يَظنُّ البعض أنَّ الانشغال بحل الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية ترفٌ فكريٌ أو تصورٌ طوباويٌ. وبعضٌ آخر يتسرع إلى القول إنّ هذا الانشغال هو هروبٌ من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تواجه المواطن وتثقل كاهله. وآخرون، غيرهم، يدّعون أنّ هذا الطرح مضاد للإجماع الوطني الفلسطيني والدولي، وأنه ليس من الضرورة تحديد نوع الحل، وليكتفي الفلسطينيون بتبني تفكيك الاستعمار. وهناك ادّعاءات كثيرة أخرى.
وأَدّعي، كغيري من المنادين بالدولة الواحدة، والذي يزداد عددهم، أن كل هذه الادعاءات، هي نتاج نهج سياسي دشن مرحلة سياسية هجينة، تراكمت فيها الهزائم، وأنتجت ورسخت، مقاربات ومفاهيم، بدت في أوّل المرحلة واقعية وقابلة للتحقق، ولكنها انتهت إلى حالة سياسية انهزامية، تسبّبت بنشر مشاعر الإحباط وفقدان الثقة في النخب والأمل في المستقبل، كما حيّد نهج التسوية فئاتٍ واسعةً من شعبنا عن النضال، وأدّى إلى تمديد عمر المشروع الكولونيالي، وتوسعه وتعمقه، في كافة أنحاء فلسطين التاريخية. جميع هذه الادعاءات والتساؤلات، المشروعة أحيانًا، حاضرة في وعي أنصار الدولة الواحدة، ولا يتجاهلونها، بل بالعكس، يتصدون لها باعتبارها جزءًا من التحدّيات التي تقف أمام هذه الرؤية، وهذا الحل التحرري الديمقراطي. والجميع مدعوٌ للإدلاء بدلوه لإيجاد مخرجٍ آمن مما وصلنا إليه.
وفي ظلّ السيطرة الكولونيالية الصهيونية الكاملة على الوطن، وفِي ظل التشظي السياسي، وغياب الفعل المقاوم المنظم، بتنا، كشعب وقضية، نحتاج إلى التراجع خطوة إلى الوراء، لنراجع المرحلة ونعيد ترتيب صفوفنا، وأوّلها إعادة بناء الرؤية التحررية التي جمعت واستنهضت ووحّدت، في الماضي القريب، شعب فلسطين، باعتباره شعبًا يخوض كفاحًا للتحرر من استعمار كولونيالي، وفِي صلب هذه المهمة إعادة التثقيف على القيم الوطنية التحررية، والروح الجماعية، المطلوبة الآن بشدّة.
وفِي إطار هذه المقاربة، يشكّل الدفاع عن الرابط الثقافي التاريخي المشترك، الذي طالته التشوهات بفعل الانزلاق إلى نهج انهزامي كرسته الطبقة السياسية الفلسطينية، مهمة وطنية ملحة، وبالغة الأهمية. وحين تصل الطبقة السياسية إلى أوج عجزها وبؤسها، تنتقل المبادرة إلى الشعب مباشرة، وتحديدًا إلى طلائعه الأكثر وعيا، التي تنجح في استعادة المنطلقات الأولية وتطوّر وعيًا تحرريًا حديثًا يلائم المتغيرات والخصوصيات الناشئة في أوساط كل جزء من الشعب الفلسطيني، وهذا ما نشهده في أماكن متفرقة على الساحة الفلسطينية.
وفي ظروف الانسداد الخانق، يعتري المستعمر شعور بالانتصار ونشوة القوة، ويُقدّر أنّ اللحظة مواتية لتحويل الفلسطينيين، أصحاب الوطن، إلى مجرد مستهلكين لما ينتجه، بالقدر الذي تسمح به قدراتهم الشرائية، ليتكيفوا، مع مرور الوقت، مع وجود فيزيائي منزوع من الحقوق القومية والسياسية، وفي مقدمتها حق تقرير المصير والحق في الحريّة والكرامة. ومن هنا تتواتر المشاريع الخارجية التصفوية، سواءً من الدولة الإمبريالية الأكبر، الولايات المتحدة الأميركيّة أو من أوروبا ومن إسرائيل، بالطبع، التي تشكل المشاريع الاقتصادية جوهرها، وليس العدالة أو التحرر والحرية لشعب خاضع لنظام فصل عنصري كولونيالي متوحش.
نعم كل ذلك يشكل مصنعًا للإحباط واليأس ومصدرًا للتشوه القيمي ولمفاهيم الصراع في فلسطين، بحيث يصبح جل هم المواطن العيش بأي شكل. ويّعزز هذين التشوهَ والإحباطَ، غيابُ حركة تحرر وطني، بقيادة قديرة ونظيفة وذات رؤية سليمة وشجاعة وحكيمة.
تجب، أولًا الإشارة إلى أن المبادرين أو غالبيتهم ليسوا منشغلين فقط بالحوار والنقاش حول كيفية تصور حل الدولة الواحدة على أهميته البالغة فحسب، بل إن الكثير منهم منخرطون في نضالات مدنية وشعبية واجتماعية وخيرية، وبروابط ثقافية إبداعية ويشاركون شعبهم في نضالاته، في فلسطين وخارجها.
صحيح أن مجموعات جديدة تنادي بالدولة الواحدة ظهرت في العقدين الماضيين، ولم تتحول إلى حركات سياسية وازنة ذات ثقل سياسي أو شعبي، وربما بعض أعضائها غير فاعلين، ولكنّها، بالإضافة إلى عدد كبير نسبيا من الأكاديميين والمثقفين، قدمّت مساهماتٍ فكرية وثقافية هامة بخصوص هذه الرؤية التحررية الديمقراطية لمستقبل فلسطين. هذا بالطبع لم يعد كافيًا، في ظل اشتداد الأزمة الوطنية، وسقوط ما تبقى من أوهام "الدولتين"، وتكريس الانقسام وترسّخه ونضوب قدرة الفصائل والأحزاب، والأهم في ضوء تفشّي مشاعر التيه في أوساط جموع الشباب التي تبحث في هذه الظلمة عن حاضرٍ ومستقبلٍ مختلفين، وتحاول طلائعها الأكثر وعيًا توليد أدوات وآليات عمل إبداعية وتنظيمية وإعلامية واقتصادية، تؤهلها لأخذ دور قيادي في عملية الخلاص.
وفِي محاولة جديدة لتوفير إجابات على بعض الأسئلة الكبرى التي تطرحها هذه الطلائع، خاصة في ظل تآكل دور وهوية الفصائل والأحزاب، ونضوب قدرتها على التجديد، تشكلت نواة "حملة الدولة الديمقراطية الواحدة"، انطلاقًا من المدينة الساحلية حيفا. تستمد هذه الحملة/ المبادرة رسالتها من مبدأ العدالة، ومن الإرث التحرري للحركة الوطنية الفلسطينية، واستكمالًا وتجديدًا للمبادرات وللمجموعات الفلسطينية والدولية التي تحمل راية الدولة الديمقراطية. وهذه المبادرة هي واحدة من عشرات بل ربما مئات المبادرات، التي تجري غالبا بعيدا عن الأعين، أو عن الإعلام، ذلك لأن المشهد السياسي العام لا يزال مُهَيمنًا عليه من قبل الفصيلين الكبريين، أي فتح وحماس، ولكن دون القدرة على الاستجابة لطموحات الناس.
المبادرة: منبر لتوليد ثقافة سياسية جديدة
تسعى مبادرة "حملة الدولة الديمقراطية في فلسطين" إلى المساهمة في تشييد منبرٍ جديد، لتوليد ثقافة سياسة تحررية ووطنية وديمقراطية، ذات بعد إنساني، والتواصل، بقدر استطاعتها، مع المثقفين والأكاديميين النقديين، ومع طلائع الشباب الفلسطيني، في كل مكان. وتطمح من خلال ذلك، على المستوى المتوسط، إلى خلق نواة منتجة واسعة، من هذه الفئات الفاعلة والناشطة، المتحررة من السلوك والنهج السياسي المحافظين، واللذين باتا يشكلان عائقًا خطيرًا امام استنهاض العقل الفلسطيني، مجددًا، واستعادة الثقة بقدرات الشعب وتوليد خطاب أمل.
أعضاء الحملة ليسوا منقطعين عن الواقع، كما أنهم ليسوا طوباويين. إنّ جُلّهم، كان وما زال، ناشطًا ميدانيًا، في الأحزاب والحراكات السياسيّة أو في أُطر شعبية ومدنية واجتماعية في خدمة شعبهم، وبعضهم دأب، منذ سنين، على إنتاج فكر سياسي نقدي، وتحليلٍ للحالة الراهنة ومتطلبات مواجهتها. وهذا ينطبق على معظم،إن لم يكن جميع المبادرين، فلسطينيين ويهودًا، من داخل المنطقة المحتلة عام ١٩٤٨.كما ينطبق على المشاركين في الحملة من الشتات، بل تغريني الإشارة إلى دور زملائنا في قطاع غزة، وأخصّ، على سبيل المثال لا الحصر، أستاذ الأدب الإنجليزي، في جامعة الأزهر، الدكتور حيدر عيد، الناشط في حركة المقاطعة، BDS، والذي يشارك أسبوعيًا، جموع المناضلين في مسيرة العودة الكبرى. وكذلك الشاب، الكاتب (المتديّن)، أحمد أبو رتيمة، أحد المبادرين لمسيرة العودة الكبرى، والمؤيد لحل الدولة الديمقراطية في فلسطين. وهذا ينطبق على الناشطين في القدس والضفة الغربية، وفِي بلاد الشتات، خاصة أوروبا والأميركيّتين.
في إطار مهمتها في خلق وعي جديد وثقافة تحرريّة وإعادة الوعي إلى القيم التحررية والإنسانية، تعمل الحملة على تنظيم الورشات واللقاءات الفكرية، وتتناول فيها التحديات العملية والنظرية والشعبية التي تطرح في وجه مشروع الدولة الواحدة وتتفاعل مع الملاحظات النقدية التي تصل من مجموعات أخرى، سواء داخل فلسطين أو من خارجها؛ بل تغوص عميقًا في مضمون هذه الدولة المستقبلية، من حيث طبيعة الحكم، وكيفية تنظيم العلاقة بين السلطات والمجموعات المختلفة، وتشتبك مع التصورات المختلفة حول شكل الدولة؛ ثنائية القومية، ليبرالية ديمقراطية، اشتراكية، أو غيرها من خلال نقاش مفتوح وحر، يجسد المبدأ الديمقراطي الذي يتبناه المبادرون. كما أن قضايا أخرى أساسية تحظى بقسط كبير من الاهتمام والبحث مثل الطبيعة الكولونيالية لإسرائيل باعتبارها كيانًا استعماريًا استيطانيًا وكيان فصلٍ عنصري، من خلال الإحالة إلى مفاهيم الصراع الكولونيالي، ونظرياته المعتمدة في الدوائر الأكاديمية النقدية، هذا فضلا عن تناول القيم الديمقراطية والحريّة ومفهوم الاستبداد والعلاقة مع العالم العربي وخاصة قواه الوطنية والديمقراطية، وقيم اليسار المرتبط بالديمقراطية وبالحرية، والعلاقة مع قوى التحرر العالمية الديمقراطية واليسارية الديمقراطية.
تسعى حملة الدولة الديمقراطية الواحدة، بصورةٍ منهجيّةٍ، وبحدود إمكانياتها الراهنة، إلى نشر الفكر النقدي للحالة الفلسطينية الراهنة، وتعميم وعي بديل بوحدة فلسطين، أرضًا وشعبًا، روايةً وتاريخًا، وترى أن استعادة الوعي بالرواية الواحدة، وبوحدة الشعب الوطنية، مقدمة أساسية لتغيير ميزان القوى. تفترض حملة الدولة الواحدة أن النجاح في توفير الأرضية الثقافية والفكرية مُجسدة في رؤية وطنية وديمقراطية لمستقبل فلسطين، من شأنها أن تخلق دينامية أو ديناميات تتمخض عنها أُطرٌ أو منظمات شعبية تحمل هذا التوجه، وتسعى إلى التحالف والاندماج في سياق تطور العملية النضالية، وهو الطريق الذي عرفته الحركة الوطنية المعاصرة، وكل الحركات التحررية في العالم.
بكلمات أخرى، إن خوضَ نشاط منظم مسلحٍ برسالة كهذه، إذا قُدّر له الاتساع والتمدد، يعني عمليًا، خوض عملية تحرر يومي للإنسان الفلسطيني، تحررا من سطوة الحالة الراهنة، ومن مفاهيمها المحافظة والانهزامية، وإطلاقًا لطاقاته المختزنة. بل من شأن هذا النشاط أن يوفر المصل المضاد لحالة الخواء الفكري والهزال السياسي، التي يجتاح الساحة الفلسطينية، في كل التجمعات. يمكننا تخيل، فيما لو تواصل العمل كما هو مخطط، مشهدٍ جديدٍ تعود إليه السياسية، ومفاهيمها الأخلاقية التحرريّة، والتي كفت الفصائل والأحزاب عن توفيرها.
ولذلك يجتهد المبادرون إلى تحويل الحملة إلى رافعة تعبوية وتثقيفية وتربوية بين جموع الشباب، وتوفير منبر لطلائعهم الواعية، لأن مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، ليس حلا سحريا وقريبًا للقضية الفلسطينية، بل هو المشروع المستقبلي لشعبنا ولأجياله الشابة ولأبنائنا وبناتنا. ينظر المبادرون إلى هذا الحل باعتباره مشروعًا تاريخيا، وبالتالي يدركون أهمية اعتماد برامج يومية ومرحلية، تبدأ بالتفكير والتعلم والتثقيف الذاتي، وبلورة الرؤية، مرورًا بالتواصل ميدانيا في الساحات الطلابية والشعبية، وبناء الخلايا والأطر واللجان الشعبية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية ومنابر الحوار والمؤسسات الاقتصادية. هي حملة، ولكنها مفتوحة على التطور إلى حركة شعبية تنخرط في الحركة النضالية لشعبنا، المشتركة مع اليهود الإسرائيليين المناهضين للاستعمار والأبارتهايد، من أجل تفكيك منظومة القهر وهياكله الاستعمارية والعنصرية، وتحقيق العدالة، وتوفير الحياة الحرة الآمنة لكل من يعيش على فلسطين، ومن طُرد منها.
نحن، كشعب، بأمس الحاجة إلى طريق جديد، نحو الحياة، حية حرة كريمة.
التعليقات