ"إسلاموفيل" على أي "مفضلي الإسلام" ، واعتبروا ذلك حالة مرضية شبيهة بـ"مفضلي الأطفال - بودوفيل" وذلك بخلاف الموارنة في لبنان، لكن السؤال في ما إذا كانوا هم من استخدموا اليهود أم أن اليهود هم من استخدمهم يبقى سؤالا مفتوحا.


د. هديل كركر: حاصلة على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون في باريس، وباحثة مشاركة في المعهد العالي - بيزا في إيطاليا. وهي حاصلة على منحة المركز الفلسطيني الأميركي لعام 2023 - 2024.

التعليقات