يعتبر الزيتون رمزا لصمود الفلسطيني في أرض وطنه، حيث تغطي أشجاره مساحات واسعة من جبال وسهول بلاده وتضرب جذور أشجاره عميقا في بطن تربتها التي تمتد بعضها لمئات السنين، وتعتبر دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسها عام 1948 وصولا لاستكمال احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، شجرة الزيتون عدوًا لا يقل خطرًا عن أي مقاوم فلسطيني.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
يبلغ عدد أشجار الزيتون في دولة فلسطين بحدود الأراضي المحتلة منذ عام 1967 نحو 13 مليون شجرة زيتون تمثل 45% من المساحة المزروعة فيها، ويعتبر مصدر غذاء ودخلا رئيسيا للفلسطيني، وهو أكبر محصول مزروع في البلاد، تعمل فيه 100 ألف أسرة فلسطينية، بواقع أكثر من نصف مليون إنسان، بالإضافة إلى كونه عامل ثبات وصمود يرتبط به الفلسطيني ثقافيًا وتاريخيًا ووجدانيًا.
ويواجه المزارعون الفلسطينيون في الضفة الغربية هذا العام أخطر موسم زيتون على الإطلاق، حيث يقوم الاحتلال، وفق ما تفيد تقارير الأمم المتحدة، باستخدام أساليب أشبه بأساليب الحرب تشمل حرق وقطع وسرقة وتسميم أشجار الزيتون"، إذ تعرضت في هذا الموسم 46 قرية فلسطينية لعدوان شمل منع المزارعين من جني المحاصيل، وتسبب بإتلاف نحو 600 شجرة منذ بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024، إضافة إلى الاعتداءات الذي ينفذها المستوطنون الإسرائيليون على المزارعين الفلسطينيين، فيما شهد العام الماضي 2023 اقتلاع 8814 شجرة مثمرة في الضفة الغربية، من بينها 7904 أشجار زيتون مثمرة.
وتقول دول غربية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا في بيان مشترك، إن موسم حصاد الزيتون أصبح خطيرًا، بسبب إرهاب المستوطنين، كما تم الإعلان عن 96 ألف دونم من كروم الزيتون في الضفة مناطق عسكرية مغلقة، ما يهدد بفقدان 15% من محصول الزيتون البالغ 20 ألف طن، في وقت تعاني أشجار الزيتون في غزة ما يعانيه أهلها، إذ دمر الاحتلال ما يزيد عن 75% من أشجار الزيتون البالغة 1.3 مليون شجرة.
وتناولت د. خلود العجارمة وهي عالمة أنثروبولوجيا فلسطينية ومحاضرة في جامعة إدنبرة في اسكتلندا وناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المزارعين، خلال ندوة نظمها مركز العودة في لندن، معاناة المزارعين الفلسطينيين الذين يواجهون هجمات عنيفة ومتزايدة من المستوطنين، وتحدثت عن تدمير أشجار الزيتون كمحاولة لطرد الفلسطينيين من أراضيهم، مؤكدة أن موسم قطف الزيتون، بات مستهدفًا بشكل خاص في محاولة منظمة لتفكيك المجتمع الفلسطيني وتحطيم الاقتصاد الزراعي الذي طالما شكل عصب الحياة الفلسطينية.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. العجارمة لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.
"عرب 48": لماذا الزيتون؟
د. العجارمة: لقد استهدفت الصهيونية في إطار مشروعها الاستعماري الإحلالي منذ أن وطأت أقدامها أرض فلسطين، البشر والحجر والشجر، ولجأت في سياق صراعها من اجل السيطرة على الأرض إلى تخريب حياة المجتمع الفلسطيني كمجتمع زراعي واقتلاع مزروعاته وتغيير مسار حياته كجزء من خطة تهجيره واقتلاعه من أرضه.
وفي هذا السياق من المفيد التأكيد أن اعتداءات المستوطنين هي جزء من ممارسات الاحتلال وأنهم يشكلون أحد أذرعه، وإن كانت هذه الاعتداءات التي تصاعدت بشكل كبير في السنوات الأخيرة لم تقتصر على تدمير أشجار الزيتون، بل إنهم يقومون أيضًا بسرقة المحاصيل وتخريب الأراضي الزراعية، وتشير المعطيات إلى أن أكثر من 800 ألف شجرة زيتون قد تم اقتلاعها منذ العام 1967، وأن هذه الأفعال ليست مجرد تخريب اقتصادي، بل هي جزء من عملية التطهير العرقي التي تسعى إسرائيل إلى تنفيذها من خلال السيطرة على الأراضي وتدمير الرابط الثقافي العميق بين الفلسطينيين وأرضهم، وخصوصا أن شجرة الزيتون تشكل رمزًا للصمود والاستمرارية في الثقافة الفلسطينية، ولهذا السبب تعتبر مستهدفة من قبل الاحتلال ومستوطنيه.
"عرب 48": معاناة الفلاحين الفلسطينيين التي تفاقمت بعد إقامة الجدار الفاصل ووقوع جزء كبير من الأراضي من خلفه، وصلت ذروة جديدة مع اندلاع حرب الإبادة على غزة والتي امتدت تداعياتها إلى الضفة ومناطق فلسطينية أخرى؟
د. العجارمة: كما تعرف أنا أسكن في المخيم (مخيم عايدة) وفي هذا الباب فقد صفت إسرائيل هذا الحساب معنا منذ العام 1948 بالاستيلاء على أراضينا وتحويلنا إلى لاجئين، رغم أنك تجد في المخيم أيضا بعض أشجار الزيتون، ولكن حتى نحن اللاجئين كنا نخرج قبل إقامة الجدار عام 2002، في موسم الزيتون إلى أرض تقع بجانب المخيم تسمى "أرض الإنجليزية" مزروعة بالزيتون للقطاف والتنزه، فيما اعتبر جزء من ثقافة المخيم، لكن بعد إقامة الجدار أصبح ممنوعا علينا دخول هذه المنطقة.
وبالعموم يبقى الزيتون بشكل خاص هو أهم منتج فلسطيني ولأن له علاقة بالهوية أيضا يتم استهدافه من الاحتلال ومستوطنيه، ولا تقتصر العملية على الاقتلاع بهدف السيطرة على الأرض بل تتعداها إلى محاولة مصادرة شجرة الزيتون التي ترمز إلى هوية هذه البلاد في إطار تزييف وسرقة التاريخ والتراث الفلسطيني وتركيب وخلق هوية مصطنعة للمستعمرين اليهود.
وإذا ما لاحظت على سبيل المثال فإن شجرة الزيتون المزروعة في دوار مستوطنة "معاليه أدوميم" المحاذية للقدس، يبلغ عمرها كما يظهر من تجعدات جذعها مئات السنوات، وهذه الشجرة تم اقتلاعها من بيت جالا، وقد تجد مئات الأشجار من مثيلاتها مزروعة في مداخل وجادات شوارع المدن اليهودية وسهول مستوطناتها.
وعند الحديث عن ما يقارب المليون شجرة تم اقتلاعها منذ العام 1967 من أراضي الضفة الغربية، فبدون شك غالبية هذه الأشجار قد جرى نقلها وزراعتها في المدن والمستوطنات اليهودية الكائنة في الضفة وفي الداخل.
وفي هذا السياق، يقوم المستوطنون في بعض الأماكن بهجمات منظمة وغير منظمة على الأراضي المزروعة وكروم الزيتون، ويقطعون الأشجار ويتلفون المزروعات ويهاجمون أصحابها ويعتدون عليهم وكل ذلك تحت مرأى ومسمع بل وحماية جيش الاحتلال.
"عرب 48": الأراضي الواقعة غرب الجدار يحتاج الدخول إليها إلى عبور بوابات واستصدار تصاريح ليس من السهل عبورها والحصول عليها؟
د. العجارمة: بعض الدراسات تشير إلى أن مساحة الأراضي الواقعة خلف الجدار تبلغ 15% من مساحة الأراضي الزراعية في الضفة الغربية، وهذه الأراضي أصبحت تقع في المناطق الحدودية بين الجدار والخط الأخضر الذي يمثل حدود الهدنة في الـ48، بينما يبلغ عدد الفلسطينيين المتضررين من هذا الواقع ما يقارب 25 ألفا.
لكن القضية لا تنحصر في هذه الأراضي فقط، بل هناك أيضا ما يسمى بـ "مناطق إطلاق النار" و"المناطق المحاذية للمستوطنات" أو "الشوارع الالتفافية" والمناطق التي تقع فيها "نقاط عسكرية" وكذلك "المناطق المحاذية للحواجز ونقاط التفتيش"، وكما هو معروف فإن الاحتلال يقوم باستغلال كل هذه الإجراءات سالفة الذكر للحد من وصول الفلسطينيين إلى أراضيهم، وكما هو معروف فإن غالبية هذه الأراضي تقع في المناطق (ج) التي تشكل 60% من مساحة الضفة الغربية وتخطط إسرائيل لضمها والسيطرة عليها فعليا ورسميا.
"عرب 48": في السنة الماضية حالت إجراءات الاحتلال واعتداءات المستوطنين دون قطف مساحات واسعة من كروم الزيتون لتعذر وصول أصحابها إليها؟
د. العجارمة: صحيح، تقرير وزارة الزراعة الفلسطينية أشار إلى أن 96 ألف دونم من الزيتون لم يتم قطفها لأن أصحابها لم يتمكنوا من الوصول إليها، وهي تشكل 15% من المحصول السنوي، وهذه السنة يتوقع أن يصل الرقم إلى 80 ألف دونم.
وفي الأسباب تجد أن بعضها يرتبط بعدم منح سلطات الاحتلال التصاريح المطلوبة لأصحاب الأراضي الواقعة خلف الجدار للدخول إلى أراضيهم لدواع أمنية، إلى جانب إرهاب المستوطنين واعتداءاتهم على كروم الزيتون وعلى الأهالي، وفي كثير من الأحيان كان هؤلاء يصادرون الزيتون الذي قطفه الأهالي تحت تهديد السلاح ويعتدون على النساء والأطفال والرجال تحت حماية الجيش الإسرائيلي.
وفي أحيان أخرى كان المستوطنون يقومون بحرق كروم الزيتون دون وازع أو رادع من إحراق أشجار عمرها مئات السنوات، رعاها أصحابها بتعبهم ودموع عيونهم، طيلة السنة والسنين الماضية بانتظار المحصول.
وعلى سبيل المثال فإن قرية وادي فوكين القريبة من بيت لحم والتي تجاورها أربع مستوطنات، يقوم المستوطنون بتحويل مياه الصرف الصحي نحو أراضي القرية المزروعة وكرومها بهدف تلويث المحصول، وفي مناطق معينة يقومون باستعمال الخنازير البرية لتعيث فسادا في الأراضي الزراعية وكروم الزيتون الفلسطينية، كما لا يدخرون أي أساليب أخرى في استهداف الانسان والزيتون الفلسطيني.
د. خلود العجارمة: محاضرة في علم الإنسان في جامعة إدنبرة. حاصلة على الدكتوراة في علم الإنسان من جامعة "جروننغن" في هولندا، والماجستير في دراسات التنمية من جامعة "بيرغن" في النرويج.
التعليقات