لطالما كانت غزّة بقعة نابضة بالحياة، مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا ضاربًا في التاريخ، وشاهدًا على صراع الحضارات وتغيّر الأزمنة. اليوم، بعد أن أنهكها الاحتلال ببطشه، يقف القطاع على مفترق طرق حاسم: إمّا أن يعاد بناؤه وفق رؤية استعماريّة تستهدف اقتلاع أهله، أو وفق رؤية وطنيّة تعكس إرادة سكّانه وصمودهم. السؤال الّذي يفرض نفسه: كيف يمكن لغزّة أن تعود إلى "ريفييرا الشرق" بعد كلّ هذا الدمار؟
حين كشف الرئيس الأميركيّ، دونالد ترامب، عن رؤيته لغزّة، لم يكن يتحدّث عن إعادة إعمارها لصالح أهلها، بل عن مشروع استعماريّ عقاريّ يتصوّر غزّة من دون غزيّين. ولكن، ألم يتعلّم ترامب ومن سبقه من تاريخ هذا القطاع؟ غزّة ليست عقارًا وبالتّأكيد ليست للبيع؛ إنّها ذاكرة ممتدّة من الفرس والإسكندر الأكبر، إلى الرومان، إلى الصليبيّين، فالمماليك والعثمانيّين، والإنجليز وأخيرًا الاحتلال الإسرائيليّ. كلّ الغزاة مرّوا من هنا، لكنّ غزّة بقيت لأهلها الفلسطينيّين.
المدن الّتي تعرّضت للتدمير خلال الحربين العالميّتين الأولى والثانية شهدت تجارب مشابهة، حيث سعت قوى الاحتلال إلى إعادة تشكيلها وفق مصالحها، كما حدث في برلين بعد الحرب العالميّة الثانية. ولكنّ التجارب الأكثر نجاحًا لم تكن تلك الّتي أعادت بناء المدن وفق أجندات استعماريّة، بل تلك الّتي قامت على تمكين السكّان من إعادة بناء مجتمعاتهم وفق احتياجاتهم الحقيقيّة، كما حدث في وارسو بعد الدمار النازيّ. هذا هو التحدّي الحقيقيّ أمام غزّة اليوم: إعادة الإعمار وفق رؤية فلسطينيّة مستقلّة، لا وفق مخطّطات جاهزة تأتي من الخارج، كلّ هذا شريطة رفع الحصار.
رفع الحصار... حجر الأساس لأيّ عمليّة تنمويّة
لا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار في غزّة من دون الحديث عن الحصار الّذي يخنقها منذ أكثر من 17 عامًا. كيف يمكن ترميم المنازل وبناء المصانع إذا كانت موادّ البناء ممنوعة أو محدودة بإجراءات تعسّفيّة؟ كيف يمكن للاقتصاد أن ينتعش إذا كانت المعابر تفتح وتغلق بقرار احتلاليّ؟ كيف يمكن الحديث عن تنمية مستدامة فيما الاحتلال يتحكّم في الماء والكهرباء والدواء وحتّى الهواء؟
أيّ محاولة لإعادة الإعمار من دون رفع الحصار هي مجرّد محاولة تجميليّة تهدف إلى ترميم السجن لا تحريره. غزّة بحاجة إلى حرّيّة الحركة والتجارة والاستقلال الاقتصاديّ، لا إلى مشاريع تدرّ أرباحًا للمحتلّ، أو تجعل الفلسطينيّين أكثر تبعيّة للمساعدات المشروطة.
لا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار من دون تفكيك القيود الّتي فرضت على غزّة لعقود. فكما لم يكن ممكنًا إعادة إعمار برلين الغربيّة بعد الحرب دون إنهاء عزلتها، لا يمكن بناء غزّة بلا رفع الحصار الّذي حولها إلى أكبر سجن مفتوح في العالم. تحتاج غزّة إلى ممرّات تجاريّة وإنسانيّة دائمة تربطها بالعالم، وليس إلى معازل جديدة تديرها أطراف خارجيّة.
يجب فتح معابر حقيقيّة تربط غزّة بأسواق المنطقة، واستحداث طرق تجاريّة تمكّنها من استعادة دورها الاقتصاديّ التاريخيّ. لا يمكن لأيّ بنية تحتيّة حديثة أن تصمد إن كانت محاصرة بالأسلاك الشائكة والجدران والمعابر المغلقة. إنّ أيّ خطّة لإعادة الإعمار لا تضع حرّيّة التنقّل، والسيادة الكاملة على الموارد، والربط الاقتصاديّ مع العالم في مقدّمة أولويّاتها، لن تكون إلّا محاولة لتجميل القفص، لا تحرير سكّانه.
نحو إعادة إعمار مستدامة
إعادة الإعمار ليست مجرّد إعادة بناء المباني، بل هي فرصة لوضع أسس جديدة لمدينة أكثر استدامة ومرونة في مواجهة الأزمات. غزّة، مثلها مثل المدن الّتي دمّرتها الحرب العالميّة الثانية، بحاجة إلى إعادة تخطيط شاملة، تأخذ في الاعتبار التطوّر السكّانيّ والاقتصاديّ، والتغيّرات البيئيّة والتكنولوجيّة.
لطالما كانت غزّة بوّابة تجاريّة تربط المشرق بالمغرب، ولعبت دورًا محوريًّا في الحركة الاقتصاديّة للمنطقة، وهو ما يجعل مستقبلها الاقتصاديّ مرتبطًا باستعادة هذا الدور التاريخيّ. وكما أثبتت تجارب المدن الّتي نهضت من تحت الأنقاض بعد الحروب الكبرى، فإنّ إعادة الإعمار لا تقتصر على بناء ما تهدّم، بل تمتدّ إلى تعزيز المكانة الاقتصاديّة وتحقيق التنمية المستدامة. ولتحقيق ذلك، يجب العمل على إنشاء مناطق تجارة حرّة تعيد إحياء مكانة غزّة كمركز تجاريّ إقليميّ، مستلهمة النموذج الّذي اتّبعته سنغافورة بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث تحوّلت من مستعمرة متأزّمة إلى مركز عالميّ للتجارة. كما أنّ تطوير موانئ حديثة على ساحل غزّة سيعزّز موقعها الإستراتيجيّ، ويربطها بشبكة التجارة الدوليّة، ممّا يفتح آفاقًا واسعة أمام الاقتصاد المحلّيّ والإقليميّ.
إلى جانب ذلك، ينبغي تشجيع الاستثمار في التكنولوجيا والصناعات الصغيرة، ممّا يقلّل من اعتماد القطاع على المساعدات الخارجيّة، ويمكّن الشباب الفلسطينيّ من قيادة نهضة اقتصاديّة حقيقيّة، تساهم في تحويل غزّة إلى مركز حيويّ للتنمية والاستقرار. كما استطاعت روتردام الهولنديّة، الّتي دمّرت بالكامل خلال الحرب العالميّة الثانية، أن تتحوّل إلى واحد من أكبر الموانئ في العالم، فإنّ غزّة قادرة على استغلال موقعها لتكون مركزًا اقتصاديًّا نشطًا يخدم المنطقة بأكملها.
إعادة إعمار غزّة ليست مجرّد مسألة هندسيّة، بل قرار سياسيّ وإستراتيجيّ يجب أن يبقى في أيدي الفلسطينيّين أنفسهم. لقد أثبت أهل غزّة قدرتهم على الصمود رغم كلّ شيء، فهل سيمنحهم العالم الفرصة ليحوّلوا قطاعهم إلى ريفييرا حقيقيّة، لا وفق أوهام المستعمرين، بل وفق إرادة شعبها الّذي لم ينكسر رغم الدمار؟
ارفعوا الحصار، فكّوا العوازل، واسمحوا لغزّة أن تتنفّس. الشعب الّذي يصنع الحياة من العدم، من داخل سجنه الأكبر في العالم، قادر على صنع المستحيل عند موعد حرّيّته. وعلى من دمّر أن يتحمّل مسؤوليّة الخراب، ويدفع ثمن إعادة بناء ما دمّره.
التعليقات