يموت الفلسطيني ألف مرة في اليوم، ويحاصره الشعور بالعزلة وضعف الحيلة وخذلان الأخ الشقيق في محيطه العربي، لكنه لا يكفر بعروبته ولا ييأس من الأمل في أن يصحو ضمير العربي فيلتفت إلى محنته مسعفاً ومسانداً ومجيباً حاجة للبقاء، لمجرد البقاء! ما أكثر ما أصابه من إخوته من التجاهل والنسيان والخذلان، ومن الضلوع أحياناً في التنكيل به والامتهان أو في التغطية على ما يلحقه من الأذى الصهيوني والعدوان، لكنه أبداً ما أحفظ الصد العربي نفسه ووجدانه إلى حد طلب الانشقاق المعنوي عن محيط العروبة وحتى حينما كانت تعلو فيه أصوات شؤم - على قلتها وذلتها - تدعوه إلى التفاهم مع “الإسرائيليين” على ترتيب مصيره بعيداً عن العرب، وتصور له ذلك إمكاناً وحيداً للظفر ببغية الاستقلال. كان يخرسها ويجاهر بالتشنيع على دعواتها المسمومة، تلك سيرته مع أهله وإن خذلوه وخذّلوه وتركوه أمام العدو وحيداً بلا حول ولا قوة.
هو اليوم لا يطلب من العرب أن يحشدوا قواتهم ويجيّشوا جيوشهم لمحاربة “إسرائيل”، لأنه يعرف أن عرب اليوم غير عرب الأمس، وأنهم دونهم في القوة والبأس وفي الكرامة، والإرادة. بل إنه، في لحظة صفاء تخلد فيها نفسه لحسابات الواقعية السياسية، يلتمس لهم الأعذار ويغفر لهم الإدبار والفرار، وهو أيضاً لا يطلب منهم أن يكفّروا عن خطيئة عدم قتال “إسرائيل” بمساعدته هو على قتالها نيابة عنهم عن طريق تزويده بالسلاح وتدريب أبنائه على القتال، فقد يجد في الطلب ما تنوء بحمله قدرتهم التي لا تقتدر على أمر من هذا الحجم، إنه يطلب منهم أقل من ذلك بكثير، أقل حتى مما كان معتدلوهم ومحافظوهم، والمعادون منهم لثورته، أن يقدموه في الماضي: مساعدته على أن يبقى على قيد الحياة.
لا يطلب الفلسطينيون من العرب مستحيلاً، يريدون منهم أن يفكّوا عنهم الحصار المضروب عليهم من “إسرائيل” بمساعدة من يساعدها في ذلك الحصار من العرب. من العار أن يكون هذا الحصار مختوماً بختم عربي، ومن العار أن يحسبه بعض العرب حقاً من حقوق “السيادة” التي يخشى عليها من زحف جياع فلسطين واقتحامهم الحدود. من العار أن يتقاطر الأجانب من كل حدب وصوب في رحلات بحرية إلى غزة لكسر الحصار ولو رمزياً ومواساة أهل القطاع المنكوبين وبنو جلدة الأخيرين من العرب والمسلمين يقفون أمام المشهد متفرجين عاجزين. من العار أن يموت الأطفال والعجز والمرضى لأنهم لا يجدون الدواء، وأن يتضور مليون ونصف المليون نفس جوعاً لأنهم لا يجدون القوت لسد الرمق، وأن يغرق نصف بلد في الظلام لمنع الكهرباء عنه والوقود، فيما العرب والمسلمون يأكلون ويشربون ويدخلون المستشفيات والصيدليات ويستقلون السيارات والباصات ويتدفأ منهم الذين يستطيعون أن يتدفأوا في البرد القارس وكأن غزة وأهلها من ماضٍ سحيق!
ماذا كان يكلف العرب، حكومات وشعوباً، أن يرسلوا المساعدات الإنسانية إلى إخوانهم المحاصرين من العدو والشقيق، كما فعلوا بسخاء في أفغانستان أيام الغزو السوفييتي، وفي البوسنة والهرسك والشيشان، وأن يجمعوا التبرعات وأن يستنفروا لذلك البنوك والأثرياء والتلفزيونات، كما فعلوا بعد إعصار تسونامي؟ ماذا كان يضيرهم لو هبوا لإنقاذ حياة مئات الآلاف من البشر، كما هبوا لإنقاذ حياة عشرات الآلاف من السلاحف على مرمى صاروخ من غزة؟ أين مروءتهم وشهامتهم وعروبتهم وشرفهم؟ وأين قرارات قممهم بإحداث صناديق لدعم شعب فلسطين قبل سنوات خلت من هذا القرن؟ ماذا يضير العرب - أنظمة وأحزاباً وجمعيات - أن يستروا عورتهم بنزر قليل من مساعدات، وأن يقرضوا شعب فلسطين قرضاً حسناً لعلهم بذلك عن خطيئة اقترفوها في حق أنفسهم يكفّرون؟ أكثر من ذلك لا يطلبه الفلسطينيون منهم. ولكنهم لا يفعلون.
ثم إن شعب فلسطين لا ينتظر من العرب مأثرة في السياسة خالدة غير أن من حقه عليهم أن ينتظر منهم أن يحفظوا له وحدته كشعب ووحدة مؤسساته الوطنية بعد أن عجزوا منذ ستين عاماً عن أن يحفظوا وحدة أرضه ووطنه: كل وطنه التاريخي. ووحدة شعبه تمزقت مرتين: مرة بفعل الاغتصاب والاقتلاع الصهيونيين وما نجم عنهما من تفرق لشعب فلسطين في الآفاق: نزوحاً داخل الوطن، ولجوءاً إلى الجوار العربي، وشتاتاً في المنافي البعيدة، ومرة ثانية بفعل الصراع على السلطة بين قبيلتين سياسيتين فيه باعدت بينهما المصالح إلى حدود تمزيق بقايا الوطن الممزق وبقايا الشعب الممزق في كيانين يرفرف فيهما علم “أوسلو”! أما مؤسساته، فتمزقت مرتين: مرة حين دُفنت منظمة التحرير وأقيم على قبرها نصب السلطة.
والثانية حين انقسمت السلطة على نفسها في حرب داحس والغبراء الفلسطينية الداخلية. ويعلم العرب أن وحدة هذا الشعب هي مورد القوة الوحيد الذي ما زال متاحاً بعد أن تبددت الموارد كافة، وأن حفظها قد يعفيهم من مزيد من المحاسبة التاريخية، كما أنهم يعلمون أنهم على حفظها إن أرادوا لقادرون.
أول ما يطلبه الفلسطينيون منهم في هذا الباب أن يمنعوا وحدتهم الوطنية المشروخة اليوم من مزيد من الشرخ، وذلك من طريق الكف عن نصرة فريق منهم على آخر، وتحريض هذا على ذاك، على عادتهم في دق الأسافين بينهم منذ أيام الثورة ومنظمة التحرير، وأن ينصرفوا- بدلاً من سياسة تفسيخ العلاقات الفلسطينية الداخلية- إلى شق أفق وفاقي لها يطوي حقبة النزيف السياسي الداخلي. وهم يملكون أسباب ذلك وأدواته لو شاؤوا. ألم تر كيف فعلوا مع اللبنانيين حين اختلفوا بينهم واتسع خرقهم السياسي على الرتق، وتصاولوا في ساحات الوغى وأعملوا السيوف والنصال في بعضهم بعضاً، وامتنع أفق التفاهم بينهم؟ ألم يأخذوهم بالكره والقسر إلى الطائف قبل قريب من عشرين عاماً فأجبروهم على وقف حربهم وعلى السلام؟ ألم يفعلوا ذلك معهم ثانية في الدوحة حين أبرقت سماء السياسة في لبنان وأرعدت وتدفق سيل القتال؟ فما الذي يمنعهم، إذن، من أن يكملوا جميلهم مع الفلسطينيين فيأتون بالمتقاتلة والمتنابذة منهم إلى مائدة حوار وطني تنتهي بها فرقتهم، وتستعاد بها لحمتهم، وتنتعش بها وحدتهم؟
قليل جداً ما يطلبه الفلسطينيون اليوم من العرب ولكن أكثر العرب لا يعلمون.
التعليقات