هذا ما تبقّى لكم في النّقب: التّهويد الزّاحف

نظرة تاريخيّة إلى النقب ومكانه في الفكر والمشروع الصهيوني، والوقائع التي أوصلته إلى حاله الآن.

هذا ما تبقّى لكم في النّقب: التّهويد الزّاحف

أثناء إحدى عمليات الهدم في أم الحيران (أ ف ب)

خلفيّة عامّة

عاش في النّقب قبل النّكبة قرابة الـ100،000 عربيّ. سكن قسمهم الأكبر (89%) في مدينة بئر السبع و86 قرية انتقاليّة ثابتة (بيوت شعر وطين وبعضها حجر). اعتمد أهالي النقب في حياتهم على الزراعة والمواشي، وفلحوا أكثر من 4 مليون دونم تعدّت مساحتها قرية رخمة جنوبًا. وعليه، لم تتجاوز نسبة البدو الرُّحل الـ11% تنقّلوا بين مراكز "وعزبات" رعويّة جنوبًا لكرنب (ديمونا). وللمقارنة، ما تفلحه إسرائيل اليوم في النّقب لا يتجاوز 1،974،854 دونمًا، يمثّل 49% من الأرض الّتي زرعها العرب البدو قبل عام 1948. حقائق تدحض مقولة الصّهيونيّة وباحثيها أنّ النّقب كان قاحلًا/خربة، أرضه "موات" وسكّانه بدو رحل. الأمر الّذي انعكس، أيضًا، في اعتراف القانون العثمانيّ والبريطانيّ بملكيّتهم ومصداقيّة وشرعيّة القانون العشائريّ للبتّ والحكم في أمرها، تأكيدًا لذلك جاء على لسان المندوب السّامي هربرت صموئيل بقوله: "إنّ ملكيّة الأرض في منطقة بئر السّبع ثابتة، وتحكم وفقًا للأحكام العشائريّة وحكومة بريطانيا تعترف وتقرّ بهذا"، الأمر الّذي تجلّى في المحاكم المختلفة في عهد الاستعمار البريطانيّ.

خلافًا لباقي أجزاء فلسطين كانت وما تزال للنّقب مكانة خاصّة في فكر الحركة الصّهيونيّة، كما حدّدها بن غوريون: "في النّقب يمتحن الشّعب الإسرائيليّ ودولته"، لهذا قرّر أن لا يبقى فيه أكثر من 10،000 عربيّ. وفعلًا استمرّ التّهجير الدّمويّ في النّقب إلى أن استقرّ العدد عند 11،000 عام 1959. ولعلّ من بين أبشع جرائم الصّهيونيّة وجيشها لتنفيذ تهويد النقب، هو ما كتبه بن غوريون نفسه حول جريمة قتل النّاس العُزّل ومواشيهم واختطاف طفلة في 12.8.1949 تراوح عمرها بين 10 إلى 15 عامًا، على حدّ شهادة من شارك في الجريمة. اقترح قائد الكتيبة التّصويت على مصيرها. إمّا أن تعمل في المطبخ أو اغتصابها؛ فصوَّت الجند على الثّانية. بعدها "قصّوا شعرها، غسّلوها واغتصبوها بالتّناوب على مدار أسبوع، ثمّ أخذوها خارج المعسكر وقتلوها رميًا بالرّصاص". وبحسب التّقرير، دفنت هناك في كثبان رمال منطقة قرية معين جنوب غربيّ النقب، كيبوتس نيريم، اليوم والّتي سمّيت على اسم وحدة الاغتصاب هذه.

إستراتيجيّة التّركيز وتهويد القانون والحيّز

في الأعوام 1948-1966، أدار الحكم العسكريّ النّقب كباقي مناطق العرب. في غضون هذه الفترة سُنّت قوانين كثيرة ذات طابع تهويديّ، منها قانون أملاك الدولة 1951 واستملاك الأرض 1953، وطوّرت الدّولة إستراتيجيّة المصادرة، القضم والتّركيز. المصادرة الرّسمية الأولى كانت عام 1960، حين سجّلت الدّولة 9 ملايين دونمٍ من أراضي النّقب الجنوبيّ، وأعلنت عنها مناطق عسكريّة. تمّ هذا في الوقت نفسه الذي رُكّز العرب فيه، بين عامي 1948- 1953، في منطقة أُطلق عليها "السّياج" وكان هذا التّركيز الأوّل. التّركيز الثّاني في بلدات محدّدة أقرّته "اللّجنة الوزاريّة لشؤون البدو" عام 1962، ومعه رسمت معالم إستراتيجيّة تركيز أكبر عدد من العرب على أصغر رقعة أرض وتوزيع أقلّ عدد من اليهود على أوسع مساحة أرض، ترجمةً لتهويد النقب بمنطق "إنقاذ الأرض". والتّهويد هُنا يتخطّى الأرض والمكان؛ ليطول الإنسان والمجتمع والهويّة الجماعيّة بفرض التّوطين والتّحديث القسريّ، وما ترتّب عليه من انهيارات اجتماعيّة عاموديّة وأفقيّة.

من تهجير إحدى قرى النقب (أرشيف الجيش الإسرائيلي)
من تهجير إحدى قرى النقب (أرشيف الجيش الإسرائيلي)

في هذا السّياق، قال موشيه دايان أحد مبتكري إستراتيجيّة التّركيز، التّوطين والتّحديث القسريّ: "علينا تحويل البدو إلى عمّال مدنيّين. هذا انتقال وتغيير كبير ومعناه أن لا يعيش البدويّ على أرضه ومع ماشيته. سيصبح مدنيًّا يعود بعد العمل ليحتذي حذاء البيت. سيتعوّد أبناؤه على والد يلبس بنطالًا دون أن يحمل الشبرية، ولا ينشر القمل بين النّاس. هؤلاء الأبناء سيذهبون إلى المدرسة مع تمشيط شعرهم جانبًا. ستكون هذه ثورة ويمكن إنجازها في فترة جيلين، هكذا سينتهي شيء اسمه البدو".

بما ينسجم مع الهدف قطريًّا، سنّ قانون التّخطيط والبناء عام 1965. وفقًا له وضعت الخرائط برؤية تهويد الحيّز التّخطيطيّ. وعليه لم يذكر الوجود العربيّ في النّقب على الخرائط. هكذا ولدت مشكلة القُرى غير المعترف بها كحالة حاضر غائب.

في هذا السّياق، ومع بداية تطبيق مخطّط بلدات التّركيز تل السّبع ورهط؛ أعلنت إسرائيل عن مرسوم تسوية الأراضي في النّقب الذي بدأ عام 1971 وانتهى عام 1979. طالب العرب بملكيّة مليون ونصف دونم (وبعض الباحثين يذكر 2.5 مليون دونم). قبلت الدولة تسجيل جزء منها كأرض متنازع عليها. والطّامة الكُبرى هنا أنّ الدّولة استغلّت جهل الناس، وأعدّت لهم كمينًا قانونيًّا في استمارة تسجيل الأرض نفسها. حيث وقّع صاحب الأرض على أنّها ملك للدولة وعليه إثبات ملكيّته لها بإبراز وثيقة "الطّابو" أمام المحكمة. و"الطّابو" هذا لم يكن في يوم أساسًا للتّعامل بملكيّة الأرض في النّقب الّتي أقرّت ملكيّتها القوانين العثمانيّة والبريطانيّة، وفقًا للتّوارث والقانون العشائريّ. وعليه يصيب القاضي غولدبرغ كبد الحقيقة حينما يقول: "إنّ استمارات تسجيل الأرض الّتي وقع عليها البدو هي بمثابة ادّعاء قانونيّ ضدّ البدو، وكهذه يقرّ الموقع عليها مسبقًا بملكيّة الأرض للدّولة حتّى بدون الذّهاب للمحكمة". استخدمت الدّولة، حتى اليوم، هذا الادّعاء ضدّ البدو في المحاكم الّتي دعتهم هي بنفسها إليها. من بين 320 صاحب أرض مدّعى عليهم، لم يفز أيّ منهم بالحضور أو الغياب.

وإذا كانت إستراتيجيّة القضم والنّهب للأرض ومخطّطات التّركيز في البلدات واقتلاع القرى؛ تهدف إلى تهويد الحيّز الجغرافيّ، فإنّ تهويد الأسماء بإحلال أسماء توراتيّة وعبريّة للأماكن جاءت رافدًا آخر لتهويد الوعي والذّاكرة التّاريخيّة للمكان. في هذا السّياق، يفهم مرسوم 6 لسجلّ المواطنين عام 1974 الّذي استبدل الأسماء التّاريخيّة للقُرى بأسماء القبائل والعشائر. هكذا غيّرت الدّولة العنوان في بطاقة الهُويّة مستبدلة الاسم التّاريخيّ باسم العشيرة، وبما ينسجم مع ذلك أوجدت أسماء عشائر ومشيخات جديدة. الهدف هو التّأكيد على عدم علاقة النّاس الثّابتة مع الأرض؛ لأنّ العشيرة توحي بالرّحيل والتّنقّل. هذه السّياسة طالت أيضًا أسماء بلدات التّركيز الّتي بادرت لها الدّولة وأعطتها أسماء توراتيّة مثل: راهط، تل شيبع، عروعير، شيقب شلوم، مرعيت، بيت فلط مولاداه وغيرها. في هذا السّياق، يُذكر أنّ الدّولة صادرت أراضيَ واسعةً لإقامة بلدات التّركيز هذه. وحين حاول أصحاب الأرض استباق الأحداث ببناء البيوت عام 1973، كما حدث في رهط، ردّت الدولة بحملة هدم واسعة واعتقال وسجن فعليّ لبعض أصحاب البيوت. هكذا بدأ مسلسل الهدم في النقب متزامنًا مع بناء بلدات التّركيز والتّوطين القسريّ.

في قضيّة الأرض خطت الدّولة خطوة أخرى في منتصف السّبعينيّات بإقامة "لجنة البك"، الّتي أقرّت نهائيًّا أنّ وضعيّة الأرض القانونيّة "موات" وكهذه تسجل باسم الدّولة. وأوصت المحاكم بالتّعامل بمنطق "محاكمات مضادّة"، تبادر لها الدّولة نفسها. ترجمة لذلك، جاء قرار الحكم على أرض الهواشلة - قرية قصر السّرّ عام 1975 كسابقة قانونيّة قيس عليها كلّ محاكم الأرض في ما بعد.

عام 1977، كان النّقب على موعد مع أرئيل شارون كوزير للزّراعة في حينه. دعم شارون "الدّوريّات الخضراء" لملاحقة البدو في أرضهم ورزقهم. استهدفت الدوريّة الخضراء الثّروة الحيوانيّة بشكل خاصّ بعد حصار الزّراعة بهدف ربطهم بعجلة الاقتصاد الإسرائيليّ على الأغلب كعمّال. تزامن ذلك مع اتفاقية كامب ديفيد الّتي استدعت مصادرة أكثر من 27000 دونم في منطقة تلّ الملح لإقامة مطار "نبطيم" العسكريّ، ومنطقة "كدمات هنيقب" للصناعة العسكرية. الأمر الذي أدى إلى اقتلاع قرى كثيرة تم ترحيلها لرهط ولبلدة كسيفة وعروعير/عرعرة، الّتي أقيمت خصيصًا لهم. في هذه المحطّة صادرت الدولة 5700 دونم في منطقة تقع بالقرب من تلّ السّبع. كذلك 118000 دونم في أبو تلول لإقامة المنطقة الصّناعيّة العسكريّة "رمات بيكع". ولكي تضمن الدّولة تنفيذ سياستها في هذه المرحلة الحرجة؛ أدارت شخصيّات يهوديّة كلّ بلدات التّركيز هذه. وعلى سبيل المثال، أقيمت رهط عام 1972 وأوّل انتخابات كانت فيها عام 1989 بعد أمر من محكمة العدل العليا. وإذا كانت إدارة البلدات قد وكّلت لليهود كذلك القرى؛ من خلال إقامة مؤسّسات خاصّة بهم يديرها يهود، أيضًا، مثل "سلطة التّعليم للبدو" و"مديريّة البدو".

تكثيف مخطّطات اقتلاع القرى منتصف التّسعينات

في منتصف التّسعينيّات، وُضع مخطّط "إسرائيل 2020"، والذي أكّد مجدّدًا أن أرض النّقب احتياط الدّولة ومستقبلها. وفقًا لهذا التّوجّه بادرت "مديريّة البدو" عام 1996 إلى وضع مخطّط كامل متكامل لاقتلاع ما سمّوه "هبزوراه هبدويت/الشّتات البدويّ". حدّدت هذه الخطّة عام 2008 لإنجاز الهدف، من خلال التّرحيل إلى بلدات السبع، وإذا تعسّرت الأمور يمكن التّفكير بإضافة ثلاث بلدات تركيز أخرى اقترح لها الأسماء التّوراتيّة التّالية: "بيت فلط" في منطقة أبو تلول، "بئير حايل" في منطقة أمّ متنان و"مرعيت" في نقع كحلة، الدريجات، الباط والحمرة. تزامنت هذه الخطّة مع ظروف أوسلو، الأمر الذي دفع بمدير "مديريّة البدو"، إلياهو باباي، في حينه إلى القول: "تنفيذ هذه الخطّة وارد وعمليّ بسبب اتّفاقية أوسلو والأجيال الجديدة عند البدو الّتي تبحث عن حلّ وواقع أفضل".

لتعجيل التّنفيذ، بدأت الدّولة بتكثيف هدم البيوت، ونشرت خطّة زرع 13 مستوطنة في قلب الوجود العربيّ ومحيطه؛ بهدف تقطيع تواصله داخليّا، وكذلك لتشكيل حزام عازل عن أهلهم في الضّفّة الغربيّة.

من بين هذه المستوطنات ما تمّ بناؤه، ومنها قيد التّنفيذ مثل مستوطنة "حيران" المخطّط إقامتها على أنقاض قرية أم الحيران، قرية الشّهيد يعقوب أبو القيعان. وكذلك مستوطنة "عومريت" على أرض الزرنوق بعد اقتلاع أهلها وترحيلهم لمدينة رهط. وإذا كان هذا لا يكفي، قامت اللّجنة اللوائيّة للتّخطيط والبناء بإعداد مخطّط "متروبولين" بئر السّبع اللّوائي؛ بهدف فكّ الطّوق العربيّ عن المدينة، ووضع كلّ المخطّطات المحاكة ضدّ عرب النّقب على الخارطة اللّوائيّة وإقرارها بشكل رسميّ. منها مناطق تحريش، مناطق عسكريّة، مناطق صناعيّة، زرع مستوطنات منها الفرديّة، مناطق محميّة طبيعيّة، مناطق لتخطيط مستقبليّ، شوارع وسكك حديديّة وكذلك اقتراح توسيع مناطق نفوذ السّلطات المحلّيّة اليهوديّة، وخصوصًا الإقليميّة منها، وكلّه على حساب الوجود العربيّ وأرضه.

حتّى هذه المرحلة أخذ نضال عرب النّقب أشكالًا مختلفة، لعب فيه الشّيوخ والقيادات التّقليديّة وجمعيّة مؤازرة حقوق البدو دورًا مهمًّا، ومعهم القُوى السّياسيّة والحركات الطّلّابية، كذلك جمعيّة "الجليل" ولجنة الأربعين. غير أن أوج هذا النّضال، قبل منتصف التّسعينيّات، تمثّل في تنفيذ عائلات من العزازمة حقّ العودة الفعليّ من قرية وادي النّعم، الّتي هُجّروا إليها، إلى أرضهم التّاريخيّة بير هداج، وكما يحلو لأهلها تسميتها هداج، هنا صمد النّاس بدعم الجميع حتّى انتزعوا الاعتراف بهداجهم.

غير أنّ انتقال الدّولة إلى مرحلة التّخطيط الإستراتيجيّ "إسرائيل 2020 ومتروبولين بئر السّبع 2020"، وترجمته على الأرض كخطط عينيّة استهدفت الوجود العربيّ برمّته، استلزم تفكيرًا جديدًا يعتمد مقولة أطلقها كاتب هذه السّطور "تخطيطهم مقابله تخطيطنا، وقلمهم مقابله قلمنا"، وعليه بادرتُ عام 1996 إلى وضع المخطّط البديل "خطّة عرب النّقب 2020"، كردّ على مخطّط "إسرائيل 2020" وفيها وضعنا خارطة لـ45 قرية بأسمائها التّاريخية الّتي غيرها مرسوم 6 عام 1974 كما ذكرنا أعلاه. واستبدلنا مصطلح "بزوراه/شتات" بقرى غير معترف بها، يجب على الدّولة الاعتراف بها على أرضها وتقديم الخدمات لها كحقّ طبيعي دون اشتراط ذلك بتسوية الأرض. وأوصت "خطّة عرب النّقب 2020" بتنظيم الحركة الجماهيريّة في لجان محليّة ومجلس إقليميّ كقيادة ميدانيّة عُليا.

وفقًا للخطّة، أقيمت "لجنة التّوجيه والتّخطيط الإستراتيجيّ للمدن والقُرى العربيّة في النّقب"، وذلك بمشاركة رؤساء سلطات محليّة، قيادات شعبيّة وميدانيّة في القرى، أحزاب ونشطاء كثر. في 29.12.1996، أقرّت لجنة التّوجيه هذه "خطّة عرب النّقب 2020" كبوصلة درب لبناء الحركة الجماهيريّة في النّقب للدّفاع عن نفسها، وبعدها أقرّتها لجنة المتابعة للجماهير العربيّة. وعليه بادرنا عام 1997، بمشاركة قيادات شعبيّة مؤثّرة بتنظيم القُرى في لجان محلّيّة. مع رؤساء اللّجان هذه، أسّسنا المجلس الإقليميّ للقُرى غير المعترف بها. طوّر المجلس الإقليميّ، بمساعدة المركز اليهوديّ العربيّ للتّطوير الاقتصاديّ، خطّة "عرب النّقب 2020" وخارطة الـ45 قرية إلى "خطّة إقامة سلطة محلّيّة للقرى العربيّة البدويّة غير المعترف بها في النقب"، وقّع عليها كل رؤساء اللّجان المحلّيّة، وقدّمت بشكل رسميّ في 29.11.1999، إلى وزارة الدّاخليّة ومتصرّف اللّواء، شلومو دنينو. شملت هذه الخطّة مطلب الاعتراف بكلّ القُرى على أرضها، وكذلك إقامة مجالس إقليميّة على مساحة 1،153،143 دونمًا، متواصلة لـ200،700 إنسانٍ سنة الهدف 2020. كذلك وضعت خطة إستراتيجيّة للتّطوير الاقتصاديّ بمنظور 2020.

من تهجير أم الحيران (أ ف ب)
من تهجير أم الحيران (أ ف ب)

شكّل عمل المجلس الإقليمي نقلة نوعيّة في نضال عرب النّقب، بدعم كلّ القُوى السّياسيّة والمدنيّة ولجنة المتابعة مستخدمًا التّخطيط البديل والإستراتيجيّ، الإعلام الموجّه والذّهاب إلى المحاكم لفرض تقديم الخدمات. وكذلك تنظيم الحركة الجماهيريّة في "لجان الفزعة والعونة" للدّفاع عن النّاس ومنع هدم البيوت الّذي انخفض إلى 8 بيوت فقط عام 2001. بهذا الأسلوب المتطوّر، نجح المجلس الإقليميّ بفرض تقديم الخدمات الجزئيّة والاعتراف بـ13 قرية وإقامة سلطة محلّيّة مجلس إقليمي أبو بسمة لها، والّذي انقسم في ما بعد إلى مجلسين واحة الصحراء والقيصوم. كذلك قدّم المجلس الإقليميّ، بمساعدة "المركز العربيّ للتّخطيط البديل"، خطّة بديلة لمخطّط متروبولين بئر السبع اللّوائي. في هذا السّياق ذهب المجلس الإقليمي لمحكمة العدل العليا طالبًا منه أمر مخطّط متروبولين بئر السبع وضع ال 45 قرية على الخارطة اللّوائية. قرار المحكمة أوصى الأخذ بعين الاعتبار لوجود القُرى وعليه تجاوب مخطّط بئر السّبع بتعيين مناطق للاعتراف لا تتجاوز مساحتها 75000 دونم دون الالتزام بعدد القرى. هذا بالإضافة لوضع المجلس الإقليميّ خططًا بديلة عينية لقرى مهدّدة بالاقتلاع. كذلك عمل المجلس الإقليميّ، بمساهمة الجميع، على إعادة بناء البيوت المهدّمة، ومدّ الطّرق وشبكة المياه للقرى. هذا غير نضاله الشّرس في كلّ ما يتعلّق بالتّعليم في القرى، الأمر الّذي أدّى إلى حلّ "سلطة تعليم البدو" وطرد مديرها الفاسد والعنصريّ، موشيه شوحط. والأهمّ أفشل صمود النّاس بقيادة المجلس الإقليميّ ومعه الجميع خطّة مديريّة البدو لاقتلاع وتركيز القرى حتّى عام 2008. للأسف، في أوج الصّراع ونجاح المجلس الإقليميّ بقيادة المعركة بهمّة أصدق قيادات القرى والنّقب، وبمهنيّة عالية أربكت الدّولة، تكاتفت عليه عوامل الهدم الدّاخليّة والخارجيّة المخابراتية، وبدأ يتراجع وينحصر في أدائه، ومع هذا ما زال له حضور وصوت مسموع وإن كان بعيدًا عن زخمه الأوّل. تمّ هذا في وقت إعادة الدّولة ترتيب أوراقها من خلال خطّة شارون.

تنفيذ خطة شارون 2003-2020

في هذه المرحلة، أعادت الدّولة ترتيب أوراقها التّنفيذيّة من خلال خطّة شارون الّتي أنجزت بين عامي 2003-2005. أقرّت هذه الخطّة تفعيل المحاكم المضادّة لسلب الأرض، بعد أن فشل مشروع قبول الناس التّسوية وكذلك تكثيف المصادرة، هدم البيوت، حرث المحاصيل والتّشجير وتنفيذ بناء المستوطنات المذكورة أعلاه. كما أوصت الخطّة بتحويل "مديريّة البدو" إلى "سلطة توطين البدو". نعم، للدولة قوّة عسكريّة خاصّة موجّهة ضدّ البدو، هي "وحدة يؤاب" المكوّنة من أكثر من 800 شرطي مدرّبٍ على أحسن وجه للقمع والتّنكيل. ووحدة مراقبة طائرات سيارة "ريغافيم" تستطلع يوميًّا كلّ متغيّر على الأرض من بناء، تنقّل، زراعة وغيره؛ لتوجيه عمل المفتّشين الّتي وسعت صلاحياتهم إلى حدّ محاكم التّفتيش الميدانيّة. وفقًا لهذه الخطّة جاءت "لجنة غولدبرغ" بتوصياتها الّتي تمخّض عنها مشروع قانون غولدبرغ-برافر، والّذي كان الرّدّ عليه بهبّة النّقب المتميّزة بحضور مكثّف للشّباب. قمعت السّلطة هذه الهبّة وشنّت حملة اعتقالات واسعة في صفوف قياداتها الشّابّة الّتي لم تفسح لها قيادة الأحزاب والحركات السياسيّة مجالًا للقيادة، مرتكبة أكبر أخطائها التّاريخيّة، إذ لم يقم لهذه الحركة الشبابيّة قائمة حتّى يومنا هذا. وخلافًا لما يتشدّق به بعض الأحزاب أنّ هذه الهبّة أسقطت قانون "برافر"، تبيّن الوثائق والأحداث التّاريخيّة أنّ الذي أسقط اقتراح سنّ القانون في الكنيست هي الأحزاب اليمينيّة اليُهوديّة الّتي رفضت إعطاء عرب النّقب حتّى القليل الّذي يقترحه هذا القانون. وإذا كانت الأمور تقاس بنتائجها قبل وبعد؛ فلقد تكثّف التّحريش وحرث المحاصيل والمحاكم المضادّة. على مستوى الاعتراف؛ تمّ التّراجع عن الاعتراف ببعض القرى مثل الفرعة. حتّى القرى الّتي تمّ الاعتراف بها، ولها مجالس إقليميّة ما زالت تعيش واقع القرى غير المعترف بها. غير أنّ تنفيذ خطّة شارون وأداتها غولدبرغ- برافر تجلّى بشكل كارثيّ في مجال هدم البيوت ومصادرة الأرض وتسجيلها باسم الدولة.

هدم البيوت بين أعوام 2001-2019

السنة عدد البيوت المهدّمة
2001 8
2005 23
2009 72
2013 (تجميد قانون برافر) 697
2014 1073
2015 982
2016 1158
2017 2220
2018 2326
2019 2241

تبيّن المعطيات أعلاه أنّه على مدار 18 عام الأخيرة زاد الهدم في النّقب بـ100% حيث هدمت إسرائيل 10،800 بيتٍ. وإذا قسنا ذلك بمقياس تعريف القرية بـ50 وحدة سكن بحسب الخارطة الاسرائيليّة القطريّة "تاما 35" يعادل ما هدم من بيوت 216 قرية صغيرة. وبحسب معدّل قرى النّقب العربيّة الصغيرة 100 وحدة سكن يعادل هدم إسرائيل من بيوت 108 قرى. وإذا كان أقلّ معدل للأسرة في النقب 6 أفراد يعني هذا أنّ 64800 إنسان تركوا في العراء بلا سكن. وحتّى تستوعب حجم المأساة أكثر. إذا كانت الشّريحة العمريّة للأولاد والأطفال ما دون جيل الـ17 تمثل 52% في النّقب. معنى هذا أنّ هنالك 33،696 ولدًا وطفلًا عايشوا الهدم ويعانون نفسيًّا من آثار صدمته بالإضافة للكبار. حيث تثبت الأبحاث أنّ لهدم البيوت بالقوّة العسكريّة ضررًا نفسيّا مدمّرًا كما يحدث في الحروب. هذا الواقع ينعكس كمشاكل نفسيّة عند الكثير اليوم، وإن تمّ التّستّر عليه لخصوصيّة مجتمعنا. وحتّى تكتمل الصّورة فإنّ جريمة الهدم هذه زادت بـ69% منذ عام 2013، سنة الانتصار المزعوم على "برافر".

هذا ما تبقى لكم من أرض في النقب

الأرض المطالب بها كملكية/دونم 1971-1979

المصادرة/دونم

سجلت كمتنازع عليها: 1،500،000

ألغي منها بحجة مُشاع 529،000

بقي 971،000

267،000 رُفِضَ تسجيلها بحجج مختلفة وسجلت باسم الدّولة.

بقي 704،000

240،000 أرض مصادرة قبل التسجيل وكتبت باسم الدّولة.

بقي 464،000

211،000 صودرت أو سجّلت باسم الدولة باتّفاق تسوية (حتى 2016)

بقي 253،000

96،000 صادرتها المحاكم المضادّة وسجلت باسم الدّولة.

بقي 157،000

منها 78،500 غير موجودة تحت السّيطرة المباشرة للعرب، وأكثرها في النّقب الغربي حيث لا يوجد تواجد عربيّ.

بقي 78،500 تحت السّيطرة الفعلية لأهلها والمحاكم المضادّة جارية لتصفيتها وفق خطّة القضم المتدرّج.

135،000 دونم مكتوبة باسم الدّولة وتدّعي الدّولة أنّ العرب يسيطرون عليها فعليّا. والحقيقة أنّ هذه الأرض لأهلها والدّولة رفضت في حينه تسجيلها باسم النّاس أو أنّ النّاس رفضوا تسجيلها خوفًا من نوايا الدّولة. غير أنّ إسرائيل استغلّت هذا الموقف وسجلتها باسمها.

ملاحظة مهمّة: قسم كبير من الأرض المصادرة، والتي سجلت باسم الدولة ما زال تحت سيطرة العرب الفعلية. التحريش اليوم، الذي يصل حدود البيوت وبينها، جارٍ عليها.

مخططات جارية عام 2020

المخطط

مساحة الأرض /دونم

مصانع الفوسفات برير وزوهر

26،000 على حساب قرى الفرعة، الزعرورة، غزة وقطامات والمطهر.

شارع 6

21،000 يمر في أم بطين، القرين/السيد خريبة الوطن، بير الحمام، خشم زنه، صواوين، وادي النعم ووادي المشاش.

سكة القطار ديمونا يروحام

3000 تمر من قرية رخمة.

سكة القطار بئر السبع عراد

4000 تمر في قرى السدير، قطامات، الزعرورة والفرعة.

تطوير سكّة حديد بئر السّبع وحتّى المصانع الكيماويّة جنوبًا لديمونا

15،000 على طول شارع 25 حيث يتواجد أكثر من خمسة قرى ومئات العائلات.

تحريش آلاف الدونمات. وكذلك توسيع المنطقة الصناعيّة "رمات بيكع" الّتي تهدّد بتهجير مئات العائلات من أطراف قرى أم متنان، صواوين، الشهبي، أبو تلول، المذبح، وادي المشاش ووادي النعم. هذا غير المناطق العسكريّة المعلن عنها على أرض قرى المزرعة، قطامات، المطهر، سعوه وعتير.

حصاد اليوم:

مصير القُرى غير المعترف بها

على مستوى الاعتراف بالقرى، فالأهالي عازمون على البقاء على أرضها وفي قراها وتجمّعاتها. وقياسًا بخطّة الدّولة عام 1996؛ لإنهاء قضية القرى غير المعترف بها حتّى عام 2008، فشلت إسرائيل حتّى الآن. مع هذا، ما زالت مصرّة على نهجها وهدفها بالنّسبة لكثير من القرى. صمود النّاس فرض على الدولة توجهًا آخر يتلخّص في التّالي: ترحيل قرى ضحية وكركور إلى مسطح رهط، مع أنّ هنالك فرصة للاعتراف بضحيّة كقرية أم نميلة وسبالة، لو أصرت بلدية رهط على ذلك وتعاون أهل القرية معها، وذلك بحسب اتّفاق توسيع الخارطة الهيكليّة لرهط. ضمّ/ترحيل قرى المساعدية، عوجان والمكيمن إلى اللّقية مع توسيع حدودها. ترحيل قرى عتير، أم الحيران إلى حورة وضمّ جزء من سعوة لها مع توسيع حدودها. في منطقة نقع بئر السبع هنالك توجّه غير رسميّ للاعتراف بقرى خريبة الوطن، الرويس، بير المشاش، الغرّة وقرية الزرنوق، إذا أصرّ أهل هذه الأخيرة على البقاء لأنّ هناك من يطالب بالرّحيل إلى ضاحية 11 في رهط. قرية بير الحمام ضمّ جزء منها لتل السبع مع توسيع مسطحها والآخر سيتوزّع بين باقي القرى وخصوصًا الرويس. ترحيل قرى تلّ الملح، باط الصرايعة إلى "مرعيت" أو كسيفة. ترحيل قرى السّرة والبحيرة إلى كسيفة. ترحيل قرى الفرعة، الزعرورة، غزة، قطامات والمطهر، إمّا إلى عرعرة وإمّا تحويل مخطّط إحدى المستوطنات هناك تلّ عراد أو "كسيف" لبلدة تركيز جديدة لهم. تلّ عراد والحمرة الجنوبيّة إمّا تكون في البلدة الجديدة إذا قامت وإمّا الترحيل إلى "مرعيت". قرى المزرعة وأم رتام ستصبح جزءًا من توسيع مسطح عرعرة، الّتي سترحل إليها قرية السدير.

قرى الشهبي والمذبح موجودة في مسطح قرية أبو تلول الّتي تمّ الاعتراف بها. سيتمّ الاعتراف بقرية خشم زنة وستضمّ العائلات الّتي حولها. قرية صواوين ستوزّع بين خشم زنه أبو تلول وجزء صغير قد يرحل إلى الشقيب. قرية السر ستصبح جزءًا من شقيب السلام. قرية وادي النعم مرشحة للاعتراف أو ستكون جزءًا من شقيب السلام وسيرحل إليها وإلى بير هداج سكّان قرية وادي المشاش. قرى عبده ورخمة سيعترف بها كقرى رعويّة سياحيّة. غير ذلك كلّ المجموعات الموزّعة في أرجاء النّقب سترحل بحسب المخطّط الإسرائيليّ. والمعركة ما زالت مفتوحة بين سياسة الدّولة والنّاس ودور توفير مقوّمات الصّمود والقيادة هنا مهمّ.

مصير الأرض

ما بقي للعرب من أرض تحت السّيطرة الفعليّة 78،500 دونم، تمثّل 5% من 1500،000 أرض الملك الّتي طالبوا بها في التّسوية بين أعوام 1971-1979. وحتّى هذه الـ5% جارٍ قضمها في المحاكم وفق قاعدة من يرفض الحلّ بشروط الدّولة تناديه للمحكمة المضادّة وسيصدر الحكم بنهب الأرض حاضرًا أم غائبًا بموجب استمارة الفخّ والتّزييف الّتي وقّع عليها النّاس دون علمهم.

وإذا أخدنا بعين الاعتبار المعطيات أعلاه، وحقيقة أنّ عدد العرب في النّقب سيصل عام 2030 إلى 450،000 وفي مئويّة إسرائيل 2048 سيكون 770،000 نسمة، يبقى السّؤال هنا ليس أين سيسكن العرب في النّقب بل أين سيدفنون أمواتهم؟! هذا إذا استمرّت إسرائيل في التّهويد، واستسلم العرب للواقع المفروض عليهم.

التعليقات