دعونا نتصارح مع أنفسنا / عبد الرحيم ملوح
بعد أيام قليلة سيبدأ الاحتلال الإسرائيلي بإعادة انتشار واسعة في أرضنا المحتلة، ويمكن اعتبارها اكبر وأعمق مرحلة منذ عام 1967 حيث سيقوم بتفكيك مستوطنات قطاع غزة وأربع مستوطنات في محافظة جنين .
وبالرغم من الحجم السكاني الكبير في قطاع غزة الذي سيرفع عن كاهله الاحتلال إلا أن العملية بمجملها تعتبر بداية لجلاء الاحتلال وعن جزء من وطننا أولا، وان وجوده الثقيل العسكري والاستيطاني لا زال قائما بكل تجلياته في الضفة بما فيها القدس وفي محافظة جنين بما فيها المستوطنات التي سيجلو عنها ،حيث صرح شارون شخصيا انه سيتعامل معها باعتبارها منطقة "ب" وليس "أ" ثانيا، وهناك العديد من القيود المطوق بها قطاع غزة لم تحل بعد وفي مقدمتها المطار والميناء ومعبر رفح والممر الأمن ومدى سيطرة وعمق المسؤولية الفلسطينية وحرية التنقل للأشخاص والبضائع والعمالة بعيدا عن تدخل الاحتلال بشكل مباشر اوغير مباشر ثالثا، ومسألة حدود الانسحاب من قطاع غزة، وهل سينسحب من ما يسميه محور "فيلادلفيا" ام لا ،ماذا عن ما يقرب من 80 كم2 وهي مساحة المنطقة شمال القطاع الذي يدور عليها نقاش صامت باعتبارها جزءا من حدود الهدنة لعام 1949ويدعي الاحتلال ان حدود احتلال 1967 لا تشملها رابعا.
وفوق كل هذا، ولا يقل أهمية عن إعادة الانتشار نفسها، هو عملية الربط الوثيق سياسيا وقانونيا وسياديا بين الأرض التي سيتم الجلاء عنها والتي ستعود للسيادة الفلسطينية وبين الضفة الغربية بما فيها القدس والتي ستبقى تحت سيطرة الاحتلال، وحدود تأثير قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة من هذا الوضع المستجد خامسا، وما هي طبيعة وشكل الإدارة الفلسطينية للقطاع بعد الانسحاب وارتباطها بالأوضاع الواقعة تحت الاحتلال في الضفة وغزة سادسا، وأساليب وأشكال النضال الفلسطيني لمتابعة دحر الاحتلال من باقي الأرض الفلسطينية المحتلة ودور قطاع غزة المستقبلي في هذه العملية السياسية الكفاحية الوطنية، وكيف سيتم التعامل مع تهديدات الاحتلال للمناطق التي تم الجلاء عنها سابعا.
هذه الموضوعات – الأسئلة المباشرة وغيرها، تنتصب اليوم أمام كل فلسطيني عامة وأمام قيادة المنظمة والسلطة الوطنية وقيادة القوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية خاصة. وتحتاج للإجابة عنها ووضع استراتيجية عمل سياسية وكفاحية للتعامل معها وما يترتب عنها الى نقاش سياسي وطني معمق من قادة العمل السياسي والاجتماعي الفلسطيني لتوحيد الرؤية السياسية اتجاهها ووسائل وأشكال وأساليب التعامل الميداني الموحد معها وتحشيد الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات ليقف خلف هذه الاستراتيجية واستحضار الدعم العربي والدولي لإسنادها، وإفشال استهدافات مشروع شارون السياسي الأمني وفي مقدمتها مقايضة غزة بالضفة والقدس والدولة المستقلة على كامل الأرض المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس لدولة مؤقتة منقوصة السيادة على القطاع وبعض أجزاء من الضفة بعد التخلص من العبء الديمغرافي للفلسطينيين في قطاع غزة وبعض مدن الضفة الغربية.
ان الحوار الوطني الجاد والمسؤول للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها ولاتخاذ سياسة واحدة للمستقبل وبالحد الأدنى إيجاد آلية للتكامل السياسي عوضا عن التناقض تجاه المسائل الوطنية الأساس وما تفرضه علينا من تحديات مباشرة وغير مباشرة، يجب ان يتقدم على عملية التنافس الفصائلي الميداني الجارية في قطاع غزة، وما يمكن ان توفره من آليات لخلق فتنة داخلية تطيح بما تحقق من إنجازات وفي مقدمتها دحر الاحتلال عن غزة، وتمزيق وحدة القوى والجهود الضروريتين لمتابعة النضال لجلاء الاحتلال بكل أشكال وجوده الاستيطاني والعسكري عن باقي الأرض المحتلة .
ان من يتفحص الوضع الفلسطيني ومدى استعداده الموحد لمجابهة هذه التحديات الجديد منها والقديم يشعر بالقلق، بل القلق الكبير، رغم تطمينات وزراء السلطة الوطنية عن التحضير والاستعداد والحيطة الخ .
ورغم الخطاب السياسي لجميع قادة العمل الوطني عن الوحدة الوطنية وحرمة الدم الفلسطيني، ورغم إدراك غالبية ان لم نقل جميع قادة السلطة الوطنية وفصائل العمل الوطني والإسلامي والاجتماعي لاستحقاقات عملية الانسحاب وما تلقيه عليهم جميعا من مسؤوليات جديدة ووعيهم لاستهداف خطة شارون المتوسطة والبعيدة المدى.
الا أننا نشهد ان حدة التنافس الفئوي بأبعاده السلبية وليس الايجابية ان كان لها أبعاد ايجابية في هذه المرحلة على الأقل، تطل برأسها وتكاد تطغى على متطلبات التصدي الموحد لتحديات المرحلة وما تفرضه من مهام وطنية على الشعب الفلسطيني وقيادته المتمثلة بقواه السياسية والاجتماعية، الأمر الذي ينذر في حال عدم معالجته بمخاطر جمة على الكل الوطني وليس على طرف بعينه .
ان من المفهوم ان تشعر حركة فتح قيادة للمنظمة أولا وللسلطة ثانيا ومن موقع دورها النضالي ووزنها الجماهيري ان من حقها ان تحافظ على موقعها ودورها القيادي المتفرد خاصة بعد ان بدأت تتلمس تحقيق الإنجازات بالانسحاب من غزة، وكونها دفعت عبر مسيرة النضال الطويل اكلافا بشرية وسياسية كبيرة بما فيها اتهامها بمحطات سابقة بالتفريط او التنازل او كليهما ان لم يكن أكثر.
كذلك من المفهوم ان تشعر قيادة حركة حماس بما تمثله من وزن سياسي وجماهيري وما قدمته من تضحيات رغم مشاركتها المتأخرة بالكفاح الوطني الفلسطيني وبعد انطلاقته لأكثر من عقدين من الزمان، بان لها الحق بالمشاركة في القرار السياسي والإداري وفي السلطة ان لم يكن أكثر، والمفهوم ان من حق فصائل العمل الوطني الأخرى بما قدمته من تضحيات جسام طوال مسيرة الكفاح التحرر الوطني وما مثلته وما تمثله من حضور سياسي واجتماعي او ان تكون شريكا فاعلا في القرار والسلطة الوطنية وصنع المستقبل.
ان كل هذا وغيره مفهوم فقوى العمل الوطني السياسي ليست جمعيات خيرية او لجان زكاة بل هي قوى سياسية، صحيح أنها تعمل من اجل تحرير واستقلال الوطن في هذه المرحلة، ولكنها بنفس الوقت تعمل وتطمح لكي تتبوأ دورا سياسيا قياديا في الدولة العتيدة، بعضها يسعى للانفراد به وبعضها الأخر بالشراكة مع الآخرين ومن اجل وضع برامجها السياسية والاجتماعية موضع التنفيذ ان لم يكن كليا فبعضه على الأقل .
لكن ما يغيب عن ذهن البعض ثلاثة أمور هامة هي : أولا ان الاحتلال لا زال جاثما فوق الوطن، وبالتالي لا زلنا في قلب المعركة كما يقال، ولم يحن أوان الاختلاف على اقتسام "الغنيمة السلطة" بعد، وللاحتلال مشاريعه الكبرى في مقدمتها ضم القدس والكتل الاستيطانية وبناء الجدار وتوسيع دوائر الاستيطان ومنع حق العودة والحؤول دون الاستقلال الوطني الناجز… الخ، وثانيا ان عملية بناء ما دمره الاحتلال سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في المناطق التي سيجلو عنها، تتطلب الكثير الكثير من العمل والجهد الموحد لنا جميعا، ثالثا إننا في خضم عملية إعادة بناء نظامنا السياسي الذي يفتقد للكثير من المقومات على أسس ديمقراطية وفق قانون التمثيل النسبي والذي يضمن مبدأ تداول السلطة وعدم إقصاء أي قوة مهما كان دورها وحجمها وسيادة سلطة القانون وضبط الفلتان الأمني، ومنع قيام سلطة جديدة لأمراء الأحياء، ومحاربة الفساد السياسي والإداري.
ان النجاح في التصدي لكل هذه التحديات ولما تفرضه من استحقاقات يملي علينا جميعا كقيادة منظمة وكسلطة وطنية وكقوى سياسية واجتماعية استمرار تقديم الأجندة السياسية الوطنية على ما عداها من اجندات فصائلية او خاصة، والعمل وفق استراتيجية عمل واحدة وفي إطار قيادة عمل وطنية سياسية جماعية تتحمل بشكل موحد ومتضامن أعباء المرحلة والمسؤولية عن قراراتها أمام الشعب والتاريخ، وتصون وحدة الشعب والقضية وتستحضر عوامل الدعم العربي والدولي الضروريتين.
لقد مثل إعلان القاهرة أساسا صالحا للانطلاق والبناء عليه، والمطلوب ملء الفراغات السياسية والعملية التي برزت فيه وبعده والاتفاق على ما طرحته الحياة من قضايا وأسئلة بعد توقيعه.
ونقطة البدء التي حلها إعلان القاهرة هي ان علينا جميعا التصدي لتحديات المرحلة واستحقاقاتها موحدين وبشكل جماعي ومن موقع الشراكة في صنع القرار، وتجسير خلافتنا لصالح سياسة وموقف وممارسة وطنية فلسطينية واحدة موحدة، وبعد الالتزام في هذا يصبح من الطبيعي الاتفاق على أشكال البناء وأساليب العمل وادوار القوى والأطراف ممكنا جدا .
وفي معمعان ما يجري بما في ذلك الجدل الفلسطيني حوله هناك شرعيات يجب الحذر من الإضرار بها هي شرعية وحدة الأرض سياسيا وقانونيا ووحدة الشعب ووحدة القضية، وشرعية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات وبرنامجها الوطني بتقرير مصير والدولة والعودة .
وعلينا الاتعاظ من تجربة العقد الماضي عندما حاول البعض تهميش المنظمة ودورها لحساب السلطة الوطنية، فاضعف المنظمة والسلطة معا، وشرعية حق شعبنا في مقاومة الاحتلال. اما أشكال النضال وأساليبه والتوقيت الزماني والمكاني له، فهذا شأن القرار القيادي الجماعي الموحد، وشرعية وجود سلطة واحدة وقانون واحد وأداة تنفيذية واحدة في المناطق التي سيرحل عنها الاحتلال خاصة، وشرعية انطباق قرارات الشرعية الدولية على كامل الارض الفلسطينية المحتلة باعتبارها وحدة واحدة لا تتجزأ حتى بعد جلاء الاحتلال الجزئي عن قطاع غزة .
ان التحديات والمسؤوليات المنتصبة امام الشعب الفلسطيني وقيادته وقواه كبيرة وكثيرة، ولكن التصدي لها بنجاح ممكن جدا اذا ما تم توحيد القوى والقيادة وفق استراتيجية عمل واحدة ووضعت وفق اجندة اولويات محددة ومتفق عليها.
عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
(من داخل سجن عوفر الإسرائيلي )