في لحظة واحدة تنهار عوالم كاملة لبشر قضوا في كارثة طبيعية أو كارثة من صنع الإنسان. ونحن هنا بصدد كارثة طبيعية، وهي الزلزال في تركيا وسورية، ولكنها تستدعينا للتأمّل أيضا في سلوك الإنسان، والنظر في حروب وفساد الدول والحكام.
لا "يحظى" ضحايا هذا الانهيار الذين أصبحوا في العدم بأي لحظة لفهم ما حصل، أو للانشغال بالسؤال الوجودي الأبدي، أو بالسؤال لماذا يحصل كل هذا الموت ويأخذ حياة الأبرياء، وهو سؤال قديم قدم المجتمع البشري. وحدهم الناجون المصابون، بأجسادهم أو بنفوسهم، يجدون أنفسهم أمام هذا السؤال. ولا شك أن الجزء الأكبر من المتضررين بصورة مباشرة بالكوارث، ليس لديهم ترف طرح هذا السؤال، فالصدمة مهولة، والخسارة فادحة، وسيحتاجون لفترة طويلة من الزمن لاستعادة توازنهم، مع جرح نفسي غائر ولّدته فجيعة الفقدان، أو التجربة ذاتها.
يقف الإنسان العادي البعيد عن موقع الحدث مشدوهًا ومحزونًا ومصدومًا إزاء كل هذا الدمار، ويعيد اكتشاف عجزه وحدود قوته وتأثيره في مواجهة أحداث الطبيعة المدمرة، وكذلك في مواجهة الحروب صنيعة الإنسان. في الحروب والمصائب التي يسببها النظام العالمي الراهن، ومن يدير دفّته، أو أنظمة الطغيان الملحقة به رسميًا وموضوعيًا، يستطيع المرء القيام بأعمال احتجاج وتنظيم المظاهرات، وإحداث الثورات، وغيرها من النشاطات التي تستهدف التأثير. أما أمام كوارث الطبيعة، فليس هناك من تحتج ضده. ليس أمامك بموازاة استمرار جهدك الذي يجعل حياتك ذات معنى، سوى أن تتمسك بالإيمان بعيدا عن الغيبيات والهرطقات، مثل أن الله يعاقب البشر، أو أن الله يمتحنهم. لا يمكن أن يكون الله قاسيًا وعديم الرحمة. ألم يطالبنا الله بالرحمة والتراحم وإظهار التضامن والتعاطف، وتقديم العون لمن يحتاج العون، والصدقة أو الوقوف إلى جانب المظلومين في مواجهة أنظمة الاستغلال والقهر؟
الحقيقة أن مصيبة البشرية بابتلائها بأنظمة وحكام قتلوا من الشعوب أكثر مما قتلت الطبيعة والأمراض. فالكوارث الطبيعية، على هولها وبشاعتها، تُفجّر مشاعر التضامن والتعاطف، والمشاعر الإنسانية وإن مؤقتًا، ولا تترك هذه الكوارث أحقادًا بينهم، لعقود ولقرون، كما تفعل حروب الأنظمة وتجار الحروب.
اعتقد الكثيرون أو تمنوا أن يؤدي وباء كورونا وتبعاته المادية والنفسية، إلى تغييرات حقيقية في سلوك الدول والإنسان. غير أنه لم يتغير شيء في هذا السلوك. فالشعوب عادت لتخرج إلى الشوارع لتستأنف نضالها الأبدي بهدف انتزاع حقها في حياة حرة كريمة. ومؤخرًا، وفي الوقت الذي تعاني البشرية من تبعات وباء الكورونا، النفسية والاقتصادية والاجتماعية، نشبت حرب وحشية هي الحرب الروسية - الأميركية الغربية في أوكرانيا التي لا تزال مستمرة، تطحن بشرا مدنيين وجنودا، وتهدد بحرب نووية مرعبة.
وفي النظام العالمي يتعمق الاستقطاب، ولا أحد يستطيع الجزم بأن نظامًا عالميًا جديدًا، إذا ما تشكل، سيكون عادلا، أو أقل ظلمًا، أو أخفّ وطأةً على الشعوب. وفي فلسطين، يزداد نظام الاستعمار الصهيوني تطرفًا ووحشيةً دون أن يتعظ لا من تبعات جائحة كورونا، ولا من أزمات العالم الطاحنة، الاقتصادية والاجتماعية والمناخية، ولا من صرخات الشعوب الساعية إلى الحياة. كل ما يقلق هذا النظام الصهيوني ويشعره بالتوتر الدائم، هو مصادفته لشعب راسخ في وطنه منذ آلاف السنين، ومصرٌّ على مقاومة المشروع الاستيطاني الإحلالي الإجرامي، ومنعه من تحقيق انتصار نهائي على الحق والعدل. تُقلق هذا النظام مسألة العدالة، وتُخيفه قيمة المساواة والديمقراطية التي تضمن حياة طبيعية للبشر، كل البشر، وليس "لشعب الله المختار " فقط.
تخيّل أو تمنى أدباء ومفكرون ومثاليون أن تؤدي جائحة كورونا والضحايا الذين فتكت بهم، وحالة الذعر غير المسبوقة التي اجتاحت كل سكان المعمورة، أن تتراجع حدة الجشع والتنافس المحموم على موارد الكوكب، بين الأولغارشيات التي تتحكم باقتصاد العالم، وأن تبدأ هذه الأولغارشيات بإعادة النظر بنهجها المدمر لصالح رفاهية الإنسان، وتخفيف حدة الفقر والمعاناة، وأن تبدأ بالتعاون الحقيقي من أجل بناء البرامج التي تُخفّف من أضرار الكوارث الطبيعية والأمراض، وتوقف التخريب الذي تسببه الدول الكبرى للمناخ.
تقدم بعض الدول العون لضحايا الزلزال في سورية وتركيا، ولكن كما رأينا في السابق، سيعود هؤلاء، إلى نهجهم المعتاد بعد الادعاء أنهم انجزوا المهمة الإنسانية. فوراء كل ذلك نظام هو مستغل بنيويًا، وبالتالي لا يتغير بمحض إرادته.
لذلك، سيظل الناس العاديون، سواء فرادى أو من خلال تنظيماتهم المدنية، والسياسية، والاجتماعية، والتقدمية، وذات التوجه الإنساني، وأبطال المعركة الإنسانية التحررية؛ تحرر الإنسان من الفقر ، والجهل والهيمنة والاستغلال، حاملين على كاهلهم حلم تغيير العالم!
اقرأ/ي أيضًا | تسلل القيادات إلى المظاهرات الإسرائيلية... هروب من المسؤولية
التعليقات