72 عاما على النكبة: معارك في النقب وسيناء (30/2)

ما هي الأسباب التي دفعت الملك فاروق إلى دخول حرب فلسطين؟ كيف تحولّت الانتصارات الممتالية في الجيش المصري إلى الهزيمة؟

72 عاما على النكبة: معارك في النقب وسيناء (30/2)

من معارك النكبة

(أهدي هذه السلسلة لروح صديقي المرحوم هاشم حمدان، الذي كان له الدور الأكبر في تشجيعي على الاستمرار بكتابتها)

لمتابعة الحلقة الأوّل من "معارك في النقب وسيناء" اضغط/ي هنا.


انطلاق المرحلة الأولى من الحملة - معارك التبّة 86

كان الملك فاروق يعتقد أن دخول مصر حرب عام 1948، سيساعده على حل المشاكل الكبيرة التي كانت تعاني منها دولته، والتي أدّت إلى غليان شعبي واسع وحركة إضرابات كبيرة، وخاصة إضراب أفراد الشرطة بسبب مطالبتهم بتحسين ظروفهم وزيادة أجورهم. ففي الفترة التي تزامنت مع بدء أحداث عام 1948، كانت مصر تمر بحالة شبيهة بحالة الحرب، إذ ارتفعت أسعار السلع الأساسية، وانخفضت أسعار المحاصيل والمنتوجات الوطنية، وعانى السوق من كساد لم يسبق له مثيل. ناهيك عن المحنة السياسية الكبيرة التي عانت منها الحكومة المصرية في ذلك الوقت (حكومة فهمي النقراشي باشا) فما زالت مصر تعاني من الاحتلال العسكري البريطاني، وكانت الحكومة قد فشلت في التوصل إلى حل للقضية الوطنية من خلال المفاوضات مع الإنجليز أو من خلال التحكيم الدولي، ما ساهم في نشوء حركة اضطرابات واسعة في جميع فئات الشعب.

كان الملك يبحث عن شيء كبير، يصمّ الآذان ويجذب الأنظار إليه، بحيث تتحول اهتمامات الشعب إلى دعم الجيش في حرب فلسطين، وبذلك تتحقق أهدافه فيهدأ الرأي العام المصري الذي يطالب بإصلاحات داخلية تحسن الأوضاع السيئة في مصر. من جهة أخرى، فإنّ تحقيق انتصارات كبيرة للجيش المصري في حربه ضد العصابات الصهيونيّة من شأنه أن يزيد من قيمة أسهم الملك الجماهيرية، والتي كانت في الحضيض في تلك الفترة، وإظهاره بمظهر المنقذ لأرض فلسطين وشعبها، أو على الأقل لجزء منها.

بعد حملة "يوآڤ" ضد الجيش المصري، صار لدى القيادة المصرية اعتقاد بأنّ جيشها في وضع بائس، ولربما سيتم القضاء عليه من قبل الجيش الصهيوني. ما أراده الملك فاروق من انتصارات تحوّل إلى هزيمة كبيرة، وما على الجيش المصري إلّا أن ينسحب من فلسطين وإلّا كانت النهاية أسوأ بما لا يقاس من الهزائم التي حدثت في شهري تشرين أول/أكتوبر وتشرين ثانٍ/نوفمبر 1948. إمكانيّة أخرى من شأنها أن تمنع هجومًا صهيونيًا مرتقبًا على الجيش المصري، هي الدخول في مفاوضات لإطلاق نار دائم في فلسطين. كان هذان الخياران سيئين بنفس الدرجة بالنسبة للقيادة المصرية، السياسية والعسكرية على حد سواء، فكلاهما عبارة عن وصمة عار كبيرة، وكلاهما سيؤدي إلى غضب شعبي واسع يضعف الحكومة المصرية وهيبة الملك فاروق. الخيار الثالث، وهو الوحيد الذي من الممكن تحقيقه، هو الصمود ومن ثم الاحتفاظ بالنقب كاملًا تحت سيطرة الجيش المصري، عبر قرار أممي، وخاصة أنّ قرارات الأمم المتحدة بعد حملة "يوآڤ"، طالبت إسرائيل بأن تعيد جنودها إلى مواقعهم التي تمركزوا بها حتى 14 تشرين أول/أكتوبر 1948، أي قبل انطلاق حملة "يوآڤ" (عن الحملة انظر /ي الحلقات 26/1 حتى 26/4).

من جهة أخرى، فأيّ خيار ما عدا إجبار الجيش المصري على الانسحاب من فلسطين، كانت القيادة الصهيونية، وعلى رأسها دافيد بن غوريون تعتبره خيارًا سيئًا، ولذلك بدأ الاستعداد لتنفيذ حملة "ع" (التي تغير اسمها إلى حملة "حوريف" في ما بعد) ضد الجيش المصري. كانت هذه هي الحملة الأكبر والأعقد خلال حرب 1948، وكان التخطيط لها يشمل تنسيقًا بين القوات البريّة، مشاة ومدرعات، والقوات الجوية والقوات البحرية معًا، وذلك للمرة الأولى خلال الحرب، نظرًا للخبرة التي اكتسبتها القوات الصهيونية وقيادتها خلال معارك الأشهر السابقة. ليس هذا فحسب، بل أنّ الجبهات الصهيونية الأخرى كانت على أهبة الاستعداد لأيّ تدخل عربي لصالح الجيش المصري، خاصة إذا حدث تحرك من منطقة الخليل باتجاه جيب الفالوجة المحاصر، أو تحرك عراقي من المنطقة الشرقية لوادي عارة. بالإضافة إلى ذلك، كانت العريش، عاصمة شبه جزيرة سيناء، إحدى الأهداف التي وضعتها الحملة نصب أعينها.

كان طموح الحكومة الصهيونية أن تنتهي الحرب بسرعة، فترتاح من العبء المادي لتجنيد عشرات الآلاف الذين ينتظرون الأوامر من أجل المعارك المقبلة، من جهة، ومن جهة أخرى توسيع رقعة الأراضي التي تحتلها من أجل استغلال خطوط الهدنة الجديدة، والتي ستنشأ بعد انتهاء الحملة الجديدة، في مفاوضات إطلاق النار التي تأمل في الوصول إليها حالما تجبر الجيش المصري على ذلك، بفعل الهزيمة التي سيتلقاها في المعارك الكبيرة التي تخططها القيادة العسكرية الصهيونية.

في يوم 22 كانون أول/ديسمبر 1948، أعلنت الحكومة الصهيونية، أنّها ترى نفسها حرة التصرف ضد الجيش المصري في فلسطين، وأعطت الأوامر بأن تنطلق حملة "حوريف" حالما تصبح الأحوال الجوية أحسن حالًا، فالمطر الشديد في تلك الأيام كان من شأنه إبطاء تحرك المدرعات وسيارات الجيب الصهيونية. كانت الظروف مهيّأة تمامًا لبدء الحملة، خاصة أن الدول العربية الأخرى - غير مصر- لن تمد ّيد العون للجيش المصري، حيث أنّ الزعماء والسياسيين العرب لم يصلوا إلى اتفاق على تنفيذ قرارات القيادات العسكرية العربية (انظر/ي الحلقة السابقة 30/1)، والتي ترى حاجة ماسة لرص الصفوف وتجنيد كل الطاقات العربية في المعركة، تحت قيادة واحدة موحدة.

قوام القوات المشاركة في الحملة

كان التخطيط العسكري للحملة قد بدأ في شهر تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، وحتى بداية الحملة تم تغيير الخطة من حين إلى آخر، كانت المهمتان الرئيستان للحملة هما: الضغط على منطقة عوجا الحفير واحتلالها واحتلال رفح لمحاصرة كل القوات المصرية في فلسطين، خاصة القوات الرئيسية في قطاع غزة. في العاشر من كانون أول/ديسمبر 1948، صدر أمر حملة "حوريف" للمرة الأولى (كانت ما زالت تسمى حملة "ع")، بهدف طرد الجيش المصري من فلسطين، بدون تفصيل كامل لما سيكون في الحملة، بل إنّ التحرك العسكري سيجري وفقًا لردة الفعل المصرية، وبدون ذكر أن أحد أهداف الحملة هو الدخول إلى الأراضي المصرية. في يوم 15 من نفس الشهر، أصدرت القيادة الجنوبية للجيش الصهيوني أمر الحملة للوحدات التي ستشارك في الحملة. وبعدها بيومين عيّنت ساعة الصفر بتاريخ 20 كانون أول/ديسمبر، ومن ثم أجّلت إلى ليلة 22-23 بسبب حالة الطقس الرديئة.

كانت قوات المشاة والمدرعات المشاركة في الحملة على النحو الآتي: لواء "غولاني" بكل كتائبه مع إضافة مئات من جنود الاحتياط، الكتيبتان الثانية والثالثة مشاة، وكتيبة الإغارة المحمولة على عربات ورقمها 19. لواء "شموني" المدرع بكل كتائبه، الكتيبة الثانية دبابات، والكتيبتان المدرعتان الثامنة والتاسعة. لواء "هاريئيل" بكل كتائبه، الكتيبة الرابعة والخامسة والعاشرة. لواء "هنيغيف" بكل كتائبه، الكتيبة السابعة مع إضافة الكوماندو الفرنسي (الذي شارك في احتلال بئر السبع)، والكتيبة التاسعة إغارة المحمولة على عربات، والكتيبة الثامنة مشاة. لواء "إسكندروني" بكل كتائبه، وكانت مهمته تكمن في الهجوم على اللواء المصري الرابع المحاصر في الفالوجة وعراق المنشية فيما سمي بحملة "حيسول" (انظر /ي الحلقة 29/2 بعنوان صمود رجال الضبع الأسود).

أمّا سلاح المدفعية، فتكوّن من الكتيبة 402 المؤلفة من ثلاث سرايا، والكتيبة 403، و4 بطاريات مدفعية ثابتة مضادة للدبابات، وبطارية واحدة متحركة عيار 20 مم على أنصاف مجنزرات، وثلاث بطاريات هاون 120 مم. وكذلك كانت القوات المشاركة في الحملة تشمل قوات جوية وثماني سفن من القوات بحرية.

أما القوات المصرية، فكان أغلبها متواجدا في غربيّ المنطقة التي يسيطر عليها الجيش المصري، في غزة ورفح ودير البلح وخانيونس، وكانت مكونة من 10 كتائب مشاة، و3 كتائب مشاة محمولة على عربات، وخمس سرايا سعودية، و3 بطاريات مدافع هاون عيار 81 مم، و6 جماعات مدافع ماكينة، و3 جماعات مدفعية مضادة للطائرات، وجماعتي مدفعية مضادة للدبابات. أما في قطاع العوجا - بير عسلوج فتواجدت 7 سرايا مشاة، وسريتان من كتيبة المرابط، و3 جماعات هاون 81 مم، والكتيبة العاشرة مشاة، وثلاث فصائل مدافع ماكينة. (التفصيل الكامل لتوزيع القوات المصرية قبل الحملة تجده / تجديه في الحلقة السابقة 30/1).

الخطة العسكرية لحملة "حوريف"

عندما انتهت حملة "أساف" (انظر/ي الحلقة السابقة 30/1)، واحتلت القوات الصهيونية تلّة الشيخ نوران وما حولها، قامت القوات المصرية بتحريك لواء كامل من منطقة العوجا - بير عسلوج إلى منطقة غزة. هذا التحرك أعطى القيادة العسكرية الصهيونية الفكرة الأساسية للحملة التي كان تخطط لها لطرد الجيش المصري من فلسطين. الذي حدث هو أنّ تخفيف القوة المصرية المتمركزة في قطاع العوجا - بير عسلوج، يعني أنّ الهجوم المركزي يجب أن يكون ضد هذا القطاع، لأنه أصبح ضعيفًا وليس بشكل مباشر ضد القوات المصرية المركزية في قطاع غزة- رفح، والتي كانت ضخمة ومحصّنة بشكل جيد، ولديها كل العتاد اللازم لصد حملة صهيونية مهما كانت كبيرة بمقاييس تلك الأيام.

كان إسقاط واحتلال الخط المصري الجنوب شرقي بالنسبة للقوات الصهيونية، أي قطاع العوجا - بئر عسلوج معناه أنّ القوات الصهيونية ستكون المسيطرة على كل الصحراء حتى أم الرشراش، أي السيطرة على كل النقب، وربما ستضعِف هذه الخطوة الخطّ الغربي للجيش المصري، أي قطاع غزة - رفح. كانت خطة الهجوم هذه في دفع حركة تطويق واسعة للجيش المصري، بشكل معاكس لاتجاه حركة التطويق التي نفذها الجنرال ألنبي في تشرين أول/أكتوبر عام 1917 ضد الجيش التركي، حيث قام جيشه بتطويق الجيش التركي بواسطة طوي جناحه البعيد شمالًا بغرب في اتجاه البحر. بينما حركة التطويق في حملة "حوريف" هدفت إلى الالتفاف على جناح القوات المصرية الشرقي وطيّه جنوبًا وغرب ثم شمالًا باتجاه البحر المتوسط. وكما بدأ هجوم ألنبي بتمويه ضد الجناح الغربي للجيش التركي، فإنّ هجوم الجيش الصهيوني كان سيبدأ بمعركة خداعية ضد مناطق الجيش المصري في قطاع غزة - رفح.

كانت الخطة الصهيونية لاحتلال العوجا مبنية على ثلاث حقائق:

  1. الأولى هي أنّ الجيش المصري مبدع في الحرب الدفاعية، ولذلك فإنّ هجومًا ينطلق من مدينة بئر السبع، عبر طريق بئر السبع - العوجا، سيكون مصيره الفشل، إذ أنّ القوات المهاجمة عليها أن تحتلَّ الكثير من المخافر والثكنات العسكرية المصرية، ما سيتسبّب بخسائر فادحة، وإضاعة الكثير من الوقت المعد للحملة، وهو أسبوعان على الأكثر، قبل أن تعلن الأمم المتحدة عن تجديد الهدنة. الهجوم المباشر، إذًا، سيُفشل الحملة. ولذلك، يجب اعتماد الحقيقة الثانية.
  2. الثانية مفاجأة القوات المصرية في قطاع العوجا - بئر عسلوج، بواسطة الوصول إليها في أسرع وقت ممكن في خط مستقيم بواسطة طريق روماني قديم يتم إعداده على يدي قوات الهندسة، وبذلك يتم احتلال العوجا عن طريق تطويقها عبر وادي الأبيض، بعد المرور عبر الطريق الرومانية ومفاجأة القوات المصرية المتواجدة هناك.
  3. أمّا الحقيقة الثالثة، فكانت أن الغلبة في ميدان المعركة ستكون للقوة الأكبر في المعركة الدائرة نفسها، وليس في كل المناطق التي يسيطر عليها الجيش المصري، ولذلك سيجري الهجوم على العوجا وبئر عسلوج بواسطة اللواء المدرع "شموني" ولواءي "هاريئيل" و"هنيغيف"، بحيث يقوم اللواء المدرع بمهاجمة العوجا عن طريق الوادي الأبيض، بالاشتراك مع كتيبة مشاة من لواء "هاريئيل"، ويغلق الطريق المؤدي إلى رفح وأبو عجيلة لمنع وصول نجدات. في نفس الوقت يقوم لواء "هنيغيف" بمهاجمة مواقع بئر الثميلة، الواقعة جنوبي العسلوج، فيحتلها ويهاجم العسلوج من الجنوب، أي من الجهة غير المتوقعة لأي هجوم عليها، وتهاجم قوات الجيب من كتيبة الكوماندو للواء "هنيغيف" فتحتل المشرفة، عبر طريق غير ممهد.

في المرحلة الثانية من الحملة، تقوم القوات التي احتلت العوجا وبئر عسلوج بالدخول إلى شبه جزيرة سيناء واحتلال أبو عجيلة، وبذلك تتم السيطرة على الطريق الوحيدة من فلسطين إلى الإسماعيلية في العمق المصري. بعدها، تستمرّ القوات فتهاجم مدينة العريش، عاصمة سيناء، كل ذلك من أجل إضعاف القوة المصرية المتواجدة في قطاع غزة - رفح، التي ستقوم بإرسال قوات تعزيزية للدفاع عن العريش والطريق إلى مصر، عند ذلك تتم مهاجمتها من الشرق والجنوب والقضاء عليها.

العصابات الصهيونية خلال المعارك (أ ب)
العصابات الصهيونية خلال المعارك (أ ب)

حتى تنجح كل هذه العمليات، كانت الخطة تقضي بأن يقوم لواء "غولاني" بجميع كتائبه، بمهاجمة القطاع الغربي للقوات المصرية، أي قطاع غزة - رفح، من اليوم الأول للحملة، وتقوم باحتلال مواقع قريبة من رفح، فتقطع طريق غزة - رفح، وتتمركز على التلال رقم 108 و87 و84 و81. وكان الهدف من عمليات لواء "غولاني" هو إلهاء القوات المصرية عن تحضيرات وتحركات المدرعات والمشاة الصهاينة في طريقهم لاحتلال عوجا الحفير وبئر عسلوج.

وحتى يكون التمويه كاملًا، تقوم القوات البحرية بقصف غزة ورفح في تزامن مع هجوم المشاة عليهما من جهة الشرق. أمّا القوات الجوية فتقوم بتثبيت الأمر بواسطة قصف رفح وغزة وخانيونس بشكل مكثف منذ اللحظات الأولى للحملة، بل حتى قبل إطلاقها، وكذلك تهاجم المطارات المصرية بجانب العريش، من أجل ضرب الطائرات على الأرض.

بقي أن نذكر هنا، أن هذه الحملة كانت تستهدف، أيضًا، احتلال جيب الفالوجة وعراق المنشية، والقوات المصرية المحاصرة فيه، عن طريق لواء "إسكندروني" (عن هذه الحملة انظر/ي الحلقة 29/2 بعنوان: صمود رجال الضبع الأسود).

انطلاق الحملة بهجوم جوي وبحري

بدأت الحملة في يوم 22 كانون أول/ديسمبر 1948، بواسطة سلاح الجو الصهيوني، حيث انطلقت قاذفتان من نوع B-17، بصحبة طائرتين من نوع "سبيتفاير" لحمايتهما، في الساعة 14:50، تحمل كل واحدة منهما 30 قنبلة بوزن 100 كغم، وقامتا بإسقاط هذه القنابل على مطار العريش، بدءًا من الساعة 16:04، ما أدّى إلى تدمير طائرة واحدة على الأرض، وإصابة مسارات الطيران.

في ساعات الغروب قامت طائرة من نوع "ديكوتا" بإسقاط 16 قنبلة بوزن 100 كغم على مدينة رفح، وأصابت هذه القنابل عدة أبنية كبيرة. وفِي الساعة 16:04 قامت أربع طائرات من نوع "هارڤارد" بإلقاء 24 قنبلة بوزن 50 كغم، و8 قنابل بوزن 30 كغم. أصاب هذا القصف مركز للقيادة المصرية، ما تسبّب بإصابة ضبّاط مصريّين. وكذلك قصفت الفالوجة بواسطة أربع طائرات من نوع "فايبر".

في نفس اليوم ليلًا، قامت السفن الحربية الصهيونية بقصف غزة ورفح والعريش بمدافعها. في الساعة 22:00، قصفت غزة من بعد ميلين بنجاح، وتمكّن طاقم السفينة الحربية من التصويب على الأضواء التي سطعت من المدينة. بعد منتصف الليل، وصلت نفس السفينة مقابل مدينة رفح، وأطلقت قذائفها نحو الشرق بدون أن ترى أضواءً، ولذلك لم يكن من الممكن معرفة فعالية هذه القذائف. تستمر السفينة في إبحارها نحو العريش وتصلها عند الصباح بدون أن تطلق مدافعها باتجاه المدينة.

"غولاني" يبدأ الهجوم البري

كان القصف الجوي والبحري جزءً من الخطة، المذكورة أعلاه، لتمويه القيادة العسكرية المصرية، التي كانت تتوقع هجومًا صهيونيًا بين 20-25 من شهر كانون أول/ديسمبر، ولكنّها لم تكن تعرف خطة هذا الهجوم، ولذلك فإنّ هجومًا بريًا مكملًا للقصف الجوي والبحري سيجعل هذه القيادة متأكدة من أنّ الحملة الرئيسية ستكون ضد قطعات الجيش المصري المركزية في قطاع غزة - رفح.

بدأ الهجوم البرّي بقصف مدفعي مكثف من مدافع عيار 75 مم في ساعات بعد ظهر يوم 22 كانون أول/ديسمبر 1948، على طول جبهة غزة - رفح، وذلك لصرف انتباه الجيش المصري عن وجهة سير لواء "غولاني" الذي انطلق في جنح الظلام من قرية شعث، باتجاه مخفر مصري هام على التلّة 86 (التبّة 86)، وهذا المخفر كان ضمن الخط الدفاعي الرئيسي الذي تتمركز فيه الكتيبة المصرية العاشرة مشاة بقطاع دير البلح، ويبعد مسافة كيلومترين فقط عن الطريق الرئيسي الذي يربط غزة برفح. كان موقع التلة 86 هامًا من الناحية التكتيكية المصرية لأنّها تتحكم بجميع الطرق الآتية من الشرق، وهذه الطرق من الممكن أن تستعملها القوات الصهيونية في أي محاولة للاقتراب من المواقع الدفاعية المصرية، وإن تمركزت هذه على التبة، فإنّها ستتمكن من قطع خطوط مواصلات الجيش المصري، ما يمكّنها من شنّ هجوم كبير يؤدي إلى تطويق القوات المصرية من غزة إلى دير البلح شمالا، ومن خانيونس إلى رفح جنوبًا.

كانت الخطة الهجومية تقضي بأن تتمركز الكتيبة الثانية/"غولاني" على تلّة الشيخ نوران وخربة معين، بينما تقوم الكتيبة الثالثة/"غولاني" بالتقدم خلسة نحو التبة 86 واحتلالها قبل أن يشعر الجنود المصريون بوصولهم إليها.

تقدمت الكتيبة الثالثة/"غولاني" نحو الغرب تحت غطاء القصف المدفعي، الذي ازداد كثافة عند الساعة 21:00، ما سهل المهمة على الكتيبة التي تقدمت عن طريق الضفة الشرقية لوادي السلقا، حيث تقع التبة 86 على جانبه الغربي، ما معناه أنّ القوة أصبحت على بعد 300 متر من القوة المصرية المتواجدة على التل. استمرت القوة بالتقدم حتى مسافة 150 مترًا من الهدف. عندها، فتحت القوات المصرية المتواجدة على التل، والقليلة العدد، نيرانها ضد القوة الصهيونية المتقدمة، ولكن هذه النيران كانت ضعيفة إلى درجة أنّها لم تمنع تقدم "غولاني" حتى الأسلاك الشائكة، وفتح ثغرة فيها ومن ثم احتلال التبة 86 كاملة حتى ساعات الفجر الأولى بسهولة نسبية، وذلك بسبب عامل المفاجأة وقلة أعداد الجنود المصريين الذين انسحبوا بسرعة، تاركين وراءهم عددًا من المركبات الصالحة ومدافع الهاون والذخيرة الحية، التي استفادت منها القوة الصهيونية للدفاع عن مواقعها أمام الهجمات المضادة المصرية.

تركيز قوات مصرية كبيرة لاسترداد التل

بالتزامن مع هجوم الكتيبة الثانية/"غولاني" على التبة 86، قامت كتيبة الإغارة (الكتيبة 19)/"غولاني" بالهجوم على قرية عبسان. كانت القوة مكونة من ثلاث مصفحات وثلاثة أنصاف مجنزرات، ووصلت إلى عبسان قبل الفجر بنصف ساعة، واحتلتها بعد مقاومة ضعيفة جدًا، ما شجّعها على الاستمرار في اندفاعها خلف القوة المصرية المنسحبة إلى الغرب باتجاه بلدة بني سهيلة. تقدّمت المصفحات على طريق ترابية ضيقة حتى تعرضت لقصف مصري من مدفعية مضادة للدبابات عيار رطلين، ولوابل من رصاص الأسلحة الخفيفة ما أدّى إلى مصرع قائد القوة الصهيونية وإعطاب مصفحته وإصابة عدد من المهاجمين، ما تسبّب في انسحاب القوة على أعقابها.

أما الكتيبة التي هاجمت التبة 86، فما أتمّت احتلالها حتى اتخذت مواقع دفاعية على التل، وبدأ جنودها بحفر الخنادق تحسّبًا لهجوم مصري مضاد، كان من المتوقع أن يبدأ في ساعات الصباح الباكرة، كون الجيش المصري غير مدرب على العمليات الليلة، ما يعطي المحتلين وقتًا كافيًا من أجل بناء تحصيناتهم. صدرت الأوامر على الفور من قائد القوات المصرية في فلسطين، اللواء فؤاد صادق باشا، بضرورة طرد المحتلين من التبة 86، مهما كلّف الثمن، وأن تقوم بالهجوم الكتيبة السابعة مشاة عدا سرية، والكتيبة الثالثة مشاة عدا سريتين، والفرسان، و9 قاذفات لهب، ومجموعتي دبابات، واللواء الثاني سيارات حدود عدا كتيبتين، وبطارية مدفعية 25 رطلًا، وبطارية مدافع هاون عيار 81 مم، وجماعة مهندسي ميدان. على أن يبدأ الهجوم عند الساعة 06:00 صباحًا من يوم 23 كانون أول/ديسمبر 1948.

كانت خطة الهجوم المضاد المصري تقضي بأن يجري الهجوم بسريتين من الكتيبة الثالثة مشاة، معززتين بمجموعتي الدبابات الخفيفة من نوع "لوكاست" وفصيلة حمالات من جنوب التبة 86 لمحاولة تطويق القوة الصهيونية، بينما تهجم السرية الرابعة من الكتيبة السابعة مشاة من جنوب غرب التلة. أمّا السرية الثانية من الكتيبة السّابعة، فتقوم بتثبيت وحدة "غولاني" وإشعالها بالنيران. أما باقي سرايا الكتيبة السابعة مشاة فتبقى في الاحتياط العام.

انطلاق الهجوم المصري المضاد

بدأ الهجوم المصري عند الساعة 06:00 صباحًا من يوم 23 كانون أول/ديسمبر 1948، بقيادة الجنرال محمد نجيب، الذي أصبح في ما بعد الرئيس الأول للجمهورية المصرية، حيث تقدمت سريتا الكتيبة الثالثة مشاة، تتبعهما مجموعتا الدبابات الخفيف، ثم فصيلة حمالات الكتيبة الثالثة مشاة. في نفس الوقت تقدمت السرية الرابعة من الكتيبة السابعة مشاة من الناحية الجنوبية الغربية، بينما فتحت مدفعية الهاون نيرانها على التبة 86، من مخفر دريبات الحاج حمودة.

استمر تبادل إطلاق النار بين الطرفين من بعد 200 م بالأسلحة الخفيفة بالأساس، بينما كانت الدبابات المصرية تجري مناوراتٍ بدون أن تتقدم باتجاه التبة 86، وكان ذلك من أجل التغطية على تحضيرات القوة البرية من أجل التقدم لاحتلال التل. أمّا السرية الرابعة من الكتيبة السابعة مشاة، فتمكّنت من الاقتراب من مواقع كتيبة "غولاني"، ولكن نيران المدافعين كانت شديدة، بحيث لم تتمكن السرية المصرية من تنفيذ اقتحام، فقامت باتخاذ مواقع قريبة من القوة الصهيونية والاشتباك معها بالنيران الخفيفة. هنا، تمكّنت السرية الثالثة من الكتيبة السابعة مشاة من احتلال مواقع قريبة من التبة، واشتبكت بالنيران الخفيفة تحت ستر مدافع الهاون عيار 3 إنش.

اشتدت وطأة نيران المدافعين على القوة المصرية المهاجمة، ما تسبّب بإعطاب ثلاث دبابات بقذائف "البيات"، فاضطرت باقي الدبابات الخفيفة إلى التراجع إلى الخلف، وذلك عند الساعة 09:00، ثم ارتدّت على أعقابها احدى سرايا الكتيبة الثالثة، رغم أنّ القوة الصهيونية تكبدت خسائر فادحة في العتاد والأرواح.

وفي الساعة 10:30، حيث كانت سريتا الكتيبة السابعة مشاة مشتبكة مع القوة الصهيونية على التبة 86، ونيران الهاون تنصب على المدافعين، حاولت الدبابات المصرية التقدم مرة أخرى لاقتحام المواقع الدفاعية، ولكنها قوبلت أيضًا بنيران كثيفة من قذائف "البيات" والأسلحة الخفيفة، ما اضطرها إلى الانسحاب مرة أخرى.

استمرار الهجوم المضاد وانسحاب صهيوني عشوائي

في الساعة 11:00، حاولت القوة الصهيونية شنّ اقتحام باتجاه الغرب، ولكنها تعرضت لهجوم من فصيلين من الكتيبة السابعة مشاة، مع فصيل حمالات الكتيبة السابعة مشاة، بمساندة دبابات "اللوكوست"، ففشل الاقتحام وتراجع جنود "غولاني" إلى مواقعهم على التلة.

في الساعة 12:00، وصلت قوة من متطوعي الإخوان المسلمين، مزودة بجماعة مدفعية هاون 81 مم، وشاركت في الهجوم، ما عزّز موقف الجيش المصري.

في الساعة 12:30، اشتد قصف مدافع الهاون على التبة 86، ما مكّن دبابة "لوكوست" من الوصول إلى الناحية الشمالية الغربية للتل، وتمكّن فصيل من السرية الرابعة المصرية من التسلل واقتحام موقع على التل من الجهة الجنوبية، ولكن شدة النيران الصهيونية منعت القوة البرية من التقدم، وأعطبت الدبابة، فتمكن واحد من طاقم الدبابة من أن ينجو بنفسه، وقتل الثاني في الحال. أمّا الثالث فكان مصابًا داخل الدبابة، فحاول القائد محمد نجيب أن ينقذه، حيث قفز من سيارة الجيب التي أقلّته وزحف حوالي 45 مترًا (50 ياردة)، تحت النيران الكثيفة حتى وصل إليه. جذب محمد نجيب الجندي من داخل الدبابة، إلّا أن رصاصة أصابت الجريح في رأسه وقتل على الفور. أمّا محمد نجيب فحاول الاختباء خلف الدبابة فأصيب بقذيفتين، فوقع على ظهره ودماء غزيرة تتدفق من صدره، لكنه لم يمت رغم الإصابة الخطيرة، حيث تعالج لفترة طويلة منها، حتى شفي في القاهرة، ولَم يعد بعدها إلى ميدان المعارك في فلسطين.

في الساعة 14:00، هطل المطر بشدة، ما زاد من صعوبة المعركة على الطرفين، وتسبب في إعطاب عدد من المعدات والمدافع الرشاشة. ورغم ذلك، اشتدّ الهجوم المصري، حيث هاجمت الكتيبة السابعة مشاة مع دبابات "اللوكوست" وتحت غطاء مدافع الهاون عيار 3 إنش، التبة 86 من شمالها.

في الساعة 15:00، تقدمت السرية الثالثة من الكتيبة السابعة مشاة، ومعها فصيلة دبابات ميدان للتعزيز، وفِي نفس الوقت تقدمت قاذفات اللهب من مواقع السريتين الرابعة والثانية من الكتيبة السابعة مشاة، بالتعاون مع سرية من الكتيبة الرابعة مشاة، من ناحية الجنوب الغربي، مع فصيل دبابات "لوكوست"، والذي فتح نيرانه بكل قوة على مواقع الكتيبة الصهيونية، التي ذعر أفرادها عندما وصلت إليهم قاذفات اللهب، التي لم يعهدوا مثلها من قبل.

كثرت الخسائر الصهيونية، ما أدّى إلى تقهقر جنودها أمام شدة الهجوم، فأعطيت الأوامر بالانسحاب على عجل، بدون أي تنظيم، ما ساهم في زيادة الخسائر في الأرواح، بعد أن قامت القوات المصرية بملاحقة القوة المنهزمة بنيران المدافع الرشاشة ومدافع الهاون، وكان من ضمن القتلى قائد القوة المهاجمة وهو نائب قائد كتيبة "غولاني" التي احتلت التبة 86.

حسب الخطة الصهيونية، كان على "غولاني" أن تستمر في المحافظة على مواقعها في التل حتى الليلة الثانية، ولكن ذلك تعذّر بسبب الإرادة المصرية التي كانت مصرّة على استرداد التل مهما كلّف الثمن، خوفًا أن يحدث للجيش المصري كما حدث له في حملة "يوآڤ"، عندما دق الجيش الصهيوني إسفينًا في بيت حانون أدّى في النهاية إلى انسحاب مصري من شمال هذا الإسفين خوفًا على تطويق قطعات الجيش المصري في المجدل وأسدود. ولو صمدت "غولاني" على التلة ليوم آخر، ووصلتها إمدادات عسكرية، لكان حصل ما خشيه قادة الجيش المصري، الذي عزز قواته في غزة ورفح وباقي قطاعات الساحل على حساب الجبهة الأخرى في عوجا الحفير وبئر عسلوج.

يتبع...


المصادر:

  1. أسماء محمد محمود، "موقف مصر من حرب 1948".
  2. بيني موريس، "1948 سيرة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى".
  3. يوآف غلبير، استقلال ونكبة.
  4. مجلة "معرخوت"، العدد 263-4 حزيران / يونيو 1978، مقالة بعنوان: مرحلة الحسم.
  5. يغئال ألون، "في حيل الحرب".
  6. وليد خليفة، مترجم، "حرب فلسطين 1947-1949، الرواية الإسرائيلية الرسميّة".
  7. إليعيزر طال، "حملات سلاح البحرية في حرب الاستقلال".
  8. آفي كوهين، "سيرة سلاح الجو في حرب الاستقلال"، المجلد الثالث.
  9. بنيامين عتسيوني، "طريق معارك لواء ’غولاني’".
  10. د. رفعت سيد أحمد، "وثائق حرب فلسطين، الملفات السرية للجنرالات العرب".
  11. اللواء حسن البدري، "الحرب في أرض السلام، الجولة العربية الإسرائيلية الأولى".
  12. عميعاد برزنر، "براعم القوات المدرعة".
  13. الدكتور اللواء إبراهيم شكيب، "حرب فلسطين 1948 رؤية مصرية".
  14. محمد نجيب، "كنت رئيسًا لمصر"، مذكرات.

التعليقات