في مشهد بدا وكأنه مأخوذ من أفلام الإثارة، تقدمت سيارات الشرطة الخاصة نحو مقرّ لجنة إفشاء السلام في مدينة أم الفحم. وحدات مدججة بالسلاح، بعض عناصرها ملثمون، تتحرك بحزم كما لو أنّها في طريقها لاقتحام وكر لأخطر العصابات الإجرامية.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
لكن الهدف لم يكن عصابة مسلحة، ولا تجار سلاح أو مخدرات، بل لجنة مدنية تعمل على تهدئة النزاعات في المجتمع العربي، في محاولة للحد من شلال الدم المستمر. في وضح النهار، وبين الأزقة التي اعتادت على مشاهد الجريمة دون تدخل فعلي من الشرطة، كان الاقتحام شرسًا.
انتشر العشرات من عناصر الأمن داخل مكاتب لجنة إفشاء السلام، قلبوا محتوياتها رأسًا على عقب، واعتقلوا رئيسها الشيخ رائد صلاح وعددًا من الأعضاء، تحت ذريعة أن اللجنة تشكّل امتدادًا للحركة الإسلامية الشمالية المحظورة إسرائيليا.
ولكن، هل كان هذا هو السبب الحقيقي؟ الإحصائيات تكشف المستور
البيانات لا تكذب. في العامين الأخيرين، قُتل 480 مواطنا عربية في جرائم ارتبكت على خلفية جنائية، إذ قُتل 236 شخصًا في عام 2024، و244 شخصًا في 2023، وهي أرقام قياسية لم يشهدها المجتمع العربي من قبل؛ ومع ذلك، لم تتجاوز نسبة فك ألغاز جرائم القتل 10% سنويًا.
في أم الفحم وحدها، سُجلت 16 جريمة قتل خلال العامين الماضيين، ولم تنجح الشرطة إلّا في حلّ ثلاث منها. ومع هذا الفشل الذريع، لم تُشاهَد هذه القوات المدججة بالسلاح تداهم بيوت القتلة أو عصابات الجريمة، بل رأيناها تتوجه إلى لجنة تحاول إطفاء نار العنف.
أهالي أم الفحم مصدومون: "ظننا أن الشرطة جاءت لملاحقة القتلة"
في أم الفحم، المدينة التي اعتادت على مشاهد الجريمة دون تدخل فعّال من الشرطة في الفترة الأخيرة، ساد الذهول بين السكان عند رؤية الوحدات الخاصة تقتحم شوارعهم الثلاثاء، بهذه القوة المدججة بالسلاح.
وفي حديث لـ"عرب 48"، قال والد أحد ضحايا جرائم القتل في أم الفحم، "اعتقدنا أنّهم جاءوا لاعتقال قتلة أبنائنا، لكن، سرعان ما أدركنا أنّ الهدف لم يكن المجرمين، بل لجنة تسعى لنشر السلام".
وأضاف "كان المشهد صادمًا، فالقوة التي غابت عن مطاردة القتلة ظهرت فجأة لملاحقة من يعملون على منع القتل".
"الشرطة تعرف أماكن العصابات... لكنها لا تقتحمها"
أم الفحم، كغيرها من البلدات العربية، تعيش في ظل تصاعد غير مسبوق للجريمة، حيث تتفشى أعمال القتل، الابتزاز، وتجارة السلاح. على مدار السنوات الماضية، لم تشهد المدينة مداهمات جدية لعصابات الإجرام، ولم تُرسل وحدات خاصة لمحاصرة بؤر العنف، رغم معرفة الجميع بمواقعها وأفرادها.
لكن في يوم الثلاثاء، ظهرت الشرطة بكامل عتادها، ليس في مواجهة الجريمة التي تنهش المدينة، بل في مواجهة لجنة إفشاء السلام، في رسالة واضحة بأنّ الدولة تملك القدرة على التدخل حين تشاء، لكنها تختار متى وأين تستخدم قوتها.
"الجريمة مشروع المؤسسة الإسرائيلية"
لم يُخفِ رئيس لجنة المتابعة العليا، محمد بركة، غضبه من هذا التعامل، قائلًا: "ظننا أنّ الشرطة تريد محاربة الجريمة بالفعل، ولكن يبدو العكس. هذه القوات، لو أنّها كُرست لمحاربة الجريمة، لتمّ تفكيك كل المنظمات الإجرامية في يوم واحد، لأنّها تحظى بدعم الشرطة".
ولم تقدم الشرطة أو المخابرات أي دليل ملموس يبرر قرار حظر اللجنة، وهو ما دفع لجنة المتابعة إلى اعتبار هذا التحرك قرارًا سياسيًا بامتياز، يستهدف مؤسسات المجتمع المدني في المجتمع العربي.
فاللجنة، التي تأسست لمحاربة العنف والجريمة منذ نهاية عام 2021 عبر إفشاء السلام والصلح والتواصل المجتمعي، باتت اليوم في مرمى الاستهداف، وكأنّ محاولة إنقاذ الأرواح باتت جريمة في نظر السلطات.
الشيخ رائد صلاح: "هل تحارب الشرطة الجريمة أم تديرها؟"
وقال الشيخ رائد صلاح في حديث لـ"عرب 48"، إن "هذا التعامل المزدوج للشرطة والمؤسسة الإسرائيلية ليس جديدًا، فقد أثبتت المعطيات أنّ هناك نهجًا متعمّدًا لإضعاف أدوات المجتمع العربي في مواجهة الجريمة، في حين يتم غضّ الطرف عن توسع العصابات الإجرامية".
وأوضح أنه "في الوقت الذي يُقتل فيه شباب عرب يوميًا، تُوجّه قوى الأمن جهودها لمحاربة النشطاء الذين يحاولون منع سفك الدماء، ممّا يثير تساؤلات خطيرة حول نوايا المؤسسة الحقيقية: هل تحارب الجريمة أم تديرها؟"
ورغم الاعتقال والضغوط الأمنية، شدّد الشيخ رائد صلاح على أنه لن يتوقف عن عمله في نشر السلم الأهلي، وقال "لن تعيقنا هذه المخاوف ولن يعيقنا أي شيء، سأستمر فيما بدأته".
كما شدد بركة على أن الاعتقالات والمداهمات لن تخيف أحدًا، وقال "اليوم تستهدف الشرطة لجنة إفشاء السلام، وغدًا ربما أي مؤسسة أخرى تحاول مواجهة الجريمة في المجتمع العربي. لكن الواضح أن الدولة لا تريد لنا الأمن، بل تريد تركنا وحدنا في مواجهة الموت اليومي".
وأضاف "هذه الخطوة تؤكد أن الجريمة ليست مجرد نتيجة للإهمال، بل مشروع ممنهج تتبناه المؤسسة الإسرائيلية".
التعليقات