ما زال بنيامين نتنياهو، وبعد عشرة أشهر على الحرب الدمويّة على القطاع يبحث عن صورة نصر من خارج غزّة، بعد أن لوت ذراع جيشه المتغطرس، وتصدّت بلحم أطفالها، وصبر نسائها وصمود رجالها لبأس قبضاته الحديديّة، وأفشلت رغم الدمار والموت وبحر الدماء الّذي أغرقها به "الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم"، أهدافه في استعادة قوّة الردع وترميم هيبة جيشه الّتي تحطّمت في السابع من أكتوبر، عن طريق تحقيق هدفي الحرب المعانين في القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليّين.
بعد كلّ فشل في غزّة، الّتي دحرت في السابق شارون ورابين وغيرهما من جنرالات إسرائيل، وهي تدفع اليوم غالانت وهرتسي هليفي إلى حافّة الجنون، يذهب نتنياهو لاقتناص صورة نصر موهوم في بيروت وطهران ودمشق، هكذا فعل عندما اغتال الشيخ صالح العاروري في ضاحية بيروت بعد أن فشل في المسّ بقائد المقاومة يحيى سنوار على أرض المعركة في غزّة؛ وهكذا يفعل اليوم باغتيال الشيخ إسماعيل هنيّة في طهران، وهو يدرك أنّه يقتل المفاوض وليس المقاتل.
وبدون شكّ أنّ النجاح "منقطع النظير" لعمليّات الاغتيال الّتي ينفّذها الجيش الإسرائيليّ خارج ساحة المعركة وضدّ قادة سياسيّين مدنيّينن بعضهم لا يحمل مسدّسًا، أمثال العاروري وهنيّة وحتّى من يوصف بالقائد العسكريّ لحزب اللّه، فقد استهدف في بيته بين زوجته وأطفاله في الضاحية الجنوبيّة، وليس في ساحة المواجهة الّتي تدور رحاها على أرض الجنوب اللبنانيّ ضمن ما تسمّى جبهة الإسناد اللبنانيّة.
هذا "النجاح الفائق" وإن كان دليلًا على احترافيّة الجيش الإسرائيليّ في عمليّات التصفية والاغتيال، الّتي دشّنها بتفجير جسد أديب فلسطينيّ هو غسّان كنفاني وتحويله إلى أشلاء في وسط العاصمة بيروت عام 1972، ومأسسها جنرال الاغتيالات إيهود براك الّذي تخفى بلباس امرأة في إطار عمليّة اغتيال ثلاثة من المثقّفين الفلسطينيّين هم كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجّار، لتتالى هذه العمليّات، وتمتدّ إلى عدّة عواصم عربيّة وأوروبّيّة، وتطال كوادر وقيادات فلسطينيّة من مختلف ألوان الطيف الوطنيّ.
غير أن هذه العمليّات عدا عن أنها لم تردع الفلسطينيّين وغيرهم من المقاومين العرب، رغم الخسارة الكبيرة الّتي أوقعتها في صفوفهم، كونها سرعت في وجود كوادر وقيادات تمكّنت من سدّ الفراغ وإكمال المسيرة، فإنها حوّلت الجيش الإسرائيليّ إلى مجرّد "عصابة قتل"، وهو ما يبدو جليًّا عندما يفشل هذا الجيش في تحقيق "النصر" على حركة مقاومة صغيرة نسبيًّا حطّمت خطوط دفاعه، واخترقت حواجزه اللوجستيّة والإلكترونية، وتوغّلت في المستوطنات الحدوديّة الأمنيّة وصولًا إلى العمق الإسرائيليّ، وذلك رغم حشد كامل احتياطه البشريّ وإمكانياته الناريّة والتدميريّة في حرب حرّرت فيها كلّ القيود الأخلاقيّة، وامتهنت قوانين الحرب وصولًا إلى ارتكاب جرائم الإبادة الجماعيّة.
من هنا، فإن نجاح عمليّات الاغتيال الّتي يراد لها أن تغطّي على هذا الإخفاق، إنما تفضي إلى نتيجة عكسيّة كونها تضيء على الفشل المدوّي لهذا الجيش في أرض المعركة ليس في غزّة فقط، بل وعلى جبهات الإسناد أيضًا، وهو ما يدفع بهذا الجيش إلى سحب هذا النمط إلى الجبهة اللبنانيّة في عمليّة اغتيال القائد بحزب اللّه فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبيّة ببيروت، وليس استغلال دماء أطفال الجولان السوريّ المحتلّ إلا ذريعة وقحة من قبل دولة احتلال تفنّنت منذ عام 67 في مصادرة طفولة هؤلاء وحرمان أهاليهم من حقّهم في الحياة الحرّة الكريمة في وطنهم أسوة بكلّ أطفال العالم.
ولو سلّمنا بالرواية الإسرائيليّة بأن الصاروخ انطلق من لبنان، وأخطأ هدفه رغم أن الكثير من الدلائل تدحضها، فإن الموضوع، سيندرج في هذا الإطار عن "نيران صديقة"، كما تسمّى في العرف الإسرائيليّ سقط نتيجتها عشرات، وربّما مئات القتلى الفلسطينيّين في غزّة، كما تدّعي إسرائيل، وسقط نتيجتها 39 جنديًّا إسرائيليًّا كما يؤكّد الجيش الإسرائيليّ ذاته، ولم يطالب أحد بالانتقام لهم، هذا ناهيك عن أن دولة الاحتلال هي آخر من يمتلك الحقّ في الثأر لأطفال الجولان المحتلّ.
ولا شكّ أن إسرائيل أرادت خلط الأوراق واستغلال مأساة مجدّل الشمس لإثارة الفتنة الطائفيّة في لبنان والمنطقة من جهة، وجرّ أهالي الجولان إلى مستنقع التجنّس والاسرلّة الّذي يرفضون الانزلاق إليه منذ 57 عامًا، هذا إضافة إلى استغلال الدماء العربيّة لسفك المزيد من الدماء العربيّة في فلسطين ولبنان.
لكنّ المفارقة المثيرة في موضوع الاغتيالات هي وقوع ما يشبه عمليّة تبادل الأدوار، حيث يتحوّل جيش الدولة إلى "عصابة مسلّحة" ويفقد من قيمته كجيش نظاميّ، وبالمقابل تتحوّل العصابة أو "العصابات المسلّحة الفلسطينيّة واللبنانية" (هكذا هو تعريفها في غياب الدولة أو تهلهلها) إلى "جيش" يعجز الجيش الإسرائيليّ عن مواجهتها في غزّة، وفي جنوب لبنان، فيلجأ إلى هذا الأسلوب القذر للنيل من قياداتها.
ومن الواضح أن هذه العمليّات تدور في إطار صراع تاريخيّ يصل هذه الأيّام إلى ذروة جديدة، مردّها، أوّلًا، تبديل الحركة الاستعماريّة الاستيطانيّة الّتي بنت وما زالت تقود دولة إسرائيل لجلدها، بصعود ما يسمّى بالصهيونيّة الدينيّة الأكثر اندفاعًا نحو السيطرة على كلّ فلسطين التاريخيّة أو ما تسمّيها أرض إسرائيل الكاملة وتحالفها سياسيًّا ومصلحيًّا مع تيّار يمينيّ علمانيّ واسع في الليكود وأحزاب أخرى، والثاني تخطّي إسرائيل لدورها الوظيفيّ كرأس حربة في الهيمنة الاستعماريّة على المنطقة إلى الطموح للّعب دور الشريك الفعليّ في وهو ما أبرزه خطاب نتنياهو في المنطقة، ويحاول تطبيقه عبر فرض حقائق ناجزة على الأرض وتحدّي الإدارة الأميركيّة الرسميّة.
وقد وفّرت زيارة نتنياهو لأميركا، رغم تحفّظ هاريس وتردّد بايدن، الدعم الكامل لهذا التوجّه من الدولة العميقة ودوائرها ومؤسّساتها وحتّى من المسؤولين والمستشارين المحيطين بهما، ناهيك عن الدعم الّذي حظي به من ترامب، وهو ما عزّز من مكانته المتذبذبة في إسرائيل ودفعه إلى الاستمرار في عمليّة هروبه إلى الأمام وتكسير المزيد من الخطوط الحمر وصولًا إلى حدّ المجازفة بنشوب حرب إقليميّة، من خلال عمليّات الاغتيال في بيروت وطهران.
اقرأ/ي أيضًا | لماذا لا يحرج الاحتضان الأميركيّ لنتنياهو الحلفاء العرب؟
التعليقات