لا تزال هبّة الطلاب الأخيرة في الجامعات الغربيّة تستقدم الأسئلة وتثيرها، خاصّة بعد أن شدّ الطلاب خيط هبّتهم خلال الشهرين الماضيين بصورة غير مسبوقة أعادت للذاكرة مشاهد الاحتجاجات الطلابيّة الشجاعة عام 1968 ضد الحرب العدوانية الأميركية على فيتنام، لا سيّما وأن الاحتجاجات قد انطلقت من ذات الجامعات والمعاهد وبعضها من نفس الساحات، وإن بنمط جديد من المواجهة. استدعت هذه الهبّة الطلابيّة تحريضًا غير مسبوق من القوى الشعبويّة اليمينية والمناصرة للصهيونية تجلّت في مسرحيات "جلسات الاستماع" الهزليّة لرؤساء بعض الجامعات. كما ومن قبل الإعلام الإسرائيليّ الذي لا يزال يشكّل بوقًا دعائيًا لحرب الإبادة، مُستدمجًا العنصريّة والجهل معًا. لم يشذّ هذا الإعلام الرسميّ عن التوجّه الإسرائيليّ الرسمي وحملته الدعائية التي تُرحّل كل انتقاد لمجازر الاحتلال وممارساته إلى معاداة الساميّة، وقد قيل الكثير مؤخرًا في تفنيد هذا الخلط بين معاداة الساميّة ومعاداة الصهيونيّة ولا حاجة لتكراره.
عن الهبّة ومبدأ التقاطعيّة: فلسطين في كل مكان
لا شكّ بأن مشاعر الغضب والألم المتراكمة تجاه مشاهد المجازر الدمويّة المستمرّة منذ شهور، والتواطؤ العالميّ الرسميّ، شكلا الدافع المباشر والمحرّك الرئيسيّ لاندلاع هذه الموجة الاحتجاجية الواسعة خاصة في الولايات المتحّدة، وذلك كون إدارتها شريكةً في عملية الإبادة. بيد أن الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية والأوروبية تتجاوز مسألة التضامن مع غزّة أو رفض الإبادة فقط، بوصفها حدثا يجري في ما وراء البحار، بل تمتدّ لتشكّل مسألة مرتبطة ومتشابكة مع مواجهة الطلاب منظومات القمع المحليّة في بلدانهم وجامعاتهم، وهو ما بات يعرف باسم التقاطعية في النضال. أي التقاطع بين النضال من أجل العدالة في فلسطين وأسئلة العدالة في العالم التي تشغل أولويات الحركات الاجتماعية المختلفة: سواء حركات مناهضة قمع السود، مناصرة حقوق المهاجرين أو النساء وطالبي اللجوء، العدالة البيئية وغيرها.
تنطلق هذه التقاطعيّة من فهمٍ عميق لمدى التشابك والتداخل بين منظومات القمع وهياكلها المختلفة حول العالم، إذ تؤطر بوعيها الإبادة والقمع الدموي في فلسطين بوصفها مسألة غير منفكّة ومنفصلة عن شبكات القوة وهياكل القمع المترامية الأطراف، حيث تساهم شبكات المصالح العالمية سواءً السياسية أو الاقتصادية في إدامة الإبادة والاحتلال والقمع في فلسطين. بهذا المنظور، ترى الحركات الاجتماعيّة الطلابية في الغرب العلاقة بين ممارسات الإبادة وتواطؤ حكوماتهم وجامعاتهم فيها، وبين موقفهم الأخلاقي ونضالهم في بلدانهم إلى ناحية الحقوق المدنية، أو العدالة البيئية والحضرية أو مناهضتهم التمييز ضد السود والمهاجرين وطالبي اللجوء وغيرها من القضايا الأخلاقيّة المعياريّة التي أنبتت حولها عشرات الحركات الاجتماعيّة. ترى هذه الحركات مع مرور الوقت أن منظوماتهم المحليّة التي تتواطأ مع حرب الإبادة هي ذات المنظومة التي يخوضون ضدها نضالًا لتوسيع هامش العدالة في بلدانهم. وبهذا المنظور يصبح النضال من أجل فلسطين مربوط عضويًا في أوليات هذه الحركات الاجتماعيّة، بل ويصبح الموقف من قضيّة فلسطين معيارًا لمدى تقدميّتها ومقياسًا للانحياز الأخلاقي ضد الظلم والشرّ.
ترتبط هذه التقاطعيّة بما يسمّيه جيف هالبير بعولمة فلسطين، ولا يقصد به انتشار حركات التضامن مع فلسطين فحسب، بل أيضا استقرار الوعي بأن القمع الجاري بفلسطين مرتبط بصورة ما بالقمع الأمني-الشرطي الممارس على الطلاب، وبالمصالح الاقتصاديّة لبعض الجامعات في الاستثمار في بعض شركات الأسلحة المستفيدة من إدامة الاحتلال، وهي جميعها قضايا كانت في لبّ القاموس السياسي للهبّة الطلابية، تحت شعار "نزع أو سحب الاستثمارات".
ليس شعار "سحب الاستثمارات" جديدًا، فقد سبق وأن رفعت مطالب بشأنه بخصوص نزع الاستثمارات من صندوق الجامعات في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في بداية ومنتصف الثمانينات. كما وتردد خلال العقد الأخير فيما يخصّ مطالبة الطلاب بسحب الاستثمارات من مشاريع تنضوي على إشكاليّة أخلاقيّة كمصادرة أراضٍ لسكان أصليين أو الإجحاف البيئي.
تقوم معظم الجامعات بإدارة الصندوق الوقفي الجامعي من خلال مجموعات غير مختصة بالشأن، وتخضع عملية الاستثمار إلى سطوة قوانين السوق بهدف توسيع إمكانيات الجامعة المالية ومواردها الاقتصادية، ودون الاكتراث إلى ما قد تؤديه بعض هذه الاستثمارات من إدامة للتمييز العنصري بحق السود أو الملوّنين أو المهاجرين وطالبي اللجوء، أو السياسات الاقتلاعية لأراضي السكّان الأصليين. وبالتالي فإن شعار سحب الاستثمارات من الشركات المتورّطة في الإبادة يتقاطع مع جميع هذه الفئات، ويرتبط بسؤال شغل الحراك الطلابي حول سيادتهم على جامعاتهم.
على سبيل المثال، يصل الصندوق الوقفي لجامعة ميشغن - وهي أساسًا قائمة على أنقاض أراضي شعوب أنيشنبانغ وياندوت، قرابة الـ18 مليار دولار، وتشير بعض التقارير إلى أن ثلث، أي 6 مليارات، من بينها مستثمر في شركات ومشاريع مرتبطة بصورة ما بالتصنيع الحربي والأسلحة. كما وتستثمر جامعة ميشغن في عدد من المشاريع العقاريّة في مدينة ديترويت ذات الأغلبية السوداء، وبعض هذه المشاريع العقارية التي تأتي تحت شعار "الثورة الحضرية" تؤدي تدريجيًا إلى إخلاء السكّان السود منها نتيجة لعملية "الاستطباق" المجحفة، أي التهجير بسبب "التطوير". وعادة ما تستعين الجامعة بشرطتها الخاصة لإخلاء السكّان، إذ إن الجامعة تعتبر ثاني أكبر جهة - غير دولة تملك قوى أمنية في العالم بعد الفاتيكان. من هنا ترى حركات مناصرة حقوق السود بأن الشرطة التي تقمع وتخلي السكّان هي ذاتها التي تستدعها الجامعة لتقمع وتفضّ مخيمات التضامن مع فلسطين. ويرى، بالتالي، سؤال فلسطين مرتبطًا بالنضال لنزع أو تخفيف المظاهر الشًرطية في أميركا عمومًا.
وفي سياق آخر شبيه، أعلنت الجامعة استثماراها بمشروع عقاري، "مركز ابتكار"، يشمل وحدات سكنيّة وفندق ووحدات تدريس وبحث وغيرها، في إحدى المناطق بتكلفة 300 مليون دولار. وكما تفيد التقارير سيترتّب على المشروع تهجير بعض السكان الملونين. ويأتي المشروع بتمويل اثنين من أكبر الداعمين والمناصرين لإسرائيل، وهما ستيفين روس ودان جيلبرت؛ الأول فهو من أكبر المانحين التاريخيين للجامعة، ومن أكبر متبرعي حملة ترامب الانتخابية؛ وأما الثاني فقد كُرّم عام 2014 من قبل جمعيّة "أصدقاء جيش الدفاع الإسرائيلي" لدعمه الدائم لإسرائيل.
هذه فقط أمثلة قليلة لعشرات من الأمثلة التي تسلط الضوء على التقاطعيّة النضاليّة لحركات مناصرة القضيّة الفلسطينية، والتي استقرّ في وعيها وقاموسها أن فلسطين ليس في ما وراء البحار، بل إن بعض ملامحها متمثّل في ميشغن ونيويورك، وأن تضامنهم مع عدالة القضية الفلسطينيّة وضد تواطؤ حكوماتهم، ضد وكم الأفواه الممارس من قبل إدارة جامعاتهم غير منفصل عن نضالهم المحلي في السيادة والتأثير على سياسات الجامعة، من بينها إخضاع عملية إدارة الاستثمارات لمعايير أخلاقية على كافة الأصعدة.
منظومة التطويع والإسكات: كيف تُفلت إسرائيل من المساءلة!
تعيد الهبة الطلابية الشجاعة تسليط الضوء على التداخل بين مسألة فلسطين والإبادة، وبين شبكات المصالح العالمية الاقتصادية والسياسية المتواطئة والمستفيدة من إدامة الاحتلال، وعلى رأسها التعاون والتبادل الاقتصادي في مجال الصناعة الحربية والأمنية. تساهم هذه الشبكة المتداخلة من المصالح المشتركة في إنفاذ وتحقيق ما يسميه جيف هالبير "منظومة التطويع العالمي".
لقد تحولت إسرائيل بفعل تجارب ممارسة منظومة السيطرة لعقود على الفلسطينيين إلى "مزوّد" خدمات أمنية - شرطية رئيسيّ لكثير من الدول. طوّرت إسرائيل وراكمت وفقا لهالبير منظومة أدوات وتكتيكات ومهارات للسيطرة على الفلسطينيين ضمن ما يسميه بـ"الحرب الأمنوقراطية"، أي استدماج الجانب الشرطي - الأمني الداخلي وجمع المعلومات والسيطرة مع الجانب العسكري. وهو ما يفسّر تربّع إسرائيل على رأس قائمة الدول الأكثر تعسكرًا حول العالم باستثناء العام الأخير. تحوّلت إسرائيل إذًا إلى مورّد لهذه المنظومة والخدمات لعدة دول، منها دول العالم الثالث في سيطرتها المحلية على حركات التمرّد والمعارضة، فضلا عن التقارير التي تفيد بأن أميركا استفادت من تجربة إسرائيل في "حرب المدن" خلال حربها في العراق، إضافة إلى ما يسميه "تغلغل المبادئ الأمنية الإسرائيلية" في مجال الأمن الداخلي، إذ تطبق شرطة نيويورك بعض الأنظمة الأمنية على المدينة، ما يعتبره البعض "أسرلة الأمن الداخلي الأميركي" كما اتضح في مواجهة الشرطة مع حركة "احتلوا وول ستريت"، ما يحوّل سؤال فلسطين إلى حرب ليس على فلسطين فقط، بل حربًا على الشعوب كما يقول هالبير.
"نزع الاستعمار عن المعرفة ليس مجازًا": عودة إلى الهبّة الطلابية
"نزع الاستعمار عن المعرفة ليست مجازًا"؛ كانت هذه من المقولات التي استقرّت في القاموس الاجتماعي والاحتجاجي لهبّة الطلاب الأخيرة، وفي النقاشات الأكاديميّة عمومًا، وذلك بعد أن تبيّن أن منظومة الجامعة التي منحت مساحات بحثية تقدمية لإنتاج المعرفة النقدية، و"البحث بحريّة" هي نفسها من استدعت الشرطة لقمع واعتقال مئات الطلاب. فبمنطق إدارة الجامعة، تكون المعرفة النقدية متاحة، ومن المستحبّ استقدام أطر معرفية مثل "النظرية الجنوبيّة" و"دراسات التابع"، لكنّ أي محاولات لربط هذه المداخل والقراءات النقدية المنحازة للعدالة والشعوب، مع حرب الإبادة في غزّة يواجه في غالبه بتهم معاداة السامية. فالمعرفة النقديّة مستحبّة طالما بقيت مجرّدة ومجازيّة، أو طالما لم تدخل من باب غزّة وفلسطين، فيما يعتبره البعض جزءًا من ترند "Progressive except Palestine"، أي التقدميّة إلا في القضية الفلسطينيّة.
لم يكن سؤال فلسطين حاضرًا بهذه الكثافة والعمق منذ عقود على الساحة الدوليّة، كما لم تكن آذان النشيطين والنشيطات بهذا الإصغاء لسماع السرديّة الفلسطينيّة و"ماذا لدى الفلسطينيّين قوله"، بما يتجاوز في تاريخية وبعدها السياق الزمني والظرفيّ الحالي. ولا شكّ في أن ذلك يشّكل ضربة قاصمة لأهم عاموديّن ارتكزت عليهما السياسة الخارجيّة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو، أي تهميش القضيّة الفلسطينيّة عالميًا وإسقاطها من الأجندة والانشغال العالمي، فضلًا عن مطابقة معاداة الصهيونيّة بمعاداة الساميّة لنزع الشرعيّة عن حركات المقاطعة ومناهضة الصهيونيّة وإسرائيل.
إحالات:
(1) الشكر للصديق والناشط في الحراك الطلابي أمير مرشي على الملاحظات والتصويب.
(3) أمير مرشي
(5) جيف هالبر، الحرب ضد الشعب: كيف تنفلت إسرائيل من المحاسبة؟ (لندن: دار بلوتو، 2015).
(6) https://gmi.bicc.de/ranking-table
(7) هالبر، 262
التعليقات