09/10/2019 - 09:10

في رحيل شمعون بلاص

حين يُذكر اسم شمعون بلاص، الكاتب الإسرائيلي من أصل عراقي، والذي رحل أخيرًا، فأول ما يطالعك هو مصطلح "اليهودي العربي"، إذ كان هو أول من سكّه من بين أبناء جيله الذين هاجروا إلى فلسطين، قبل أن يذهبوا في عقبيه.

في رحيل شمعون بلاص

حين يُذكر اسم شمعون بلاص، الكاتب الإسرائيلي من أصل عراقي، والذي رحل أخيرًا، فأول ما يطالعك هو مصطلح "اليهودي العربي"، إذ كان هو أول من سكّه من بين أبناء جيله الذين هاجروا إلى فلسطين، قبل أن يذهبوا في عقبيه. فضلًا عن ذلك، فهو من طليعيي المثقفين اليهود في إسرائيل الذين بحثوا في أصول الثقافة العنصرية المؤدلجة بالصهيونية، الّتي نظرت، ولا تزال تنظر، إلى المواطنين اليهود العرب باعتبارهم مواطنين من درجة ثانيةٍ وبشرًا ذوي ثقافة أدنى.ففي كتابه الأخير "ضمير المتكلم" الذي دوّن فيه سيرته الذاتية، ونشر عام 2009، عرض بشكل مسهب صورا من حياته، منذ كان فتى في بغداد.

وقد استهله بتوصيف أول أيام هجرته إلى فلسطين عبر العبارات التالية: "كانت الساعة بعد منتصف الليل عندما هبطت الطائرة في اللد (المطار الدولي)، ومع فتح بوابات الطائرة دخل شاب وبدأ يرشّ من أداة لرشّ السموم مادة ذات رائحة حادّة في الفضاء المزدحم والثقيل السائد داخل مقاعد الركاب. كنت مُرهقًا ومشوّش الأحاسيس في ختام نحو أربع ساعات من الطيران في طائرة شحنٍ جرى فيها تركيب مقاعد ضيقة وملتصقة ببعضها بعضا مصنوعة من القماش والحديد، وموضوعة في مقابل بعضها، في حين تقيأ الجالسون قبالتي طوال مدة الطيران ولطخوا بنطالي. لا أذكر جيدًا رش مادة DDT بعد نزولنا من الطائرة، لكنني أذكر جيدًا أنهم قدموا لنا شايًا عكرًا مع قطع من الخبز الأسود السميك، والتي لسذاجتي اعتقدت أنها قطع شوكولاتة. هذه هي أبرز ذكرياتي من تلك الساعة الليلية المتأخرة فجر يوم 24 حزيران/ يونيو 1951، وهو اليوم الذي أصبحت فيه مواطنًا في إسرائيل".

وكان بلاص أقل حدّة حيال تأطير الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، ففي مقابلة أدلى بها قبل نحو عقد، وردًّا على سؤال ما إذا كانت الصهيونية فرضت على المهاجرين اليهود من الدول العربية نوعًا من الاستعمار الثقافي من جرّاء نظرتها العامة الذاهبة إلى أن ثقافتهم دونية، ولا بُدّ من جعلهم غربيين؟ أجاب إن الحركة الصهيونية غربية قلبًا وقالبًا، وكانت محتكمة إلى مفهوم يدعو إلى الهجرة إلى فلسطين، والتموضع فيها وشراء أراض، فيما عُرف بالاستيطان، وهو ترجمة للكولونيالية.

ومن الناحية الثقافية، كانت مقاربة الصهيونية أن الشرق متخلف. وهذا يعني، من ضمن أمور كثيرة أخرى، أن الصهاينة جاؤوا إلى المشرق، ليس من أجل أن يندمجوا فيه، إنما من أجل تشييد هوية يهودية ذات محتد غربيّ. وبناء على ذلك، من المقدّر أن يبقى المشرق في مواجهة دائمة مع هذه الغاية. ولدى إقامة الدولة، أصبحت هذه المقاربة أكثر رسوخًا، ونُظر إلى يهود المشرق العرب أنهم أتوا من العالم المتخلّف، وينبغي تربيتهم من جديد.
ويذكر الأكاديمي يهودا شنهاف- شهرباني، الذي ألف كتابًا مرجعيًّا عن اليهود العرب، أن إسرائيل طبقت تكتيكاتٍ قمعيةً مماثلةً للتي طبقت على اليهود العرب حيال يهود آخرين كذلك، فقد أقصت مثلًا اللغة الييديشية باعتبارها لغة شرعية. ومع ذلك، كانت فئة اليهود العرب تثير القلق على وجه الخصوص، لأنها شكلت تهديدًا لنقاء المشروع الصهيوني، باعتباره غربيًّا وحديثًا، وتهديدًا للانقسام الكبير الذي كانت الصهيونية تسعى إلى إنشائه بين اليهود والعرب.
لعل أهمية أشخاص مثل شمعون بلاص كامنة بالأساس في كونه شاهدًا من خلال قصة اليهود العرب على دحض السردية الصهيونية الرسمية، وتفنيد الأزعومة حول الأمة اليهودية. كما يسجّل له أنه من أوائل من دجّجوا سيرورة انقلاب مفعول السحر على الساحر، إذا جاز التعبير. وبكلمات أخرى: كيف أدّت المحاولات المتعدّدة، الصهيونية القالب والمحتوى، الرامية إلى بناء هويةٍ إسرائيليةٍ لليهود العرب من خلال قمع هويتهم العربية، إلى التمسّك أكثر فأكثر بهذه الهوية، وإلى جعل مسألة التمييز الطائفي في إسرائيل التي تحيل بدورها إلى بذور التناقض في الصهيونية فكرًا وممارسة، أكثر حدّة.

التعليقات