09/11/2022 - 17:04

انتخابات الكنيست 2022: استخلاص العبر

انحصار الخلافات الأيديولوجية بين الأحزاب الإسرائيلية لم يكن وليد الجولات الانتخابية الأخيرة، بل تراكم تحوّلات بدأت منذ بداية الألفية الثالثة. إلى غاية الانتفاضة الثانية، كان النقاش حول مستقبل الأراضي المحتلة والسياسات الأمنية، وبدرجة أقل الطرح الاقتصادي، من أهم مركبات التصدّع

انتخابات الكنيست 2022: استخلاص العبر

(توضيحية - Getty Images)

أوضحت نتائج انتخابات الكنيست أخيرا، من جهة، الفرز السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي وهيمنة اليمين الفاشي الشعبوي على المجتمع والسياسة في إسرائيل، ومن جهة أخرى حاجة المجتمع العربي في فلسطين 48 إلى مشروع سياسي واضح لمواجهة هذا الفرز، بعيدا عن لعبة المعسكرات والانضواء تحت سقف الأحزاب الصهيونية، والخروج من ذهنية سنوات التسعينيات والتعامل مع إسرائيل الحالية.

بعد خمس جولات انتخابية، استطاع اليمين المتطرّف تحقيق أغلبية عددية في الكنيست، بعدما حقق قبلها هيمنةً على المجتمع والسياسة وصناعة القرار في إسرائيل. عدم تمكُّن نتنياهو وأتباعه من الحصول على أغلبية في الجولات السابقة لا يعني أن هذا التيار لم يملك أغلبية، بل يعني أنه فشل في ترجمتها بعدد المقاعد في الكنيست بسبب الانقسامات داخل المعسكر نفسه. الجديد في هذه الانتخابات تجنّد مجتمع الحريديين بشكل كامل لحسم الانتخابات لصالح نتنياهو، وارتفاع كبير في نسب التصويت لديهم، لأنه لا يريد البقاء خارج التحالف الحكومي وخسارة مكتسبات مالية ورمزية حقّقها في تحالفه مع نتنياهو، وكذلك بسبب جنوح فئة الشباب في المجتمع الإسرائيلي إلى دعم الفاشي بن غفير، وغياب حزب "يمينا" عن المشهد الانتخابي الذي اقتطع من معسكر نتنياهو في الانتخابات السابقة ستة مقاعد، وذهب بها إلى المعسكر المناهض، وعادت كلها في هذه الانتخابات إلى بيتها في اليمين الفاشي. تجنّد معسكر نتنياهو بالكامل لاستنفاد دعمه في الشارع الإسرائيلي وعودته إلى السلطة التنفيذية، بينما تفكّك المعسكر المناهض لنتنياهو، كونه لا يملك أي مشروع سياسي بديل أو مختلف، وجل ما يطرحه هو الدعوة إلى تبديل نتنياهو.

يعمل المعسكر المناهض لنتنياهو تحت سقف البراديم (النسق) الصهيوني اليميني، وجلّ ما يريده هو الحفاظ على "الديمقراطية اليهودية" في إسرائيل، ومنع عودة نتنياهو إلى الحكم ودخول الفاشية للحكومة (سموطريتش وبن غفير). ما يريده فعلا هذا المعسكر هو الحفاظ على "الديمقراطية" بصيغتها الإجرائية فقط، ولا يخوض نقاشا في مضمون هذه الديمقراطية ومعانيها. لا ينادي هذا المعسكر بالديمقراطية الجوهرية ولا بالمساواة الحقيقية ولا بإنهاء الاحتلال، وهو يتبنّى النظام الاقتصادي النيوليبرالي بالكامل. دخول حزب "ميرتس" في هذا التحالف، متجاهلا هذه المعطيات هو ما أدّى إلى تلاشيه من المشهد السياسي في إسرائيل، وبذلك بقيت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، حزب اليسار الإسرائيلي الوحيد الممثّل في الكنيست.

انحصار الخلافات الأيديولوجية بين الأحزاب الإسرائيلية لم يكن وليد الجولات الانتخابية الأخيرة، بل تراكم تحوّلات بدأت منذ بداية الألفية الثالثة. إلى غاية الانتفاضة الثانية، كان النقاش حول مستقبل الأراضي المحتلة والسياسات الأمنية، وبدرجة أقل الطرح الاقتصادي، من أهم مركبات التصدّع بين اليمين واليسار الصهيونيين في إسرائيل. وقد انتظمت المنظومة الحزبية وفقا لمواقف الأحزاب وطروحاتها في هذه المحاور.

منذ بداية الألفية الثالثة، بدأت حدّة التصدّعات التقليدية بالتراجع، وتحوّلت من لبّ الشرخ إلى حالة توافق. منذ انتخابات 2009، هناك توافق كبير بين الأحزاب الرئيسية على طبيعة إدارة الاحتلال وجوهر دولة إسرائيل وهويتها ومكانة المجتمع العربي في دولة إسرائيل. في المجمل، تطرح الأحزاب الرئيسية موقفا يعارض إقامة دولة فلسطينية، ولا تحمل أي أجوبة للحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، وبذلك تلغي أي احتمال للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. كما تشدّد غالبية الأحزاب على الهوية اليهودية للدولة.

في المقابل، نمت تصدّعات جديدة، مشتقة من قاموس مصطلحات اليمين المتطرّف الحديث، تحدّد مكانة الأحزاب على محور اليمين المتطرّف (يشمل الليكود) ويمين وسط ("ييش عاتيد" و"المعسكر الوطني")، والوسط ("حزب العمل")، وفتات اليسار الإسرائيلي ("ميرتس"). بذلك، بدأ الحديث عن نمو تيار يمين متطرّف حديث، يمتاز بأنه يحمل نزعة قومية شديدة، متدين، يحمل أيديولوجيا عنصرية، معاد للديمقراطية، من ضمنها معاداة التعدّدية، ورفض المساواة الجوهرية بين مواطني الدولة. كما يسعى إلى تقويض صلاحيات الجهاز القضائي، وتحديدا المحكمة العليا، والحدّ من تأثيرها وتدخلها في الحياة العامة وعملية سن القوانين، ويتّسم بكراهية العرب ومعاداتهم. أوصلت انتخابات الأسبوع الماضي هذا التيار إلى الحكم.

وقد فاجأت نتائج الانتخابات من الأحزاب العربية فقط من غضّ النظر عن التحولات التي حصلت في المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، وأصرّ على التعامل مع المنظومة السياسية والمجتمع في إسرائيل بمفاهيم تسعينيات القرن المنصرم. وهكذا عمل على المفاضلة بين اليمينين، الفاشي والتقليدي، واعتبره مركزا، وغضّ النظر عن وجود داعي الترانسفير ليبرمان شريكا في هذا المعسكر، ومعه ساعر وزئيف إلكين، اللذان يحملان قناعات اليمين الفاشي عن ظهر قلب.

يؤكّد فوز اليمين المتطرّف الشعبوي وتلاشي وهم التأثير ولعبة المعسكرات، وفشل محاولات إسقاط اليمين بكل صياغاتها، حاجة المجتمع العربي لبناء مشروع سياسي جماعي يستند إلى قراءة واقعية للمشروع الصهيوني ولإسرائيل الحالية، وواقع المجتمع العربي، ويرتكز على حقوق المجتمع العربي القومية والمدنية، ويطرح دولة المواطنين حلا أفضل للمواطنين كافة، ليكون مشروعا مناهضا للإجماع الصهيوني. وهذا ما فشلت بتوضيحه القائمة المشتركة، وأدّى، في نهاية المطاف، إلى تفكّكها.

كان فشل تجربة القائمة المشتركة بسبب محاولة البعض الاستحواذ عليها وجرّها إلى لعبة المعسكرات الحزبية الإسرائيلية، ونتيجة قراءة خاطئة لواقع إسرائيل والتحولات السياسية فيها، وعدم طرح مشروع يحفّز المجتمع العربي على العمل والمشاركة السياسية. ولا يعني هذا الفشل أن المجتمع العربي ليس بحاجة إلى عملٍ جماعيٍّ أو مشروع سياسي جماعي. وقد تكون بقعة الضوء الأهم في نتائج الانتخابات أخيرا، التي تعزّز هذه الحاجة، حصول التيار القومي الديمقراطي المتمثل بحزب التجمع الوطني الديمقراطي، على قرابة 140 ألف صوت (قرابة 25% من الأصوات العربية)، ليشير إلى بداية مرحلة مختلفة عن السابق، وإلى عودة الرشد إلى الحالة السياسية والحزبية لدى المجتمع العربي في الداخل.

التعليقات