15/03/2021 - 20:26

حول توظيف المعرفة في استعادة الوعي التحرريّ     

في ظلّ هذا الواقع القيادي العاجز، واختزال السياسة، والقضية الوطنية، إلى قضية خدمات وصفقات رخيصة مع المستعمِر، تتأكد الأهمية القصوى لنشر هذه القراءات، من خلال نقلها من الدوائر الأكاديمية والنخبوية، إلى عموم كوادر الفصائل والأحزاب، وإلى الناس عموما

حول توظيف المعرفة في استعادة الوعي التحرريّ     

توضيحية من الأرشيف

تُعدّ المعرفة عنصرا أساسيا في تفكيك مجاهيل الحياة، وفي عملية التحول والتطور، وبناء النهضة المجتمعية، وتحقيق سعادة الإنسان. تسبقها بطبيعة الحال، التجربةُ الممارسةُ في الحياة المتفاعلة مع الطبيعة وأسرارها، وفي مواجهة التناقضات الاجتماعية وتطويعها، ومن ثم تتبعها الممارسة والتطبيق مرة ثانية. وهكذا تنشأ وتتطور جدليّة التأثير والتأثّر. وحين تضمحل المعرفة يسود الجهل، والخراب؛ جزئيا أو كليا. طبعا لا يكون الخراب مطلقا، إذ تنشأ من رحمه وضدّه، بذور النهضة مجددا، وقد يستغرق نموّ بذورها، وتحوّلها إلى أشجار باسقة، سنوات، أو عقودا، أو قرونا. وتبدأ النهضة مجدّدا مع استعادة المعرفة المفقودة، وتطويرها ومواكبة الزمان الجديد.

نسوق هذه المقدمة لنلج نقاشا يتصاعد ويتّسع في السنوات الأخيرة، حول العدة المعرفية المطلوبة لمواجهة الواقع الاستعماري في فلسطين، وذلك بعد أن استيقظ الفلسطينيون على سقوط الأحلام الشعبية الكبيرة، بالتحرر والحرية والتنمية، وسقوط الأوهام القاتلة التي روّجتها القيادات الفلسطينية الرسمية، ومعها جيش من المثقفين والإعلاميين التابعين.

ومع أن هذا النقاش مرتبط بحالة التأخُّر العربية عموما، وبأسباب النهضة الشاملة، إلا أننا لن نخوض فيه في هذه المقالة القصيرة، ولأن الفلسطينيين يتحملون قسطا أكبر عن مسؤولية تبديد التراكم المعرفيّ بخصوص فهم الواقع الاستعماري في فلسطين، وليس عن الفشل في تحرير فلسطين الفعليّ، الذي يتحمل المسؤوليه عنه جميع الأنظمة العربية.

وبسبب هذا الإخفاق الكارثي، وما ترتب عليه، ليس فقط المتمثّل في تكريس المشروع الاستيطاني الصهيوني الأوروبي في فلسطين، بل، والأخطر من ذلك؛ التهافُت على التخلّص من إرث حركة التحرّر الذي تحقّق بالفكر الحرّ والدماء الغزيرة، والتهافُت على التخلّص من قيَم ومفاهيم حركة التحرّر كذلك. تخلّينا عن ذلك لكي يقبلنا المستعمِر، إذ بات الصراع ضدّ هذا المشروع يعتبر نزاعا وخلافا على حدود أو على ملفات متفرقة، ما عزّز التطبيع مع الحالة الاستعمارية العدوانيّة، وأنتج ما يسميه علماء النفس الاجتماعيّ والسياسيّ، باستعمار العقل.

وكما أشرنا إلى نموّ بذور نهضة العقل من داخل الخراب والتحلل، فإننا نشهد، منذ أواسط التسعينيّات، وبعد فترة أوسلو التجزيئيّة، وكاستئناف عليها؛ إحياءً للبنية المعرفية المتعلقة بالحالات الاستعمارية الاستيطانية، وما جدَّ عليها من تطوير وإغناء، أو ما يسمى بإطار التحليل الكولونياليّ، وبالتوازي مع إطار تحليل الأبارتهايد. وكان لافتا انطلاق البحث من داخل دوائر أكاديمية وجامعية غربية، من قِبَل أكاديميين نقديين، ذوي توجهات تقدمية أو يسارية، أو ماركسية. وهم قاموا بتشريح الحالة الكولونيالية في فلسطين، باعتبارها حالة كولونيالية كلاسكية تنتمي لكل حالات الاستعمار الاستيطاني التي مارستها أوروبا في مناطق عديدة من العالم، وهذا أثّر في الأكاديميين الفلسطينيين الشباب ودفعهم إلى اعتماد نفس مشرحة التحليل على إسرائيل، والأهم أنهم، إضافة إلى الاستعانة بكتابات مفكرين عالميين، أعادوا اكتشاف الأدبيات الفلسطينية الأصلية الرائدة، التي تقارب إسرائيل كنظام استعماري استيطاني ونظام أبارتهايد، ونذكر على سبيل المثال، كتاب الباحث الفلسطيني، فايز الصايغ، الذي يعقد مقارنة بين حالتي جنوب أفريقيا وإسرائيل، كمشروعين كولونياليين وفصل عنصري. ولا أذكر سنة صدوره، ولكن ما أذكره هو قرائتي للكتاب في فترة الدراسة الجامعية والنشاط الطلابي في أواخر السبعينيات، إضافة إلى كتاب "إسرائيل واقع استعماري" للمفكر الفرنسي التقدمي اليهودي، ماكسيم رودنسون.

لم يكن ذلك ضمن اختصاصي الجامعي، إذ إنني درست اللغة والأدب الإنجليزي، بل كجزء من عملية التثقيف الذاتي، والمواجهة المعرفية مع الأيديولوجيا الصهيونية، وفي إطار نضال الحركة الطلابية الوطنية في الجامعات الإسرائيلية. وظلت تلك المعرفة النقدية، والتحررية، التي استندت إليها حركة التحرر الوطني الفلسطينية ومثقفيها، مصدر إلهام لنا، ولحركة أبناء البلد التي أعدنا تأسيسها كشباب في أواسط الثمانينيات، كحركة قومية يسارية، وكجزء من اليسار الفلسطيني، وذات مؤسسات مركزية، ولها فروع قوية في جميع الجامعات الإسرائيلية، فضلا عن بضع فروع في البلدات العربية، غير أن تراجُع الحركة أسوة بجميع التيارات الوطنية في الداخل والخارج، خاصة بعد أوسلو، والانهيارات العربية والعالمية (الاتحاد السوفييتي) منذ أوائل التسعينيات، وانحسار الفكر اليساري، والإرث النضالي ضد الكولونيالية والإمبريالية، وما أفرزه من مناخ عام مختلف؛ دفع الحركة وفئات من المثقفين والنشطاء إلى تغليب إبراز يهودية الدولة الصهيونية، أكثر من طبيعتها الكولونيالية، أي الاستعمارية الاستيطانية، نظرا لخصوصية واقع فلسطينيي الـ48، وذلك من خلال حزب التجمع الوطني الديمقراطي، والذي أبلى بلاء حسنا في المواجهة السياسية والأيديولوجية، ضدّ بُنية إسرائيل اليهودية الصهيونية، كبنية متناقضة مع صورتها عن ذاتها، ومع القيم الكونية الإنسانية، كالمساواة.

لم تُسلّم الحركة، ولا التجمع، مبدئيا بشرعية إسرائيل باعتبارها كيانا استعماريا استيطانيا، غير أنهما رأيا أن ذلك الظرف الرديئ الذي زاد الوضع تعقيدا، كان يستدعي مدخلا مختلفا، أو معادلة خلّاقة، تُبقي الصراع مع الصهيونية، باعتبارها حركة استعمارية وعنصرية، مفتوحا، وتمثلت في شعار، دولة المواطنين والمساواة الكاملة كتحدٍّ. ولكن بعد اجتياح إسرائيل لمناطق السلطة الفلسطينية، وقمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والهبّة الشعبية داخل الخط الأخضر، عام 2000، تطلب الأمر استعادة إطار التحليل الكولونيالي بصراحة وبوضوح، مترافقا مع إطار الأبارتهايد، وهكذا أعاد التجمع إبراز فكرة الدولة الواحدة، ودعا في مؤتمره عام 2003، إلى البدء في مناقشة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين الديمقراطية.

أما الرواد الأكاديميون لهذا النقاش، الذي كان قائما قبل أوسلو، وتصاعد بعد الانتفاضة، من داخل الخط الأخضر، فأبرزهم عزمي بشارة، وسعيد زيداني، ونديم روحانا، ونور مصالحة، ونادرة شلهوب وغيرهم، ولاحقا منذ سنوات الـ2000، ظهر العشرات من الأكاديميين، وربما المئات من جيل الباحثين اللاحقين، مثل رائف زريق وأسعد غانم، ونمر سلطاني وأريج صباغ ولنا طاطور وآخرون. كما هناك المئات من الأكاديميين الفلسطينيين، في جامعات أميركية وأوروبية، متميزون في أبحاثهم، ومنهم من يشتق حلولا شاملة وجذرية للواقع الاستعماري بل ينخرط في نشاط أكاديمي وسياسي، لنشر المعرفة والتأثير، وينحاز للعدالة والحرية.

أما في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد ظهر أكاديميون كثُر، ونشأت مراكز أبحاث، ومنابر شبابية، وثقافية، جديدة وكثيرة، التي تنتج فكرا وأبحاثا تعيد قراءة الصراع وطبيعته، وترده إلى جذوره الاستعمارية الاستيطانية، كنقيض لأيديولوجيا مدرسة أوسلو الهجينة.

ولم تبقَ حتى المراكز البحثية والجامعية الإسرائيلية محصنة أمام هذه الموجة، حيث برز عدد من الأكاديميين اليهود المناهضين للصهيونية والاستعمار، ما دفع حكومة إسرائيل للعمل لمحاصرتهم والتضييق عليهم.

والمدهش أن القيادات السياسية، التي دجّنها اتفاق أوسلو، لا تلقي بالا لهذا الإنتاج الفكري السياسي، رغم الإخفاق المريع لنهجها الهجين، كما أن من تبقى من قيادات و كوادر داخل الفصائل الفلسطينية اليسارية، والأحزاب العربية داخل الخط الأخضر، لا يواكب هذا الحراك الفكري والإنتاج الكاديمي، وغير قادر على إدراك ما يعتمل في الواقع الميداني، ولا في أوساط متزايدة من المثقفين والأكاديميين، المستقلين عن الفصائل والأحزاب، من نزوعٍ واضح نحو مسارات بديلة.

وقد أنتجت مدرسة أوسلو، والانقسام من بعده، بيئة ثقافية وسياسية قمعية، ترهب من يفكر بصورة مختلفة، أو من يدعو إلى إعادة تعريف إسرائيل ككيان استعماري، وفصل عنصري، وليس دولة طبيعية تحتل أرضا خارجية، أو من يدعو إلى التخلي عن أوسلو وحل الدولتين رغم أن مواصلة التمسك به جلب كوارث متواصلة لشعبنا، وأدخلنا في نفق لا تعرف الطبقة السياسية المتنفذة كيف نخرج منه.

ولا يعود غياب المواكبة إلى الفقر الفكري للطبقة السياسية الرسمية، وجمودها الفكري، وتكلس شرايينها، والذوبان في بيئة تدجينية، عمرها أكثر من ثلاثة عقود من المفاوضات العبثية والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، بل لأن إعادة قراءة الوجود الصهيوني في فلسطين التاريخية، يترتب عليه مسؤولية ضخمة، تتمثل في ضرورة استعادة روح وقيم الإرث التاريخي لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، والانعتاق من عملية التضليل والإفساد الكبرى التي هيـئت لها الظروف الدولية المعادية، وتواطئنا معها، ورحنا نعيد إنتاجها، إلى درجة التماهي الذهني معها، فكيف تستطيع قيادة عاجزة ومغلقة، التحرر من ذلك؟

وفي ظلّ هذا الواقع القيادي العاجز، واختزال السياسة، والقضية الوطنية، إلى قضية خدمات وصفقات رخيصة مع المستعمِر، تتأكد الأهمية القصوى لنشر هذه القراءات، من خلال نقلها من الدوائر الأكاديمية والنخبوية، إلى عموم كوادر الفصائل والأحزاب، وإلى الناس عموما، في إطار إعادة صياغة الرواية التاريخية، وبلورة الرؤية التحررية المطلوبة في هذا الظرف الراهن. إن من شأن هذه المهمة أن تفتح الباب لتحرير العقل من حالة التشوه، وتخيّل طريق آخر فعّال نحو الانعتاق والخلاص.

اقرأ/ي أيضًا | همسٌ أمامَ المطر

التعليقات