نحو استراتيجية "خطاب اعلامي موّحد" للعرب في الداخل/ أحمد أبو حسين

-

نحو استراتيجية
تعرف المجتمعات المدنية والحديثة أن تدير الخطر أو تضع خطة لمواجهة خطر داهم، وذلك لتفادي الخسائر المحتملة أو على الأقل التقليل من حجمها حفاظا على سلامة المجتمع، فمثلا هناك مشاكل سكن في بعض الدول التي تشهد تزايدا سكانيا أو مشكلة البطالة المستفحلة في العالم والبحث عن فرص عمل أو مشكلة مواصلات أو حتى مشكلة تتعلق بقضايا التربية والتعليم وقضايا تخص الفردانية والعمل الجماعي والتطوعي، وما إلى ذلك.

إذا الدول التي تواجه معضلات ومشاكل كبرى من هذا القبيل تستعين بخبراء لإدارة الخطر، وتحاول أن تبني استراتيجيات وحلول لحل القضايا العالقة التي تعيق تطور المجتمع، وبما أن المجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل هو مجتمع صغير وهامشي وخارج سياق الحلول المطروحة من قبل متخذي القرار في إسرائيل، ولا يحظى بإهتمام من قبلها بل بالعكس هناك "عقلية تآمر" في التعامل مع قضاياه اليومية العالقة، فلا بد من التفكير بطرق سليمة حول "إدارة صراعه" مع المؤسسة الاسرائيلية دون المراهنة على أن الدولة تستطيع أن تقدم حلولا أو إقتراحات حلول لمشاكله. ولكي نغوص الى أعماق البحث عن طرح إستراتيجية خطاب إعلامي جديد يحظى بإهتمام لا بد أن نتوقف عند هذا المجتمع وخصوصيته، وإن كانت الخصوصية ليست شذوذا عن القاعدة، ولكن لا تعفي التبريرات والحجج في هذه الحالة بسبب الوضعية الخاصة من أن نطرق باب الخطاب الاعلامي الخاص بهم، شريطة التوقف بسرعة على حال المجتمع:-

1- الغارق بقضايا "مستعصية على الحل" وتعرض الى تشويه أخلاقي وتهميش وطمس هوية تشبه العاهات الجسدية، ساهم بها تيار تاريخي وانتهازي مصلحي ربط مصيره ومستقبله بالمؤسسة الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية. وعجز هذا المجتمع خلال العقود الماضية عن صياغة حركة وطنية صلبة بسبب هذه العاهات والأمراض التي لحقت بالمجتمع، كما أنها فشلت في إقامة حركة ثقافية نهضوية ملتزمة نشطة وفشلت بإصدار جريدة يومية أو حتى دورية فكرية ثقافية جادة.

يسأل السؤال على ألسنة "المراقبين خبراء التحليل السياسي بأجر أو أتعاب"، أين الأحزاب أو أين قوى الحركة الوطنية التي من المفروض أن تقدم حلولا عصرية وتدير أخطار مجتمع يعيش على هامش دولة؟ السؤال الذي يجب أن يسأل أين المثقفون والأكاديميون الوطنيون الذين من المفروض أن يبنوا حركة وطنية تحرس مصالح الناس وتتابع همهم اليومي والقومي بدل "النق" وشرعنة الابتعاد عن "مفحمة السياسة خوفا من الشحبرة " وحفاظا على "الوظيفة" وعدم الاحراج من زملاء "المهنة"، ولا ننسى أن هَمّ هؤلاء المثقفين يجب أن يكون مختلفا عن همّ مثقف أو أكاديمي آخر لأنهم أبناء هذا الشعب الذي تعرض لنكبة وسطو أرضه.

2- ويعيش هذا المجتمع في دولة كولنيالية بكل ما تعني الكلمة من معنى، ولنترك جانبا ما تسمى دولة الرفاهية والمساعدات الاجتماعية، لأن التقارير الاسرائيلية والأبحاث تؤكد انه حتى في حالة إعتبار إسرائيل دولة رفاهية إجتماعية يكون سلوكها مع المواطنين العرب عندما يصطفون على أبواب دولة الرفاه كمن"يجمع الفتات" أو "الحقوق" يكون سلوكا كولونياليا أو سلوك دولة كولونيالية مع اصحاب البلاد الأصليين، وتتعامل هذه الدولة مع مواطنيها العرب بمنطق محاصرة التطور المتعمد وعقلية التآمر سواء كان جغرافيا أواجتماعيا أو سياسيا أو إعلاميا.

وإذا كان المجتمع العربي في الداخل يبحث عن تنظيم نفسه في مؤسسات قومية لا بد أن يضع خطابا إعلاميا ضمن مشروعه السياسي. ويكاد الخطاب العربي في هذه البلاد يكون "موحدا" في قضايا تتعلق بالعنصرية و"المساواة في الحقوق" والاحتلال الاسرائيلي وحتى المواطنة، وإن اختلفت المفاهيم والمعاني في الطروحات وعندما يغني الوطني والعميل داخل السرب تتشوه الاغنية وتصبح نشازا، ولا "قيمة" للخطاب بسبب مصدر الصوت. ويشترك العميل في الغناء لشرعنة صوته النشاز. ومن داخل هذا الخطاب تتشعب خطابات مثل "الخطاب الساذج" وهو الخطاب الرسمي للجنة المتابعة العربية ويتميز على أنه "خطاب المصالحة ومصلحة الشعبين". وهناك خطاب طائفي آخر يحظى بتغطية في الصحف المحلية والتجارية لا يناقش ولا يوجّه ضده انتقادات. قد يكون التيار الاسلامي في الداخل مثلا يحظى بشعبية مثل حال التيار الاسلامي في الوطن العربي بسبب المرحلة، لكن أدواته الإعلامية الخاصة محدودة ربما بسبب اللغة والخطاب، لكن هذا لا يعني أن نشاطه وتصريحات قياداته لا تحظى بتغطية، وهناك انفتاح في الإعلام العربي والمحلي على هذا التيار أكثر مما هو منفتح على التيارات الأخرى.

وهناك خطاب ولغة سياسية سائدة في أوساط المثقفين والصحفيين ساد في السنوات الأخيرة، وتحوّل إلى خطاب شبه رسمي مع بعض التشويشات هنا وهناك من قبل الناشطين السياسين من مختلف التيارات و"ناشطي مؤسسات المجتمع المدني". وهؤلاء ينتمون لتيارات مختلفة مما يؤكد أنه بالأمكان صياغة خطاب عربي موّحد في قضايا عينية تخص المجتمع حول مستقبله في الدولة اليهودية.

وبما أننا لا نتحدث في هذه الورقة عن استراتيجية الإعلام والخطاب السياسي للعرب في اسرائيل، كان لا بد من هذه اللفته القصيرة أو التعريج على اللغة أو الخطاب الذي تستعمله "القيادة السياسية" للعرب في الداخل كي نستطيع أن نقفز إلى ما يسمى "إستراتيجية للاعلام العربي" الذي يمثل أطياف المجتمع سواء كانت سياسية أو إجتماعية.

وكي نستطيع أن نبني استراتيجية للاعلام العربي علينا أولا أن نحدد أين الاعلام العربي في الداخل وما هي آلياته :-

1- صحف "تجارية"
2- صحف حزبية
3- مواقع الكترونية ملتزمة ودعائية تجارية
4- راديوهات ومحطات كوابل مختلفة ( مرئي ومسموع )
5- كادر صحفي مهني
6- كتّاب المقالات والاعمدة واللوغرز
7- مراسلون للاعلام العربي العام

وعندما نحدد هوية الإعلام وأهدافه وأمراضه ومشكلاته نستطيع أن نهتدي الى الطريق. ما هي المشكلات الناجمة في الصحف "التجارية"؟ ومن هو طاقم الصحفيين الذي يعمل فيه؟ من هم أصحاب الجريدة وما علاقتهم بالمؤسسة الإسرائيلية؟ وهل هناك صحفيين يتمتعون بجرأة فتح ملف الجريمة والعنف والفساد في أوساط العرب في الداخل مع ذكر الأسماء وأسماء رؤساء سلطات محلية عربية لهم علاقات مع تجار المخدرات والسلاح؟ ما علاقة الجرأة بالأخلاق الصحفية؟ هل هناك صحفيون مهنيون أم هناك موظفون يعملون عند تجار إعلانات؟ لماذا يتجرأ صحفي مثلا على التطاول على جمعية وطنية وأهلية ويصمت على جريمة شرف عائلة في بلده أو مهاجمة عميل بالإسم أو صاحب جريدة له ارتباطات مكشوفة مع اسرائيل ( أنظر مثلا تحريض صحف مصرية على رؤوس أموال وأصحاب نفوذ أو مقالات وإفتتحايات كتبها "معتقون في الارض " ضد مؤسسة الرئاسة في مصر بخصوص التوريث، لا أتباهى هنا بحرية الصحافة في مصر ولا بديمقراطيتها بل بجرأة صحفيين مقابل جرآة موظفين في صحافة تحتمي كما يبدو بإسرائيل فقط )، المعذرة من القارئ فلا مجال للمقارنة بين الصحافة العربية المهنية والتاريخية رغم الحالة القمعية العربية وبين ما تسمى "صحافة" أو ما تشبه الصحافة في بلادنا. أين التحقيقات والتقارير السردية وكتاب الأعمدة؟ أين ثقافة قراءة الجريدة لهذا المجتمع؟ ماذا يعني أن ننكشف على جريدة ؟ وما هي هذه الجريدة ؟ هل هي جريدة عبرية أم جريدة "عربية إسرائيلية"؟ وكيف يمكن أن نصنع ثقافة من هذا النوع أو ثقافة متابعة كتاب مقالة أو أعمدة؟

هل من الممكن نبني إستراتيجية لإعلام جزء منه مرتبط بإسرائيل ومؤسساتها الحكومية وشركاتها الاحتكارية.
نقطة الانطلاق لبناء استراتيجية للاعلام العربي بالغة الاهمية والصعوبة والأمر لا يحتاج فقط الى خبراء كما أسلفت أعلاه بخصوص "إدارة الخطر"، وأسميه هنا خطرا لأننا نتعامل مع الناس وقضاياهم اليومية وهمهم القومي، ونسعى أيضا لتطوير نمط إستهلاكي يختلف عن أنماط الاستهلاك السائدة من متابعة الاغاني الهابطة والترفيه المبتذل.

والمشكلة تكمن في كيفية تشخيص وتحديد هوية الأعلام القائم، ومن هناك يتم البحث ووضع فرضيات وفق أساليب البحث حول " نزعات الناس تجاه إعلام الأغلبية " أو الى كيفية بحث أنماط استهلاك تجاه إعلام الأغلبية. علينا أن لا ننسى أن إعلام الاغلبية هو إعلام المؤسسة ألأسرائيلية أو على الأصح إعلام الإعلام الإسرائيلي، وإعلام "أغلبية ألاقلية العربية " هو إعلام دون معان ومضامين.

مرّة أخرى أعود وأكرر، علينا أن نحدد هوية المصدر.. مصدر الإعلام ومن ثم نذهب الى الجمهور ونفحص أنماط استهلاكه ومزاجياته.

ونتفق في هذا السياق مع الخبراء بخصوص العلاقة الجدلية والتأثيرية بين أنماط أستهلاك المجتمع العربي وأنماط الاستهلاك العامة في اسرائيل، خاصة أنه يتقاطع ويتداخل مع جميع مركبات الحياة العامة؛ السياسة والاقتصاد والاجتماع. وبرغم هذه العلاقة الجدلية ننوه إلى حقيقة أنه لا يوجد إقتصاد مستقل أو " إقتصاد عربي قائم بحد ذاته داخل إسرائيل. وبناءاً على هذا المعطى نستنتج انه لا يوجد إعلام مستقل خارج القوانين الإسرائيلية، أو بمعنى آخر كلها خاضعة للرقابة الإسرائيلية.

هل هناك أعلام وطني وقومي مستقل داخل حدود المواطنة الاسرائيلية؟ والجواب على هذا السؤال يمكن اشتقاقه من الإجابة على السؤال الكبير "المعضلة ".. هل هناك فعلا حركة وطنية ضمن حدود المواطنة الاسرائيلية؟ وهل من الممكن أن "ننجح" ونبني حركة وطنية صلبة داخل حدود المواطنة؟ أم نكتفي بصياغة خطاب إعلامي لوطنيين غير منظمين يلعبون لعبة السياسة متى شاءوا؟ وهل نستطيع أن نصوغ استراتيجية للإعلام العربي في إطار القوانين الاسرائيلية وما جدواها وما هي محدوديتها؟

الناس تبحث عن الجيّد في الإعلام، وعندما لا تجد ما يعنيها فعلا تضطر أن تذهب للترفيه حتى وإن كان مبتذلا، وهذا ما يفسر إستهلاك جريدة "تجارية" وصلت للمستهلك من خلال محطة وقود توزع الجريدة مجانا وانكشفت عليها أسرة يصل عددها عشرة أنفار.

والإثارة في الصحافة ليست بالضرورة "سيقان عارضة أزياء" ولا حتى "حكاية عذراء نسجها المحرر "، قد تتحول الموضوعات السياسية كالكتابة عن "الجواسيس" ولعبة "المتعة والسلطة " ( قصص الاميرة ديانا، فضائح نتانياهو، كلينتون وليفنسكي، فضائح شارون) إلى موضوعات إثارة صحفية مكتوبة بطريقة سردية جميلة وترفع من مبيعات جريدة. والإثارة كمتغير لها علاقة مباشرة بوعي الناس وتسيسيهم، المسوّقون هم الذين يسوّقون أي سلعة حتى وإن كانت برنامجاً سياسياً أو وثيقة..( وثيقة جنيف وزّعت في محطات الوقود والانترنت ونالت انكشافا عاليا ولكن هذا لا يعني أنها لاقت تأييدا). والمسوّقون هم الذين يصنعون التأثير ويرفعون وتيرة المبيعات وهذا يتم عبر الميديا والإعلام. والإعلام الوطني يستطيع أن يسوّق نفسه وفق نظريات التسويق الحديث ( تسويق سياسي) بعد فحص وتحقيق أنماط الإستهلاك وتشخيص القائم.

علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا يترك الناس الجريدة الملتزمة ويتجه نحو صحف الاعلانات؟ لماذا يبحر في موقع ترفيهي أكثر من موقع يتابع الهم السياسي والاجتماعي العام؟ هل هذا خلل مجتمعي ام خلل في جريدة أو موقع على الشبكة؟ الجواب على هذه الأسئلة تكمن في المهنية والتسويق وفي الوقت نفسه معالجة معيقات المجتمع.

خلاصة القول، برغم محدودية الاستراتيجية الاعلامية بسبب القوانين الاسرائيلية التي لم تستغل الى الآن حتى النهاية، هناك أمكانية لصياغة استراتيجية إعلامية وطنية يضبطها ميثاق أخلاقي لمهنة الصحافة في هذه البلاد.

التعليقات