تتعالى الأصوات في أوساط ذوي المحتجزين الإسرائيليّين في قطاع غزّة، بعد عمليّة اغتيال رئيس المكتب السياسيّ لحماس، إسماعيل هنيّة، والّتي لم تعلن إسرائيل حتّى لحظة كتابة هذه السطور مسؤوليّتها عنها، ويشير معظم تلك الأصوات، إلى أنّ عمليّة الاغتيال قد أقصت فعليًّا احتمال التوصّل إلى صفقة لإطلاق المحتجزين، على الأقلّ في المدى القريب.
انضمّ إلى هذه الأصوات بعض كتّاب مقالات الرأي والعسكريّين السابقين الّذين اعتبروا أنّ اغتيال رأس هرم المفاوضات من جانب حماس هو خطأ استراتيجيّ كبير، على الرغم من الاتّفاق على أهمّيّة الاغتيال من المنظور الأمنيّ، ومن ناحية الرواية والسيطرة على الوعي واستعادة الردع.
وفي الحقيقة إنّ الربط بين اغتيال هنيّة ومصير صفقة المحتجزين منطقيّ إلى حدّ كبير، على الأقلّ في جانب العامل الزمنيّ، فحماس لن تسارع إلى الموافقة على تجديد اتّصالات الصفقة في المرحلة القريبة، على الرغم ممّا قد يبدو أنّه انتكاسة معنويّة وهزّة قد تؤدّي إلى تراجع في أداء القيادة الميدانيّة الّتي تتحكّم بمستقبل المحتجزين، فالتجارب السابقة في سياق الفصائل الفلسطينيّة ومختلف التنظيمات العقائديّة أشارت إلى أنّ الثبات على الرؤية أو العقيدة أعمق بكثير من مجرّد ربط التطوّرات والقرارات بمصير قائد أو مسؤول فيها، إلى جانب أنّ فتح الباب أمام توسيع دائرة التصعيد مع حزب اللّه بعد اغتيال القائد العسكريّ فؤاد شكر وإيران الّتي اغتيل هنيّة على أراضيها، من شأنه أن يزيد خلط الأوراق في كلّ المنطقة؛ وبالتّالي، يؤدّي إلى تراجع تلقائيّ في مسألة الاتّصالات لإتمام صفقة للتبادل وتراجع في كلّ الضغط الشعبيّ والسياسيّ لإعادة المحتجزين، طالما أنّ إسرائيل ستكون مشغولة في تصعيد أوسع أو حرب إقليميّة.
ليس لحماس ما تخسر بعد 300 يوم من الحرب على قطاع غزّة، وهذا ليس من باب الاستخفاف بحجم الدمار المستمرّ، أو بعدد الشهداء المتزايد مع استمرار معارك "المراوحة" الّتي يجريها الجيش الإسرائيليّ في القطاع والغارات والقصف المتواصل على مناطق سبق و"حرثها" في اجتياحاته البرّيّة المتتالية، بل لأنّ نهاية الحرب وإعادة إعمار قطاع غزّة عمومًا، وتبادل الأسرى خصوصًا، لن تكون إلّا من خلال اتّفاق عامّ يتمّ التوصّل إليه عاجلًا أم آجلًا، وتزداد فرص زيادة المؤثّرين في التوصّل إليه كلّما اتّسعت رقعة التصعيد .
أمّا من ناحية إسرائيل، فإنّ عمليّة اغتيال إسماعيل هنيّة في إيران وقبلها بساعات اغتيال فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبيّة، والإعلان الرسميّ عن نجاح اغتيال القائد العامّ لكتائب عزّ الدين القسّام محمّد الضيف، تزامنًا مع تشييع القائدين فهي كلّها دلائل ومؤشّرات على أنّ بنيامين نتنياهو الّذي يتّهم بتغليب اعتباراته الشخصيّة والسياسيّة الداخليّة في هذه الحرب، يحاول تعزيز رؤية أنّ ما يجري هو حرب وجوديّة بالنسبة لإسرائيل، يجب أن تنتهي من خلال القضاء على حماس في الجنوب وردع حزب اللّه شمالًا، عن طريق تدميره كلّيًّا (إن لم يكن الآن ففي حرب مقبلة يكون الجيش قد استعدّ لها) وإبراق رسالة لإيران بأنّ اليد الإسرائيليّة الطويلة يمكنها أن تصل إلى طهران في أيّ وقت، ومن خلال زيادة الاختراقات في صفوف قيادة الجمهوريّة الإسلاميّة، وهي الرؤية الّتي لم تتعامل معها الفصائل الفلسطينيّة أو حزب اللّه في هذه المرحلة، واعتبرت أنّ ما يجري هو جزء من الجولات الأساسيّة في معارك الحسم وإنهاء الاحتلال، تمامًا كما أعلن محمّد الضيف في التسجيل الصوتيّ الّذي بثّ صباح السابع من أكتوبر.
إنّ طبيعة الردّ الّذي ستقوم به إسرائيل بعد الردّ المحتمل من جانب إيران وحزب اللّه وجماعة أنصار اللّه الحوثيّة والفصائل الفلسطينيّة على الاغتيالات الأخيرة، سيحدّد المسار الّذي تتّجه إليه المنطقة في المرحلة المقبلة، فإن قرّرت إسرائيل امتصاصه والعودة إلى قواعد الاشتباك المضبوطة الّتي تطوّرت مع حزب اللّه تحديدًا خلال الأشهر العشرة الأخيرة، فسيكون بالإمكان تجديد الحديث عن اتّصالات لوقف إطلاق النار على قطاع غزّة وتبادل المحتجزين والأسرى، أمّا إن واصلت القيادة الإسرائيليّة سياستها الحاليّة، ووسّعت دائرة الاغتيالات والاستهدافات في مسافات بعيدة، فسنكون بصدد حرب واسعة النطاق ولها تبعات في كلّ دول الإقليم.
في البعد الداخليّ الإسرائيليّ تواصل الحديث خلال الحرب على غزّة عن حالة الانقسام والشرخ المجتمعيّ الّتي تعزّزت وظهرت ملامحها في غير سياق، وربّما تأثّرت فيها مسألة تراجع الإجماع أو التعاطف مع ذوي المحتجزين الإسرائيليّين، ولهذا الأمر أهمّيّة كبيرة وأبعاد استراتيجيّة تخصّ اللحمة الاجتماعيّة وجزءًا من النظريّات الّتي تأسّست مع إنشاء إسرائيل، ومن شأن اختفائها أن يحدث مزيدًا من القلاقل الداخليّة. فحتّى عام 2008 كانت نظريّة ما يعرف بـ"فداء الأسرى" هي الروح الّتي تقود المجتمع والقادة على حدّ سواء في التعامل مع مسألة احتجاز الإسرائيليّين بين جنود ومواطنين، إلى أن قرّرت الحكومة في مرحلة ما دراسة طرق التوفيق بين أهميّة إعادة الأسرى بكلّ ثمن، والحفاظ على "الردع" أمام الجهات الّتي تحتجز أولئك الأسرى، من خلال تشكيل لجنة "شمغار" الّتي استثنت خلاصاتها معايير صفقة إعادة الجنديّ جلعاد شاليط، وما وصلت إليه إسرائيل اليوم في سياق المحتجزين من خلال سياسة رئيس الوزراء الّذي يقول إنّ القوّة كفيلة بإعادتهم، ويضع أولويّة القضاء على حماس قبل أولويّة إعادتهم، قد يمهّد لبداية تغيير جوهريّ يفضّل فداء إسرائيل على فداء الأسرى، وينسف كلّ ما قيل على مدار عقود عن "الروح الإسرائيليّة".
التعليقات