09/09/2022 - 11:58

عن مبادرة التغيير الجديدة في فلسطين

لا تتحرك مبادرة التحالف الشعبي أو المبادرات الأخرى من عدم، بل من تجدد روح الفعل والمقاومة في أوساط الشعب الفلسطيني، وظهور جيل مناضل جديد قلَب حسابات ومراهنات المستعمر، وقوّض أوهام معسكر الأنظمة العربية

عن مبادرة التغيير الجديدة في فلسطين

(Getty Images)

النفس الفلسطينية القلقة والمُعذّبة التي ترزحُ تحت القهر لا تهدأ، فالمبادرات لإراحة هذه النفس، ومجازًا جموع الفلسطينيين، لا تنفكّ تتوالد في بحثٍ مضنٍ لا يتوقف عن الخلاص.

إن "التحالف الشعبي للتغيير" هو أحدث مبادرات التغيير في فلسطين، وبدأ التحرك بشأنه أواخر العام الماضي. ويوحي القرار بإطلاق هذه المبادرة الجديدة بأن المبادرات التي سبقتها لم تُفلح في تحقيق المأمول، أو في إحداث صدعٍ قوي في مبنى السياسة التقليدي المتكلس، أو لم تشكل محورا جامعا حقيقيا تلتفّ حوله الجموع. لكن هل يُفهم من ذلك أن المبادرات السابقة كانت إخفاقا مطلقا؟ لا أعتقد؛ إنها عبّرت وتعبّر عن النفس القلقة، وعن المعاناة الداخلية لشرائح واسعة من النخب والناس عموما، كما تتجسد فيها روح الاجتهاد الإنساني المتنوع، وعن الدافع الإنساني لمقاومة اليأس، وللتجريب والمحاولة للخروج من المأزق، أو اكتشاف الجديد.

وفي رأيي أن كل مبادرة جديدة تستفيد من التي سبقتها، بإيجابياتها وإخفاقاتها، لأنّها تولّد قدرا من الديناميكية، وقد تُحدث تراكما مع مرور الزمن. وربما يعكس تتابع المبادرات الكثيرة الواقع المركّب الذي أنتجته السياسات القديمة، وبنيتها المعيقة والهدّامة. وفي الوقت ذاته، تعكسُ إصرار َالفلسطيني على تخطّي واقعه، وتشييد دعائم جديدة لحاضر مختلف ومستقبل تحرري. ما هو "التحالف الشعبي للتغيير"؟ لستُ أحد مُطلقي المبادرة، ولا من الذين صاغوا البيان التأسيسي الهام، والذي أعتقد أنه يحتاج إلى تطوير بمضامينه ولغته السياسية، ولكنّي دعيتُ لاحقا كناشط من داخل المنطقة المستعمرة عام 1948، للمشاركة في اجتماعاتها المستمرة، وفي إحدى لجانها المنبثقة عنها، كون المبادرة تقوم على رؤية الكل الفلسطيني وحدة واحدة. ويجري التواصل مع أطر فلسطينية تمثيلية من داخل الخط الأخضر، لتكون شريكة في هذا الجهد. وأعرف معظم الشخصيات المنخرطة فيها، وهي كما أعتقد تحظى بمصداقية عالية واستقامة واستقلالية في التفكير، وهم من الذين إما هجروا تنظيماتهم وفصائلهم بسبب عجز تلك الفصائل عن التجديد واضمحلال شعبيتها وتراجع قوتها وتأثيرها، أو من النشطاء المستقلين الباحثين عن المعنى وعن الإنقاذ.

ليس بمقدور أحد منا أن يجزم ما إذا كانت هذه المبادرة الجديدة ستؤتي ثمارها، أم ستلاقي مصير غيرها من المبادرات الهامة الأخرى، التي لا يزال أغلبها يعمل دون أن تُحدث اختراقا حتى الآن، فالتحديات هائلة، وحجم الخراب الذي أحدثه اتفاق أوسلو، وخصوصًا مضامينه الأمنية والاقتصادية، كارثية؛ لكن المبادرين الجدد يصرون على إنجاح المهمة، وعلى اعتماد الحكمة في مجابهة الهياكل المتحكمة بالشعب الفلسطيني، سواء من نظام الاستعمار، أو من الوسطاء المحليين. والأهم أن مبادرة "التحالف الشعبي للتغيير" تطرح صيغة تنظيمية جديدة لكيفية إحداث التغيير، وهي الصيغة الشعبية، التي تقوم على الاستقلالية الكاملة عن أي إطار قائم، وحيث العضوية فيه فردية. وهي تحترم تاريخ الفصائل والحركات السياسية الوطنية ولا تصطدم معها، ولا تستثنيها من التعاون والتشبيك، ولكن لن تكون الهيمنة لها. ذلك هو شرط النجاح بحسب المبادرين.

تنطلق المبادرة من الإرادة الذاتية، ومن تركيز الجهد في المرحلة الأولى على عملية إعادة البناء الداخلي، إذ من دونه لن تقوم قائمة للمشروع التحرري الفلسطيني، بل قد تشهد الساحة الفلسطينية الداخلية على خلفية الفساد المستشري، والصراع على الخلافة داخل السلطة الفلسطينية، مصيرا كارثيا قد يحتاج لأجيال من أجل إصلاحه، وهو ما يعمل عليه نظام المستعمرة الصهيونية، منذ أن بدأ بتنفيذ مخططه في فلسطين.

جاء في البند الأول من البيان التأسيسي للتحالف أن "إعادة الاعتبار إلى منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وحاضنا أمينا على المشروع الوطني الفلسطيني المنبثق من الميثاق الوطني الفلسطيني لسنة 1968".

وفي البند الثاني: "إعادة بناء وتطوير وتفعيل دور ’م. ت. ف.’ لتستعيد دورها القيادي في النضال الوطني ومن أجل إنقاذ المشروع الوطني التحرري، وذلك من خلال توحيد القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية وبإشراك كافة القوى السياسية الفاعلة، عبر إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، والذي يقوم بدوره بتشكيل اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي".

وتأتي البنود اللاحقة على الخطوات والآليات التي تُعتمد لتحقيق هذا الهدف، ويجري العمل فيها حاليا، لتقود في المرحلة الأولى إلى عقد مؤتمرٍ وطني شعبي في الوطن والشباب، أو عدة مؤتمرات بالتوازي، يتبعها مؤتمر إستراتيجي يخرج بإستراتيجية بناء وعمل ومواجهة متفق عليها. ويسبق ذلك كما جاء في البيان، "إقرار خطط عمل تتعلق بكل تجمع فلسطيني تراعي ظروف وأوليات كل ساحة من ساحات التواجد الفلسطيني لضمان تنسيق وقيادة الفعاليات الوطنية والشعبية، والتي يمكن أن تشمل أنشطة نضالية وطنية بمشاركة كافة القطاعات". ويتلخص كل ذلك في "بلورة تيار وطني عابر للتجمعات والفصائل، وظيفته الضغط السياسي والجماهيري لفرض إجراء الانتخابات الشاملة، وإعادة بناء كل مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني، والحركة الوطنية...".

إذن، الآلية المعتمدة تختلف عن مبادرات الإصلاح والمصالحة بين الفصيلين المركزيين، حركة فتح وحركة حماس، والتي لم تتسبب سوى بتجذير الانقسام وتعميق الأزمة. إذ أن هذه الآلية تجدد وتضيف إلى مبادرات أخرى مهمة لم تحرز تقدّما، مسارا مختلفا، وهذا باعتقادي سليم نظريا، ولكنه في نهاية المطاف ينتظر اختبار التجربة في الميدان. والمقصود العمل من تحت، من الشارع الشعبي وليس من فوق، أي من خارج الهياكل التمثيلية القائمة والفصائل والأحزاب، فمبادرات الإصلاح التي تدخّلت فيها دول عربية، إضافة إلى دولة جنوب إفريقيا الصديقة، استمرت على مدار 15 عاما دون جدوى، بل عمّقت الإحباط وضعضعت الأمل. ومن المفترض وانطلاقا من المصلحة الوطنية العليا، أن يُرحّب طرفا النزاع الداخلي والفصائل بهذه المقاربة التي تعتمدها المبادرة.

ينتظر "التحالف الشعبي للتغيير" تحديات هائلة لا تنبع من تعمّق الحالة الاستعمارية الاستيطانية العدوانية، التي ولدت نظام فصل عنصري أكثر قبحا وإجراما من نظام جنوب إفريقيا البائد فحسب، بل أساسا من واقع تحوُّلِ حركة التحرر الوطني الفلسطيني التاريخية إلى وكيل للاستعمار، ما أنتج طبقة يرتبط مصيرها بالمستعمر وحمايته. كما أنتج ثقافة معادية للتحرر والمقاومة. وهذا الأخير هو في الواقع أول وأخطر التحديات التي سيتعين على التحالف الشعبي التعاطي معه بشجاعة وحكمة، وتخطيط سليم.

لا تتحرك مبادرة التحالف الشعبي أو المبادرات الأخرى من عدم، بل من تجدد روح الفعل والمقاومة في أوساط الشعب الفلسطيني، وظهور جيل مناضل جديد قلَب حسابات ومراهنات المستعمر، وقوّض أوهام معسكر الأنظمة العربية. إنها معركة طويلة، تبدأ في إنتاج وعي تحرري جديد، ببعد إنساني وأخلاقي شامل، وتمرُّ بتشكيل الجبهات المحلية والعربيةوالعالمية؛ المدنية والشعبية، لشقّ طريق جديد نحو دحر نظام الاستعمار.

اقرأ/ي أيضًا | عن الكتابة والقراءة

التعليقات